عملية إيمرالي “بين الدولة التركية وأوجالان”..
فاجأ حزب العدالة والتنمية الرأي العام بمبادرة لحل المشكلة الكردية في تركيا حيث كشفت الحكومة التركية قبل أسبوعين عن مفاوضات مباشرة أجراها شخصيا رئيس الإستخبارات التركية حاقان فيدان مع عبدالله أوجالان، زعيم حزب العمال الكردستاني المُعتقَـل في جزيرة ايمرالي، في بحر مرمرة منذ عام 1999.
أوساط الحكومة وصفت المفاوضات، التي استمرت على مدى يومين، بأنها استمرار لـ “عملية أوسلو” التي كانت بدأت في عام 2009 وما لبثت أن انهارت في عام 2011. وكانت عملية اوسلو ” كانت عِبَارة عن مفاوضات متقطِّعة”، بين مسؤول حزب العمال الكردستاني في أوروبا زبير آيدار وفيدان، أجريت في أوسلو عاصمة النرويج.
المبادرة الجديدة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، أو ما أطْـلِق عليها “عملية إيمرالي”، جاءت وِفقا لتقديره أن اوجالان لا يزال الرّجل الممسك بحركة حزب العمال الكردستاني، وأنه إذا ما تمّ التّوافق معه، فبالإمكان إقناع الآخرين بما يتِم التوصل إليه. أما “الآخرون” هنا، فهُم أكثر من جهة معنِية مُباشَرة وذات حيْثية معيّنة وتأثير.
الجهة الأولى، هي حزب السلام والديمقراطية الكردي ومَن حوله من نواب أكراد مستقلِّين، وجميعهم ممثلون في البرلمان بأكثر من ثلاثين نائبا. وميزة هؤلاء، أنهم جزء من أيّ عملية تصويت في البرلمان، كما أنهم يملِكون حرية الحركة على الأرض في المناطق الكردية، ولهم امتداداتهم في البلديات والمجتمع المدني. لذلك، وافق هؤلاء على أن يذهب منهم النائب أحمد تورك والنائبة آيلا آتا، والتَقيا فِعلا اوجالان في سجنه مُطوّلا وخرجا متفائليْن، من حيث المبدأ.
الجهة الثانية في هذا السياق، هي قيادة حزب العمال الكردستاني المُتواجدة في جبال قنديل في شمال العراق، والتي تُـدير العمليات العسكرية للحزب داخل تركيا. وليس واضحا حتى الآن، كيفية إشراكها في العملية الجارية، رغم أن الحكومة تفترض أن لدى أوجالان الحلّ والرّبط.
ما هو قِوام المبادرة المطروحة؟
أولا، ليس هناك مُبادرة بالمعنى الكامل للكلمة. هناك مجموعة أفكار وعناوين تحتاج من خلال المفاوضات إلى بَـلْورتها، وفي ضوئها يُمكن المبادرة إلى ترجمتها على أرض الواقع. والدليل على ذلك، وجود رأي في حزب العدالة والتنمية يقول إن المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني، يجب أن تُشبِه تلك التي قامت بين الحكومة البريطانية والجيش الإيرلندي الحُر، أي تعويد الرأي العام على مفاوضات طويلة المدى قد تمتدّ لسنوات، لكن مع إبقائها مفتوحة على الحلّ في أي لحظة، لكي يمكن تقبّلها من كل الأطراف، خصوصا أن قسْما مُهِما من الرأي العام التركي، ينظر إلى حزب العمّال الكردستاني على أنه منظمة إجرامية تلطَّخت يداها بدَم ثلاثين ألاف مُواطن تركي وكُردي على مدى ثلاثين عاما.
الطرح الرئيسي لخُطّة الحكومة التركية، أن يبادر حزب العمال الكردستاني إلى نبْذ العُنف وترْك السِّلاح ومغادرة مقاتليه الى خارج تركيا، ولاسيما إلى سوريا وإيران، حيث أن نسبة مهمّة من مقاتليه من تابعية هاتيْن الدولتين. وفي مقابل ذلك، تلتزم الحكومة بتمرير مجموعة من المطالب الكردية، منها إصدار عفو عام لاحق عن الآلاف من المُعتقَلين المتّهمين بدعم حزب العمال الكردستاني والإعتراف في مشروع الدستور الجديد، وبصيغة مقبولة من الأكراد بالهوية الكردية، كمُكوّن مؤسّس في تركيا، والسَّماح بالتعليم باللغة الأم في المدارس الكردية وتوسيع صلاحيات المجالس المحلية في المناطق الكردية، بحيث تُقارب الحُكم الذَّاتي. وتبقى نقطة أخيرة، وهي وضع أوجالان حيْث يُمكن أن يتِم التدرج في وضعه من السِّجن المنفرد الى الإقامة الجبرية في منزل، وصولا إلى إطلاق سراحه.
ذكرت وسائل الإعلام التركية يوم الأربعاء 9 يناير 2013، أن السلطات التركية وزعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله اوجلان، اتفقا في مفاوضاتهما الأخيرة على مبدإ وقفٍ للقتال المُستمر منذ 1984 بين الجانبين.
وقالت محطة التلفزيون “ان تي في” وصحيفة راديكال، بدون ان تكشفا مصادرهما، إن الاتفاق الذي يتضمن عدّة مراحل يقضي بتعليق هجمات حزب العمال الكردستاني المحظور، اعتبارا من مارس المقبل، مقابل إصلاح في الدولة التركية، يهدِف الى زيادة حقوق الأقلية الكردية.
وتجري الاستخبارات التركية بتكليف من رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان منذ نهاية 2012، مفاوضات مباشرة مع اوجلان، الذي يمضي منذ 1999 عقوبة بالسجن مدى الحياة في جزيرة ايمرالي (شمال غرب تركيا).
ويقضي الاتفاق الذي كشفه “ان تي في” و”راديكال”، بأن يغادر متمردو حزب العمال الكردستاني الأراضي التركية إلى العراق بعد تعليق عملياتهم العسكرية، قبل وقف القتال رسميا، اذا حققت المفاوضات تقدّما كافيا. وفي الوقت نفسه، تقوم الحكومة التركية بالإفراج تدريجيا عن مئات الناشطين الأكراد المتهمين بالتواطُـؤ مع حزب العمال الكردستاني، وتبدأ سلسلة إصلاحات تعترف خصوصا بالهوية الكردية.
وأوضحت الصحيفة والمحطة التلفزيونية أن عبد الله اوجلان يمكن أن يوضِّح نواياه ورؤيته لحل النزاع الكردي في رسائل علنية، يوجِّهها الى الرأي العام التركي وإلى مؤيِّديه. وتعذّر الحصول على تأكيد رسمي لمشروع الاتفاق هذا من السلطات التركية.
وفي النيجر، التي يزورها يوم الأربعاء 9 يناير في إطار جولة إفريقية، حضّ اردوغان من جهته متمرِّدي حزب العمال الكردستاني على مغادرة الأراضي التركية. ونقلت شبكات التلفزة التركية عن اردوغان قوله “سبق أن قلنا وكرّرنا القول: على مسؤولي المنظمة الانفصالية (حزب العمال الكردستاني) مغادرة تركيا، وكيف؟ من خلال تسليم اسلحتهم”.
كما رفض أحمد ترك، النائب عن حزب السلام والديمقراطية، الحركة الكردية الرئيسية المُصرَّح بها في تركيا، الإدلاء بأي تعليق على هذه المعلومات مساء الثلاثاء 8 يناير، ردّا على سؤال لشبكة تلفزيونية تركية. والتقى ترك الأسبوع الماضي اوجلان في سجنه، في سابقة منذ اعتقاله في 1999. وكانت الحكومة التركية حاولت في 2009 فتح حوار مع قادة حزب العمال الكردستاني، انتهى بالفشل وأدّى إلى تكثُّف المعارك.
وأسفر النزاع الكردي في تركيا عن مقتل أكثر من 45 ألف شخص منذ أن بدأ حزب العمال الكردستاني تمرّده في 1984. وطالب المتمرِّدون في البداية باستقلال جنوب شرق الاناضول، ثم طوّروا مطالبهم الى حُكم ذاتي إقليمي.
وعزّزت الحكومة الإسلامية المحافظة بقيادة حزب العدالة والتنمية بشكل كبير، حقوق الأقلية الكردية التي تشكّل بين 15 و20% من السكان، البالغ عددهم نحو 75 مليون نسمة في تركيا.
وعرض اردوغان في عطلة نهاية الأسبوع “الخطوط الحُمر” لحكومته في المفاوضات الجارية، مُستبعِدا الإفراج عن اوجلان أو وضعه في الإقامة الجبرية، وكذلك عفوا عاما عن المتمرِّدين الاكراد.
(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ.ف.ب. بتاريخ 9 يناير 2013)
مخاطبة جديدة للحكومة
تلاقي هذه الأفكار استحسانا لدى حزب السلام والديمقراطية، الذي رأى نُوابه أنها تعكس لغة مُخاطَبة جديدة من جانب الحكومة. فيما نقل تورك وآيلا عن اوجالان، أن الحكومة جِدية في مفاوضاتها الجديدة معه.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تسعى فيها حكومة تركية لمعالجة الجرح الكردي النّازف والمُزمن، ولكن معالجات الحكومة في كل مرّة، وعلى امتداد العقود الماضية، كانت تنظر إلى حزب العمال الكردستاني دائما على أنه منظّمة إرهابية وتقدّم المُعالجة الأمنية على الثقافية والسياسية.
وفي الواقع، لم تلامس المعالجات السابقة مسألة الهُـوية لدى الأكراد، التي تُعتبر حجَـر الزاوية في المطالب الكردية، خصوصا بعدما رأوا أن قسْما آخر من كردستان، الموجود في شمال العراق، قد نال ليس فقط حُكما ذاتيا، بل بما يتجاوُزه إلى فدرالية أقرب إلى دولة مستقلة. لا يعني ذلك أن الحكومة التركية الحالية تفرش الورود للمطالِب الكردية، إذ أن العِبرة ليست في النوايا والعناوين العامة، بل في التفاصيل المهمّة، حيث “يختبئ الشيطان” كما يُقال في الوفاء بوعود التعديلات الدستورية.
يمكن في هذا السياق ايراد الملاحظات التالية:
1. أن إحدى التعقيدات أمام المبادرة الجديدة تتمثل في أن الأطراف المعنية بالحلّ، ليسوا اثنين فقط، أي الدولة التركية وعبدالله اوجالان، بل يوجد من الجانب الكُردي حزب السلام والديمقراطية والقيادة العسكرية في جبال قنديل، ومن الجانب التركي أحزاب المعارضة، أي أن الحلّ ليس بالبساطة المفترضة.
وقد بادر القائد العسكري الكردي الأبرز مراد قره يلان إلى القول بأن الحزب لن يترُك السلاح ضمانته الوحيدة. كما أن اغتيال ثلاث قياديات كرديات في باريس (يوم 10 يناير 2013)، يشير إلى أن مُعرْقلي الحلّ من الجانب التركي، لن يقِفوا مكتُـوفي الأيْدي. وقد انْـزعج الأكراد من تصريح اردوغان بأن مقتل الكرديات “قد يكون عملية تصفِية حسابات داخل حزب العمال الكردستاني”، واتَّهموه بالتغطِية على القتلة.
2. أن استعداد الحكومة لتلبية تطلّعات كردية مُزمنة سوف يكون موضِع حذَر من جانب الأكراد وتساؤلات، إذ أن رجب طيب اردوغان، طالما عبّر في السنتيْن الأخيرتين عن مواقف سلبية جدا، من قبيل أنه لا توجد مُشكلة كردية في تركيا، بل مشكلة مواطنين من أصل كُردي. ولطالما ردّد في الأسابيع الأخيرة، وآخرها قبل بدء المفاوضات بأيام قليلة، أن نواب حزب السلام والديمقراطية أنفُسهم، ليسوا سوى حفنة من الَّذين ارتَـضوا الإلتحاق بالمنظمة الإرهابية، وهم شركاء معها في إراقة دَم الأتراك. وقد طالب برفع الحَصانة النيابية عن نواب الحزب. فكيف يُمكن لأردوغان أن يُقارب الآن المشكلة من زاوية مغايرة بالكامل وبسرعة لا تتعدّى الأسبوع؟
خطة أوردوغان
هذا “التحوّل” في موقِف أردوغان والحكومة، طرح تساؤلات وسيناريوهات متعدّدة حول دوافِع خُطوة الحكومة التركية الجديدة.
من المعلوم أن أردوغان يريد أن يُمرِّر مشروع الدستور الجديد أو على الأقل بعض التّعديلات الدستورية من خلال البرلمان، وليس عن طريق استفتاء شعبي، وهو يحتاج إلى النواب الأكراد فقط لينجح التّعديل في البرلمان، من دون دعم أي من أحزاب المعارضة. والنقطة الأساسية لخطّة اردوغان في التعديلات الدستورية، هي أن يُضمّنها انتِقال الصِّيغة السياسية في تركيا، من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، يضمن تولِّيه رئاسة الجمهورية في عام 2014 بصلاحيات مُطلَقة، وهو ما تُعارضه أحزاب المعارضة الأخرى، أي أن تلبية بعض المطالب الكردية، سيكون أشبه بـ “الرّشوة” للنواب الأكراد، مقابل النظام الرئاسي وفي تصويت داخل البرلمان.
من جهة أخرى، تمُـر تركيا منذ بدء الأزمة السورية في مخاض صعب، من جرّاء التأثيرات السلبية لهذه الأزمة على الواقع التركي، من تصاعُـد عمليات حزب العمال الكردستاني إلى ظهور واقع كُردي في شمال سوريا. وتسعى تركيا إلى تدارُك لمُضاعفات مستقبلية عبْر التوصّل إلى تفاهمات في الحدّ الأدنى مع الأكراد، تجعل تركيا بمنأىً عن أي تداعِيات أكثر خطورة للوضْع على تركيا.
لكن البعض يرى أيضا أن أنقرة لا تريد من المفاوضات مع أوجالان، سوى تخدير الأكراد عبْر كسْب الوقت وتقطيعه في مفاوضات عقيمة، لن تنتج أي حل جدّي في انتظار انتِهاء الأزمة السورية، لكنها تكون ربحت وقفا، ولو مؤقتا، للعمليات العسكرية الكردية وتُبعِدها عن أن تكون تحت الضغط العسكري في المرحلة المقبلة.
الواضح أن أنقرة تريد، في إطار تعزيز موقفها في الصِّراع الإقليمي، أن تسحب البِساط من تحت أقدام إيران وسوريا، الدّاعمتيْن الأساسيتيْن، بنظر أنقرة، لحزب العمال الكردستاني، ووقْف تلاعُـبهما بأكراد تركيا عبْر تلبِية بعض المطالِب الكردية، مقابل وقف العُنف وترْك السلاح.
إضافة إلى ذلك، يتوقّف المرء مَلِيا عند التحالُـف المُستجدّ بين أنقرة ومسعود البرزاني، رئيس إقليم كردستان العراق. ويضع غالبية المراقبين ذلك في إطار تقاطُع المصالح في إضعاف حكومة نوري المالكي: الأكراد، للتقدّم أكثر نحو الدولة المستقِلة، والأتراك لمزيدٍ من إضعاف حكومة المالكي، التي يعتبرونها أحد مصادر بقاء النظام السوري، وبالتالي، فإن إسقاط النظام في سوريا، يمُـر (حسب تصورهم) عبْر إسقاط المالكي. ويُعوّل الأتراك كثيرا على دوْر ضاغِط للبرزاني، لإقناع حزب العمّال الكردستاني بترْك السلاح، مقابل تسهيل تزعيم البرزاني على أكراد المنطقة، ولاسيما بعد التطوّرات التي حدثت في سوريا وسيْطرة حزب الديمقراطية الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، على المناطق الكردية في سوريا.
إلى ماذا تهدف المبادرة؟
لا يستبعِـد البعض في تركيا أن تكون مبادرة الحلّ للمشكلة الكردية في تركيا، تهدِف إلى تعطيل حزب العمّال الكردستاني عن أن يكون مُعرقِلا أو فاعلا في المرحلة المقبلة، التي قد تشهد إعادة رسم خرائط من جانب واشنطن، انطلاقا من تداعِيات الأزمة السورية وما يجري الآن في العراق من حِراكات ذات طابع انفِصالي في المناطق السُنّية.
لقد مضى على المشكلة الكردية في تركيا أكثر من ثمانين عاما، ولم تُبرهِن الحكومات التركية المُتعاقَبة، بكل أطيافها العِلمانية أو العسكرية أو الإسلامية، أنها تملك النِية الحَسنة أو الجِدية في مُقاربة عصرية لحلِّها، وأساسها الإعتراف بالهوية الكردية وما يتطلَّـبه من مترتبات، لذلك، فإن الشكوك التي تحيط بنجاح العملية الجديدة للحل، والتي أطلق عليها “عملية ايمرالي”، تستند إلى أسباب تاريخية حقيقية.
كذلك، فإن التعقيدات الإقليمية والدولية التي تُحيط بالمسألة الكردية في تركيا، والتي أخرجت حلّها من أن يكون داخليا فقط، لا تفرد حيِّزا كبيرا للتفاؤل. مع ذلك، فإن أحدا لا يتمنى استمرار النّزف، لا في تركيا ولا في خارجها، ويأمل كثيرون في أن تكون “عملية ايمرالي” هذه المرة مُخالفة لكل التوقعات وتلبِّي المطالِب الكردية، وبالتالي، تعزز الإستقرار في تركيا والمنطقة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.