فلسطينيون يعتبرون أن الربيع العربي “أعطى دفعا” لقضيتهم
مع تركيز الأضواء الإعلامية في العالم العربي وخارجه على تداعيات الثورات التي هزّت عددا من بلدانه طيلة السنوات الثلاث الأخيرة، بدا أن القضية الفلسطينية كانت الخاسر الأكبر في جردة حساب "الربيع العربي". فقد ضاعت أخبار الإستيطان المُنفلت من كل قيْد أو قانون والإنتهاكات الإسرائيلية لما تبقّى من الأراضي الفلسطينية وأعمال المقاومة، لتُحال على الصفحات الداخلية للصحف أو في أواخر النشرات الإذاعية والتليفزيونية. فهل "جنى" الربيع على المقاومة فأربكها وعلى القضية الفلسطينية فهمّشها وأخفَتَ صوتها؟
كثير من المعلِّقين العرب والأجانب قرأوا الأمر على هذا النحو، غير أن الفلسطينيين على تباعد منطلقاتهم، خالفوا هذه الرؤية تماما واتّفقوا على أن الربيع العربي أعطى دفعا لقضيتهم، مُستدلين بالقرار الذي أيدته 165 دولة أعضاء في الأمم المتحدة، والقاضي بمنح فلسطين مقعد “عضو مراقب” في المنظمة الأممية.
وفي ندوة شبيهة بالمناظرة بين قيادي بارز في حركة “حماس” وآخر من حركة “فتح”، احتضنها “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في شهر ديسمبر 2013 في الدوحة، بحضور حشد من الأكاديميين والسياسيين الفلسطينيين، تحت عنوان “القضية الفلسطينية ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني”، اختلف الإثنان في أمور كثيرة إلا أنهما اتفقا على الموقِف من الربيع العربي.
المتحدِّثان الأوّلان في الندوة كانا أسامة حمدان، مسؤول العلاقات الخارجية في حركة “حماس”، والدكتور صائب عريقات، كبير المفاوضين ورئيس دائرة المفاوضات في السلطة الفلسطينية. ومع أن الموضوع المطروح لم يكن الربيع العربي، لكن المتحدثيْن لم يستطيعا القفْز على المشهد المتحوّل في العالم العربي.
فقد رأى حمدان أن “المنطقة تُبصر صِراعا لم يُحسم بعدُ، ولا يستطيع أحد أن يتوقّع خسارة الشعوب في صِراعها مع الأنظمة الحاكمة في مسيرة المطالبة بالحرية، خاصة أن تلك الشعوب لا تزال صامدة وتحقّق إنجازات على أرض الواقع. المشهد لم ينته بعدُ، رغم بعض الإنتكاسات”.
انهارت المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية السابقة سنة 2010 (قبل اندلاع الربيع العربي)، بسبب رفض الحكومة العِبرية وقف بناء المستوطنات في الضفة والقدس، والتي اعتبرها كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات تغييرا للواقع وفرضا لحقائق على الأرض. ويتكرّر السيناريو هذه الأيام، فبعد الإفراج عن الأسرى القُـدامى، كشفت تقارير إسرائيلية أن الحكومة ستُنشئ 1400 وحدة سكنية في مستوطنات الضفّة والقدس الشرقية (التي يُخطط الفلسطينيون لجعلها عاصمة لدولتهم الموعودة).
هذه التوجهات تُعزّز موقِف عضو الوفد الفلسطيني المفاوض الدكتور محمد اشتية، الذي استقال أخيرا، مُشيرا إلى أن “الإئتلاف (الحاكم في إسرائيل) يتبنّى المشاريع الاستيطانية ويُشرف عليها، بل ويتابعها أيضاً (…) فكيف يمكن لنا أن نتفاوَض مع مثل هذه الحكومة؟”.
وعلى هذا الأساس، اعتبر اشتية، وهو عضو في اللجنة المركزية لحركة “فتح”، أنه “لا يوجد هناك شريك إسرائيلي في عملية التسوية من الأساس”، وأردف أن الإسرائيليين “معنيون فقط باستمرار الأمر الواقع، أي أن يظل قِطاع غزّة معزولا جغرافيا عن الضفة الغربية، وتبقى القدس مضمومة لإسرائيل”.
مشروع المقاومة
على هذا الأساس، أقام حمدان رؤيته (واستطرادا رؤية “حماس”) لمستقبل القضية الفلسطينية، مُعتبرا أنه “آن الأوان لإطلاق مشروع المقاومة. فالمشهد الراهن للمنطقة، يُنبئ بصعود تيارات معادِية للكيان الصهيوني”، مؤكِّدا أن “المقاومة لن تعاني يوما من أزمة في الفكرة أو تقبّل الشعب لها، بل عانت في كل مراحلها من إرباك سياسي داخلي وإشكال خارجي”.
ومع أن منظمة التحرير تفادت دوما مواجهة الأنظمة العربية وحرصت على مجاراتها على حساب الحركات الشعبية، فإن حمدان قال: “إن الشعب الفلسطيني الذي يكافح ضد المحتل منذ ما يقارب القرن، لا يستطيع أن يقف في وجه إرادة الشعوب العربية ورغبتها في التحرر، بل إنه يساندها”.
ولم يكن صائب عريقات، القيادي في حركة “فتح” وكبير المفاوضين الفلسطينيين بعيدا عن هذا الطرح لتداعيات الربيع العربي على القضية الفلسطينية، لا بل ذهب إلى أبعد من حمدان مُعتبرا أن “الفلسطينيين لم يكونوا أقرب إلى إعادة فلسطين، أكثر مما هم الآن”، مُستدِلا بالدّعم “الكبير” الذي لاقته في الأمم المتحدة لدى الحصول على صفة مراقب في المنظمة الدولية، “نتيجة إصرار شعب عظيم لم يقبل أن يمحو التاريخ والزّمن قضيته”.
من جهة أخرى، قلل عريقات من صحة الآراء القائلة بأن الربيع العربي همّش القضية الفلسطينية، مُشددا على أن هذه القضية “كانت وما زالت قضية العرب الأولى ونقطة ارتكازهم ولا يمكن أن تبقى القضية من دون العرب”. واعتبر أن ما يشهده العالم العربي اليوم “ليس سابقة في العالم، فقد حدثت ثورات في أوروبا ظلّت بعدها تسعين عاما حتى استقرّت أوضاعها”.
وفي هذا السياق، رأى حمدان أن “الشعب الفلسطيني انتفض بعدما ظنّ الكيان الصهيوني أنه يمكن أن يفرض عليه شروطه. فقد استعاد زِمام المبادرة من جديد عقِب حرب 2012، واختار بالفعل خيار المقاومة الذي أثبت أنه خِيار عَملي وواقعي، في ظل ما تشهده المنطقة من تحوّلات”.
وأوضح حمدان أن المقاومة (يقصد “حماس” وحلفاءها)، لديها برنامج استراتيجي “على رأسه إنهاء مسألة المصالحة الوطنية الفلسطينية التي طال انتظارها، وهي أهم خطوة على الصعيد الفلسطيني الوطني الذي لن تتحقّق أهدافه إلا بالإتحاد”، على حد قوله.
أكد مسؤولون فلسطينيون لـ swissinfo.ch أن المساعد الأول لوزير الخارجية الأمريكي مارتن إنديك (سفير سابق لدى إسرائيل) ظل يتحرّك بشكل مكثّف خلف الكواليس، لعقد سلسلة من اللقاءات مع الفلسطينيين والإسرائيليين، تمهيدا لجولات الحوار الرسمية.
نفس المصادر أفادت أن أعضاء من فريق إنديك عقدوا جلسات موازية مع مسؤولين عسكريين وأمنيين من الطرفين، تركزت على بحث الترتيبات الأمنية في حال توصّل المفاوضون إلى “اتفاق إطاري” كما يأمل الأمريكيون.
عزام الأحمد في “حماس”؟
كان لافتا أن كلام حمدان لاقى هوى لدى قيادات فتحوية بارزة كانت حاضرة في الندوة، من بينها عزام الأحمد، رئيس كتلة الحركة في المجلس التشريعي وعضو لجنتها المركزية، الذي أكد أنه يتفق مع 90% مما قاله حمدان، إلا أنه أبدى ملاحظات، أبرزها أنه يجب عدم الفصل بين المقاومة في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، مُعتبرا أن ذلك هو ما ورّط الفلسطينيين في الإنقسام.
وقد عقّب عليه حمدان مازِحا ومُداعِبا “إذا كنت موافقا على 90% مما قلتُه، فيمكن أن نقبلك عضوا في “حماس”. ومضى شارحا أن مقاومة الشعب الفلسطيني “لا تقتصر على فصيل أو آخر”، مشيرا إلى أن “وثيقة الوِفاق الوطني شكّلت أرضية للتوافق والمصالحة اللذين تحلم جميع الفصائل بالوصول إليهما”. وتنبّأ حمدان بحراك في قطاع غزة وسائر الأراضي الفلسطينية، في الضفة والقدس، يُشبه ما حدث إبّان الإنتفاضتين الأولى والثانية، نتيجة الممارسات الإسرائيلية في القدس المحتلّة، واعدا بأن يكون ذلك الحِراك “فاتحة لمشهد جديد في القدس”، على حد قوله.
في الأثناء، يُرجح مراقبون أن الإعتداءات الإسرائيلية المتزايدة على الفلسطينيين واتِّجاه المفاوضات الجارية حاليا نحو طريق مسدودة، سيُقرب الفصائل الفلسطينية المتخاصِمة من بعضها البعض. وحمل عرض عريقات معلومات مهمّة في هذا المجال، إذ أفاد أن الإستراتيجية الإسرائيلية لحكومة نتانياهو في 2013 ارتكزت على ثلاث محاور، أولها أن تكون السلطة الفلسطينية بلا سلطة، وثانيها أن يكون الإحتلال بلا كلفة، وثالثها أن يكون قطاع غزة خارج فلسطين.
وأكّد عريقات أنه قال لوزيرة الخارجية السابقة رئيسة الوفد الاسرائيلي إلى المفاوضات “إن ما تطرحه إسرائيل ليس الحديث عن دولتين، بل دولة واحدة، وبموجب التفويض الذي منحه إياه الشعب الفلسطيني، لا يمكن المُضيّ قُـدما في هذا الشأن”، فردت ليفني قائلة “إذا كنت ستتحدّث عن الضفة دون غزة… فلتتكلّم”. وعلّق عريقات بقوله “القاعدة تقول إنْ لم نُساعد أنفسنا، فلن يساعدنا أحد، والضفة والقدس وغزة والأراضي المحتلّة، قضية مُوحّدة لا تقبل التّجزئة، وما دام قسمٌ من الوطن محتلا، فغزة أيضا محتلة وليست مُحرّرة، كما يقول كثيرون”.
أجرى ساري حنفي، أستاذ علم الإجتماع بالجامعة الأمريكية ببيروت دراسة شملت 519 مقالا حول ثورات الربيع العربي، فاكتشف أن معظمها كُتب باللغة الانجليزية.
وأوضح في ورقة قدّمها إلى ندوة “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” حول “القضية الفلسطينية ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني”، أن سبعة آلاف مرجَع عن الثورات العربية استُخدمت في تلك المقالات، وكان 10 في المائة منها فقط مَراجِع عربية، مما يعني حسب قوله، أن “هناك تهميشا لموضوع الثورات على صعيد الكتابات العربية”.
فلسطين “أهم من الفصائل”
وحول جهود السلطة الفلسطينية لكسب التأييد العالمي للقضية، أوضح عريقات أنها نجحت في إقناع الاتحاد الأوروبي بوقْف استقبال صادرات الأراضي المحتلة، التي تقدّر بمليارات الدولارات، في حين تمّ الترويج لصادرات أراضي السلطة الفلسطينية التي تقدر بـ 15 مليون دولار فقط. وأوضح أن “الاستراتيجيا التي تعمل السلطة الفلسطينية عليها حاليا هي كسب تأييد دول العالم للقضية الفلسطينية من خلال مراقبة منظومة المصالح الدولية”، معتبر أنها (أي هذه الاستراتيجيا) نجحت في كسب دعم عدد كبير من الدول في العالم.
وختم مداخلته بالتأكيد على أن “فلسطين أهم من حركتيْ “فتح” و”حماس” وأن القدس أهَم من عواصم الدول العربية والإسلامية جمعاء وأن الفصائل الفلسطينية وُلِدت من أجل استرجاع فلسطين. وفي حال اختلافها، لابد من اللجوء إلى صناديق الإقتراع، وليس إلى السلاح والرصاص.
swissinfo.ch التقت في معابِر الندوة، الأكاديمي والإعلامي الفلسطيني الدكتور مروان بشارة وحملت إليه سؤالا عن هذه الأجواء: هل طوت ثورات الربيع العربي في موجاتها المتلاحقة أوراق الملف الفلسطيني وبعثرت الأولويات على نحو جعل “قضية العرب الأولى” تتدحرج إلى المرتبة الثانية أو الثالثة، أي بعد تطورات الوضع الداخلي في بلدان مثل مصر وسوريا وليبيا وتونس؟
رد الدكتور بشارة مُقِرا بأن “العرب اليوم متشرذمون ومُنقسمون وداخلون في معمعة كبيرة، عنوانها الثورة والثورة المضادّة، وبالتالي، فهو وضع صعب، لكن هذه الطاقة الكامِنة التي انفجرت خلال السنتين الأخيرتين، قادرة على التغيير في ظل الحاضنة العربية القوية”. ثم استدرك قائلا “لكن هل سيتم ذلك في المدى القريب أم المتوسط أم البعيد؟ لست أدري، لكن على الأقل، بدأنا وها نحن نسير على الطريق”.
أما عن الأمل بحلّ القضية الفلسطينية لصالح أصحاب الحق، فقد أشار الدكتور بشارة إلى أن “هذا الموضوع ليس مسألة علمية، بل هو مرتبط بالإرادة الذاتية. فالأمل لا يقوم في غياب إطار للعمل النِّضالي اليومي، لأنه (أي الأمل) ليس مبنيا على العقلانية، وإنما على جهود جماعية فلسطينية وعربية، والأمل يكون بقدر الإرادة. فليس هناك أمر يُقيَّم بشكل عام أو في المطلق، بل هو تقييم نِسبي ومتعلّق بالتغييرات التي تُفرَض على الواقع الإسرائيلي والفلسطيني. وبناء على ذلك، فإن ما شاهدناه من تغييرات خلال السنوات الثلاث الماضية في البلاد العربية، وهذه الطاقة الهائلة لدى الفلسطينيين والعرب ليتحرّكوا على غِرار ما شاهدناه في الإنتفاضتين (الفلسطينيتين) الأولى والثانية، يُبقي الأمل حيّا فينا، وهو سيستمر ويزداد رسوخا، ما دام هناك أناس قادرون على التغيير وما دامت هناك إرادة للتغيير”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.