سوريا تدفع الآن أثمان الحرب الأهلية اللبنانية
"البعض يخشى أن تكون ديناميكيات الحرب الأهلية في سورية قد أصبحت مُتجذِّرة، إلى درجة أنه حتى لو دعمت روسيا خطة كوفي أنان الجديدة حول المرحلة الانتقالية، فلن يكون لذلك تأثير على الأرض".
هكذا أطلّ الكاتب البريطاني أبيجيل فيلدينغ – سميت (في مقال نشرته الفايننشال تايمز اللندنية يوم 30 يونيو 2012) على الوضع السوري عشية عقد اجتماع “المجموعة الدولية حول سوريا” في جنيف في سياق المساعي الجارية للبحث عن حل خارجي دولي ما للأزمة الداخلية السورية.
نهاية سباق
الكاتب يبدو على حق: إذ يبدو أن السباق بين الحرب الأهلية السورية وبين الحل الدولي انتهى لصالح الأولى التي أصبح لها اليد العليا الآن، بقرار مشترك من النظام والمعارضة معا. إذ أن الرئيس بشار الأسد أبلغ التلفزيون الإيراني قبل يومين أنه لن يقبل حلاً خارجياً “حتى لو أتى من دول صديقة”. وهذا يعني، في الظروف الراهنة، مواصلة الحرب حتى الرمق الأخير. والمعارضة قالت ~نها لن تقبل بأي حل دولي يتضمن شراكة مع الاسد وفريق عمله في أي مرحلة انتقالية. وهذا يعني، في الظروف الراهنة أيضا، مواصلة الثورة المسلحة حتى تغيير موازين القوى العسكرية والسياسية الحالية بالقوة حتى الثمالة.
هذه الحالة الإستقطابية الحادة بين النظام والمعارضة، تجعل الحرب الأهلية هي “الحل” الوحيد لحسم الأمور أو إيصالها إلى خواتيم ما. أو هذا على الأقل ماتشي به كل تجارب الحروب الأهلية بلا استثناء تقريباً في العالم: فحين يُغلق باب الحوار وتُسد آفاق الحل السياسي، لايبقى سوى تفجير المجتمع عبر العنف من داخله لاستيلاد واقع جديد. إنه “التدمير الخلاّق”.
ماذا فعل حافظ؟
لكن، كيف ولماذا وصلت الأمور إلى هذه الهاوية في سورية؟
السؤال يبدو مهماً من زاوية تاريخية محددة: فسورية، وعلى عكس توأمها الصغير لبنان، ليس لها ماضٍ من الحروب الأهلية الطائفية. صحيح أنها كانت تشهد أحياناً اضطرابات (كما في القرن التساع عشر) و”صراعات باردة” بين مكوناتها المذهبية والأثنية، لكن هذه لم تتطور يوماً إلى حرب أهلية مكتملة النمو، ولم تَسُد فيها ثقافة العنف العاري بين هذه المكونات. فلماذا، إذاً، نرى الآن ما نرى من انجراف نحو هذا الأتون الأهلي؟
الغوص قليلاً في التاريخ الحديث قد يكون مفيدا.. فحين اندلعت الحرب الأهلية الدموية في لبنان العام 1975، حذَّر الكثيرون الرئيس الراحل حافظ الأسد من أنه مالم يتم العمل على وقف هذه الحرب بشتى الوسائل، سيتمد لهيبها إن آجلاً أو عاجلاً إلى الوطن السوري. لكن الأسد الأب ببراغماتيته المتطرفة وتحييده التام للمباديء القومية العربية والقيم الأخلاقية عن العمل السياسي، لم ير في الحرب الأهلية اللبنانية خطراً داهماً بل فرصة مزدوجة: من جهة، إحكام السيطرة على لبنان وبناء امبراطورية إقليمية على رفاته( بالتنسيق مع إسرائيل، كما أثبتت اتفاقية “الخطوط الحمر” الشهيرة معها العام 1976 والتي سمحت لقواته بدخول لبنان)، ومن جهة أخرى بناء استقرار سورية على لا استقرار لبنان، عبر تخويف الشعب السوري بالصوت والصورة من الكارثة اللبنانية الماثلة لثنيه عن معارضة سياساته.
وهكذا انغمس الرئيس السوري حتى أذنيه في تأجيج الصراع الأهلي اللبناني، تماماً على عكس مافعل الرئيس جمال عبد الناصر إبان حكمه لسورية، حين قرر وقف الثورة اللبنانية التي اندلعت العام 1958 لصالح جمهوريته العربية المتحدة، لأن هذه الثورة ارتدت آنذاك ثوباً طائفيا. آنذاك رفع ناصر شعاره الشهير “الوحدة الوطنية اللبنانية أهم من الوحدة العربية”.
الأسد فعل العكس، فسلّح تارة المسلمين وتارة المسيحيين، وحارب الحركة الوطنية العلمانية العابرة للطوائف، وحوّل المقاومة الوطنية اللبنانية لإسرائيل إلى مقاومة مذهبية شيعية، ومنح أجهزة مخابراته صلاحية مطلقة كي تعيث فساداً في لبنان على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالطبع المبدئية. ولم يُنه الأسد الأب نشاطه التدميري في لبنان، إلا بعد أن سيطر بالكامل على هذا البلد العام 1989 ومجدداً بضوء أخضر إسرائيلي- أميركي.
هذا التوظيف “الاستراتيجي” للحرب الأهلية اللبنانية، حقق للأسد الأب استقراراً مديداً في السلطة ومكّنه في الوقت نفسه من تحويل سورية برمتها إلى ثكنة أمنية- استخبارية. المقايضة هنا مع المجتمع السوري كانت واضحة: أمنكم مقابل استبدادنا. بيد أن الرئيس الأب نسي أمراً مهما في هذه المعمعة الدموية: الحروب الأهلية ليست معارك كر وفر عسكرية، بل هي في الدرجة الأولى ثقافة، وسايكولوجيا انفعالات، وتكريس انتماءات ما دون وطنية وما دون قومية (في العالم الثالث). وهكذا، في حين أن الشعب السوري كان يخشى بالفعل انتقال لهيب الحرب الاهلية اللبنانية إلى داره، كانت فئاته المُنوّعة تعيش في الوقت نفسه هذه الحرب على مستويات الهويات القاتلة (بالإذن من أمين معلوف) والثقافة والسايكولوجيا. النار اللبنانية لم تشتعل حينذاك في سورية، لكنها بقيت تحت الرماد تنتظر الفرصة المناسبة.
صحيح أن عملية ضرب كل ماهو وطني وقومي ويساري في لبنان، وإقامة التحالفات المذهبية التي تكرّست لاحقاً في الحلف السوري- الإيراني الشهير، لم تنبع من “علوية” الرئيس حافظ الأسد بل من براغماتيته المطلقة. لكن الحصيلة كانت واحدة: ضرب كل ماهو وطني ويساري في سورية وتمهيد الطريق، بالتالي، أمام انفلات الهويات الطائفية القاتلة، وسقوط البدائل القومية العربية التي وصل على أساسها حزب البعث إلى السلطة في دمشق العام 1963.
عنب وحصرم
ختاما، ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أن سورية تدفع نقداً حالياً أثمان سياسات الرئيس الأسد الأب البراغماتية، التي كان واضحاً من البداية لكل من يريد أن يرَ أنّ لها وجهين كوجهي الأله جانوس: أحدهما مبتسم وهو يدل على النجاجات الآنية للسياسات اللاأخلاقية، والثاني عابس ويعكس الكوارث المطبقة متوسطة وبعيدة المدى لمثل هذه التوجهات.
سورية تعيش الآن الحرب الأهلية اللبنانية بكل تفاصيلها. إنه الإستحقاق المؤجل الذي خلق في سورية ثقافة حرب أهلية ساخنة لم تكن تعرفها في تاريخها.
لكن، وكما كل شيء في الفيزياء والطبيعة، ثمة دوماً بدايات لأي شيء. والبداية كانت مع الرئيس حافظ الأسد الذي أكل الحصرم الذي يضْرس منه الأن ابنه الرئيس بشار.
جنيف (رويترز) – قال متحدث باسم الوسيط الدولي كوفي عنان إن اتفاقا وزاريا حول سوريا توسط فيه عنان يوم السبت 30 يونيو 2012 يمثل تحولا في موقف كل من الصين وروسيا.
واستخدم البلدان مرارا حق النقض (الفيتو) ضد مساع قامت بها دول غربية وعربية في الأمم المتحدة لعزل الرئيس السوري بشار الأسد وتنحيته في نهاية الأمر بهدف إنهاء الصراع والبدء في التحول الديمقراطي.
وقال أحمد فوزي المتحدث باسم عنان في إفادة صحفية “سيكون طريقا طويلا ووعرا لكننا نعتقد بالفعل أن الالتزامات التي تم قطعها في جنيف يوم السبت صادقة وإذا نفذت على النحو الذي قطعت به.. إذا نفذت على النحو الذي قطعت به.. فستؤثر على ما يحدث على أرض الواقع.”
ومضى يقول “لا تنسوا أن الكثير من القوى وحدت صفها هنا يوم السبت… لا تقللوا من شأن درجة تحول حدثت هنا يوم السبت -خاصة في الموقفين الروسي والصيني- لقبول مبدأ تغيير سياسة ما”.
وتعهدت قوى عالمية ودول مجاورة لسوريا بدعم أي حكومة انتقالية تشكل في سوريا لكن عنان لم يتمكن من سد الفجوة بين الغرب وروسيا -التي تؤيد الصين موقفها- حول ما إذا كان هذا يعني ضرورة رحيل الأسد.
وقال فوزي إن الصين وروسيا أيدتا بقوة الاتفاق الذي تعهد فيه الوزراء بممارسة “ضغط مشترك ومتواصل” على الحكومة والمعارضة في سوريا. وأضاف أن عددا من زعماء المعارضة سيتوجهون إلى موسكو “قريبا جدا جدا” دون أن يذكر تفاصيل.
ومضى قائلا “لا تقللوا من شأن وجود اتفاق مبدئي على تحول في الموقف السياسي.”
وأيدت أيضا قطر وتركيا والعراق والكويت الاتفاق خلال المحادثات وتعهدت باستخدام نفوذها للمساعدة على إنهاء الصراع المستمر منذ 16 شهرا.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 3 يوليو 2012)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.