في الجزائر: مشاريع عملاقة.. وتوجه لمقاومة الرشوة.. وأسئلة حول المستقبل
شهدت السنوات الست الأخيرة من حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، برامج تنموية عملاقة، كلفت الخزينة العمومية مئات المليارات من الدولارات وفرتها مبيعات النفط والغاز بفضل ارتفاع أسعارهما بعد عام 2005، غير أن السؤال يبقى مطروحا، حول البطء الذي يعتري تنفيذ أوامر الرئيس الجزائري والجهة (أو الجهات) المستفيدة من ذلك؟
ومن الناحية العملية الملموسة، تمكن الرئيس الجزائري من النجاح في إنجاز مشروع ربط أقصى شرق الجزائر، بأقصى غربها عبر طريق سريع هو الأكثر تطورا في منطقة المغرب العربي، بكلفة ابتدائية قدرت باثني عشر مليار دولار، لينتهي المشروع بحوالي عشرين مليارا، بعد أن انتفخت التكاليف بشكل غير مفهوم. وتشير مصادر عديدة، إلى أن الملف مطروح حاليا على مكتب الرئيس لمتابعته والحسم فيه.
ومع أن بعض الإشاعات توجه سهام اتهاماتها إلى “المحيط القريب” من رئيس الدولة إلا أن المسألة لم تتجاوز “كلام إعلاميين ودبلوماسيين لم يقم عليه أي برهان”، بل إن قصر المرادية (مقر الرئاسة الجزائرية) لم يتجشم مؤونة التعليق عليه إلا أن مراقبين سجلوا أنه، ومنذ زيادة وتيرة هذه الإشاعات، انكفأ أخ الرئيس (السعيد بوتفليقة) بعيدا عن الأضواء أو هكذا بدا للبعض.
للمرة الأولى منذ الإستقلال..
وبالرغم من شدة الضغوط التي يبدو أن الرئيس الجزائري يتعرض لها، إلا أنه أصر على إكمال مشاريعه التي تهتم بالبنية القاعدية، فقد تمكن من الظفر بنشاط وزارة السكن، التي أنجزت أكثر من مليون وحدة سكنية في خمسة أعوام، مع تسجيل بعض الفوارق في النوعية بين برنامج سكني وآخر، حسب التفاوت الإجتماعي والمالي القائم بين ولاية (محافظة) وأخرى، إلا أن هذا قد حدث، وهي المرة الأولى منذ استقلال الجزائر عن فرنسا في عام 1962.
وللمرة الأولى أيضا بنيت عشرات السدود، أمنت سيولة مائية لم يسبق لها مثيل، وأضافت إلى هطول الأمطار، الدفعة اللازمة لتحقيق الإكتفاء الذاتي في إنتاج القمح والشعير، على خلاف دول المغرب العربي الأخرى، بل إن الحكومة تدفع للفلاح الجزائري الآن وعلى كل قنطار ينتجه ما يُدفع نقدا للفلاح الكندي أو الأمريكي، ثم تدعم الدولة سعر القمح المباع، ليصل خبزا بسعر رمزي إلى المستهلك، الذي لا يشعر بالجهد الكبير الذي بذل كي يأكل خبزة ثمنها “عشرة دنانير”، أي أقل من تسع سنتات يورو في أوروبا.
ويمكن القول أيضا بأن عدد المدن الجامعية قد انفجر في العُهدتين الثانيتين لحكم بوتفليقة، حيث شُيدت أربع عشرة مدينة ما بين الشمال والجنوب و الوسط، وتفرعت الاختصاصات لتصل في الرياضيات على سبيل المثال، إلى ثمان معاهد للمتفوقين هدفها صقل القدرات وتوجيهها للإختراع والصناعة. كما تقرر بناء عشرات الملاعب الضخمة، ومئات المسابح والآلاف من ساحات اللعب ومثل ذلك من المدارس والثانويات ومعاهد التكوين المهني، وإصلاح ما يقرب من أحد عشر ألفا من الطرق الداخلية والفرعية والرئيسية في شتى مناطق البلاد.
شبهات وتساؤلات
في الوقت نفسه، اقتنت الجزائر، عشرات الطائرات المدنية والعسكرية، ومثلها من الدبابات الحديثة والسفن والغواصات والمروحيات وجهزت قوات الشرطة والجمارك والدفاع المدني بأحسن الوسائل التقنية الموجودة في السوق العالمية.. وهلم جرا، إلا أن جميع هذه المشاريع – ومن دون استثناء – قد اتسخت، حسب تأكيد مصادر متطابقة، بشوبة الرشوة أو اختلاس المال العام.
وفيما يعتقد البعض بأن “طرفا ما” أراد إلحاق الأذى بالرئيس الجزائري من خلال هذه التجاوزات، يتساءل كثيرون: كيف يكون هذا ممكن الحدوث وسط جيش من الإداريين ورجال الأعمال والناس العاديين؟ وتشير بعض الإجابات المتداولة في العاصمة الجزائرية إلى أن ما يحدث هو “ثمن الإتكال على كل من هب و دب للوصول إلى سدة الحكم”، فقد ساند بوتفليقة المؤيّـدُ بحق عن اقتناع أو صاحبُ الرغبات المكبوتة، في حين تم تحييد كل المعارضين والمخالفين، ولو كانوا مجرد مقترحين لآراء مختلفة عن آراء الرئيس الجزائري.
وتؤكد مصادر مطلعة في العاصمة الجزائرية، أن كافة الإجراءات التي أقرها الرئيس بوتفبيقة لمحاربة الرشوة، سيتم تطبيقها بحزم شديد، بسبب أجواء الإحتقان التي يعيشها الشارع الجزائري. وفي هذا السياق تؤكد تقارير أخرى أن عمليات توزيع السكنات على الفقراء أو على الذين يحتاجونها لم تخل في معظم الأحيان من حدوث اشتباكات مع قوات الشرطة أو رجال الأمن، بسبب الإتهام المستمر للإدارة (وخاصة في المناطق الداخلية) بمحاباة أناس دون آخرين، أو بإضافة من ليس لهم الحق في قوائم المستفيدين من المساكن الحكومية الجديدة.
من الرئيس القادم؟
على صعيد آخر، لا زالت الأوضاع الصحية للرئيس بوتفليقة وتقلص نشاطه الميداني مقارنة بالسنوات الأولى لفترة حكمه تثير التساؤلات والتخمينات في الجزائر. وفيما ذكرت مصادر في مستشفى “فال دو غراس” الفرنسي، أن الرئيس الجزائري قد شارف على الموت عام 2005، وأنه وبالرغم من خروجه سالما بعد عملية جراحية معقدة، إلا أن وضعه الصحي “لا زال حرجا”، أضاف مصدر طبي فرنسي رفض الكشف عن هويته لـ swissinfo.ch، أن بوتفليقة يحتاج “للخلود إلى الراحة أغلب الوقت”.
وربما هذا ما يفسر الغياب المستمر للرئيس الجزائري، في السنوات الثلاث الأخيرة، على خلاف عهدته الرئاسية الأولى، التي كان فيها بالغ النشاط و الترحال بين عواصم العالم والمدن الداخلية الجزائرية، وقد يفسر هذا بدوره الجدل الذي يُـزعـم أنه يدور حاليا في أعلى هرم السلطة، وبالأخص داخل المؤسسة العسكرية، التي يتردد أيضا أنها قد تكون بدأت تفكر في اختيار خليفة له (لم يُعرف اسمه بعد)، والتي قد تفاجئ الجزائريين كعادتها برجل “لم يتوقعه أحد”.
على النقيض تماما مما سبق، تقول بعض التقارير الصحافية بأن الرئيس الجزائري لا زال يُخيف وزراءه وبأنهم يعملون بكل ما أوتوا من قوة لتطبيق تعليماته، في حين لم تخض الصحافة الجزائرية في مسألة خطورة مرض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة منذ زمن بعيد، وربما يعود السبب إلى الأذى الذي قد يتعرض له الصحافي إذا ما أشار إلى موضوع كهذا، رغم النبرة الإنتقادية التي تميز معظم وسائل الإعلام الجزائرية منذ بادية التسعينات.
وعلى سبيل المثال، تم اعتقال الصحافي الدكتور جيلالي حجاج بسبب تنديده المستمر بما يسميه “استفحال ظاهرة الرشوة في الإدارة الجزائرية”، كما أن حجاج الذي يرأس الرابطة الجزائرية لمقاومة الرشوة والفساد وممثل منظمة الشفافية العالمية التي تُعنى بمحاربة الرشوة في كل بلدان العالم، وتقوم بتصنيف الدول حسب جدول تنقيط صارم وضع الجزائر في قمة الدول المرتشية عالميا. وربما يكون هذا هو السبب في اعتقاله ثم إطلاق سراحه فيما بعد، والحكم عليه بستة أشهر سجنا مع وقف التنفيذ، بتهمة تزوير الشهادات الطبية الخاصة بزوجته، كي تحصل على التأمين الصحي بطريقة غير شرعية.
وفي الأخير، تشكو وسائل الإعلام الجزائرية – مثلما يُمكن الإطلاع على ذلك بوضوح في شبكة الانترنت – بمرارة من “انغلاق” الساحتين الحزبية والإعلامية برغبة رئاسية لا غبار عليها، إلا أن أصواتا جزائرية أخرى، تؤكد أن السبب في هذا “الإنغلاق” هو غياب الرئيس ومرضه، وأن تغيرا طارئا أو عاديا في أعلى هرم السلطة كفيل بتنشيط الوضع السياسي والإعلامي رغم الجهل الذي يكتنف هوية قائد الجزائر القادم، ليبقى السؤال الأول مطروحا من دون جواب: متى ستأمن الحكومة على الأموال التي رصدتها لاستثماراتها الضخمة، تحت إمرة بوتفليقة أو تحت إمرة غيره؟
الجزائر (رويترز) – يصب الكاتب الصحفي الجزائري حكيم لعلام سخريته وانتقاداته على زعماء بلاده بطريقة لا يحلم أغلب الصحفيين في العالم العربي بالوصول اليها. ولا يتورع في مقاله اليومي عن أن ينتقد وزير الطاقة لسعيه للعلاج في سويسرا أو أن يشير الى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بكنية “عبدلق” التي ربما لا يكون مدلولها طيبا.
لا يرى لعلام أن هناك أي محرمات لا يتعين على الصحافة الخوض فيها ولم يثنه عن ذلك إدانته قبل أربع سنوات بتشويه سمعة الرئيس بوتفليقة والحكم عليه بالسجن ستة أشهر. وأوقف تنفيذ الحكم بعد الإستئناف.
وقال الصحفي الذي ينشر مقاله في صحيفة (سوار دالجيري) لرويترز: “أي شخص يقوم بعمل عام يخصني… اذا كان في السلطة… فانني أعتقد أن من حقي أن أتهكم عليه وأسخر منه. هذا هو الثمن الذي عليه أن يدفعه”.
وتكمم الرقابة التي تفرضها الحكومة وسائل الاعلام في أغلب الدول العربية الى جانب الترويع الصريح أو الضغوط المستترة لكن الصحف الكبرى في الجزائر تتميز بالدور الذي تقوم به باعتبارها مدافعا قويا عن حرية التعبير. كما أن الصحف الجزائرية مختلفة لسبب آخر وهو أن الصحف الكبرى تمكنت من أن تجعل لنفسها نشاطا تجاريا مربحا بتوزيع هائل وعائد كبير للاعلانات وفي الوقت ذاته ترفض سيطرة الدولة.
وتقول صحيفة “الشروق” أكبر الصحف الجزائرية انها تبيع 800 ألف نسخة يوميا بينما تقول صحيفة الخبر أقرب منافسيها ان توزيعها يصل الى 500 ألف نسخة يوميا. وبالمقارنة ففي المغرب المجاور الذي يبلغ عدد سكانه نفس عدد السكان في الجزائر تقريبا فان توزيع أكبر الصحف هناك يبلغ 100 ألف. وفي مصر أكبر الدول العربية سكانا والتي يبلغ عدد السكان فيها ضعف سكان الجزائر تقريبا تقول مؤسسة كارنيغي للابحاث ان صحيفة الاهرام أكبر الصحف تبيع نحو مليون نسخة يوميا.
ويتيح استقرار الموقف المالي للصحف الجزائرية حرية انتقاد الحكام وهو ما لا تتمتع به الصحف اليومية الاخرى في المنطقة نظرا لان الكثير منها اما انه غير مستقر ماليا أو انه يعتمد على الدعم الحكومي.
وقال محمد لعقاب الذي يدرس الصحافة بجامعة الجزائر “في العالم العربي للصحفي الحرية في انتقاد اسرائيل لكن ليس الرؤساء ولا الملوك العرب. لكن في الجزائر يمكننا ان ننتقد بوتفليقة والجنرالات والاسلاميين”.
تعود حرية الصحافة النسبية في الجزائر الى عام 1990 عندما رفع الرئيس الشاذلي بن جديد تحت ضغط من انخفاض أسعار النفط والاضطرابات الشعبية القيود عن المشروعات الخاصة والانتخابات التعددية والاعلام الخاص. ومنذ ذلك الحين شهدت الجزائر صراعا بين قوات الامن والمتمردين الاسلاميين مما أسفر عن سقوط ما يقدر بنحو 200 ألف قتيل وتراجعت بعض سياسات التحرر. لكن الصحف أبقت بصورة كبيرة على مكاسبها.
ولم يكن ذلك سهلا. اذ قتل المتشددون أكثر من 100 صحفي في أوج العنف. ويحاكم الصحفيون من حين لاخر لاساءتهم لسمعة مسؤولين. وتم اغلاق صحيفة معارضة بعد سجن صاحبها بسبب مخالفات مالية. وقال كامل عمارني وهو الامين العام للنقابة الوطنية للصحفيين الجزائريين إن بوتفليقة “لا يحب الصحافة المستقلة… خلال فترة 11 عاما قضاها في الرئاسة… عقد مؤتمرا صحفيا واحد فقط في الجزائر”.
لكن الصحف في الجزائر التي يسكنها 35 مليون نسمة يمكن أن تكون أجرأ من أغلب المطبوعات في العالم العربي. ففي يوليو تموز قالت صحيفة “الوطن” التي تصدر باللغة الفرنسية إن نجل أحد الوزراء يخضع لتحقيقات جنائية. وطالب الوزير بأن تتراجع الصحيفة على الفور عما قالته. لكن كان رد فعل الصحيفة أن كررت هذه المزاعم في طبعة اليوم التالي.
ونشرت الصحيفة ذاتها بمناسبة مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم رسما صور أعضاءه على أنهم مسنون وواهنون حتى أنهم لا يمكنهم الوقوف دون ارتعاد.
وقال منير زغرور منسق شؤون الشرق الاوسط والعالم العربي في الاتحاد الدولي للصحفيين ببروكسل “الصحفيون الجزائريون شجعان للغاية”.
ومن الظروف التي تدعم الصحف الجزائرية هو أن التلفزيون لا يتنافس معها كمصدر للأخبار على عكس الكثير من الدول العربية الاخرى. اذ ان كل القنوات الارضية مملوكة للدولة وتستقطع البيانات الحكومية جزءا كبيرا من نشراتها الاخبارية مما أدى الى احجام الكثيرين عن متابعتها مما يترك السوق مفتوحة أمام الصحف كي تستغلها كما تشاء.
وقال زهر الدين سماتي رئيس مجلس ادارة صحيفة “الخبر” إن تحقيق الاستقلالية الاقتصادية للصحيفة منحها القدرة على انتقاد السلطات. وقال: “في هذا اليوم أو ذاك سوف تضغط عليك الحكومة… اذا كنت تريد أن تؤدي مهمتك بحرفية فلابد أن لا تعتمد على موارد الدولة”.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 7 أكتوبر 2010)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.