“لا أعتقد أننا سنشهد في سويسرا تكرارا للسيناريو الدنمركي”
كشف النقاش المحتدم في سويسرا حول المبادرة الشعبية الداعية إلى حظر بناء مزيد من المآذن في الكنفدرالية عن تباين حقيقي في التصورات والأفكار السائدة لدى قطاعات لا بأس بها من الرأي العام حول الإسلام دينا وحضارة وتقاليد وحول المهاجرين المسلمين باعتبارهم أتباع ديانة استقرت حديثا في المشهد المحلي.
في المقابل، لفتت مداخلات ومساهمات عدد من الخبراء والأكاديميين السويسريين المتخصصين الأنظار إليها بما اشتملت عليه من معرفة عميقة وواسعة بالشأن الإسلامي عموما محليا وأوروبيا ودوليا.
ومن بين هؤلاء الأكاديمي والخبير الجامعي باتريك هانّي، المكلّـف بالأبحاث في مرصد الأديان (Religioscope) وهو معهد دراسات مستقل ودون انتماء ديني، يوجد مقره في مدينة فريبورغ ويُوفر معلومات أساسية وتحاليل حول العوامل الدينية في العالم المعاصر للمختصين والمؤسسات والجمهور عموما.
في الحديث التالي مع swissinfo.ch تطرق هانّي الذي يتحدث العربية بطلاقة (بعد أن أقام كباحث في القاهرة مدة تناهز 12 عاما) إلى العديد من التساؤلات والنقاط المثيرة للجدل التي يتداولها الرأي العام داخل سويسرا وخارجها حول المبادرة المعروضة للتصويت وموقع الإسلام والجاليات المسلمة عموما في سويسرا.
swissinfo.ch: لا يفهم الكثيرون في العالم العربي كيف يُمكن إطلاق مبادرة مثل مبادرة حظر بناء المآذن في بلد آمن ومستقِـر مثل سويسرا. كيف يمكن لك أن تشرح ذلك إلى الرأي العالم العربي؟
باتريك هانّـي: النظام السياسي والدستور في سويسرا يعطيان لأي فريق سياسي أو مجموعة ضغط، إذا ما استطاعت جمع 100000 توقيع، الحق في أن يفرض تنظيم استفتاء حول قضية معيّـنة لتعديل بند أو بنود من الدستور مثلا. وُضع هذا القانون من أجل ضمان حقوق الأقليات السياسية في سويسرا، لكي تكون لديها وسائل لطرح القضايا التي تهمّـها في الفضاء العام وعلى الساحة السياسية.
ولكن للأسف، هذه الآليات الدستورية والديمقراطية أصبحت الآن وسيلة بيَـد المجموعات السياسية المتشدِّدة، ومنها اليمين المتطرّف لفرض أجندة عنصرية على الشعب السويسري، وأصبحت وسيلة لإثارة مخاوف الشعب من قضايا لا وجود لها أصلا، مثل قضية المآذن، وكما هو معروف لا يوجد حاليا في سويسرا سوى أربعة مآذن وجالية مسلمة يبلغ عددها 400000 مسلم يقيمون في سويسرا، دون مشاكل كبرى.
في العشريتيْـن الماضيتيْـن، كانت هناك نقاط احتكاك بين الأقلية المسلمة والمجتمع المحلي، تتعلّـق بقضايا ذات علاقة بالحياة اليومية، هل تعتقد أن هذه العلاقة قد دخلت مرحلة جديدة مع الحملة المُـناهضة للمآذن؟
باتريك هينّـي: في بداية التسعينات، حدث بالفعل نوع من التوتر حول مشاكل متعلقة بالحياة اليومية، مثل مطالب الإعفاء من بعض الحِـصص الرياضية في المدارس الرسمية كحصص السباحة (بسبب الاختلاط) أو المطالبة بمساحات خاصة بالمسلمين في المقابر، وقضايا أخرى من هذا القبيل..
ولكن الخلاف المطروح حاليا، هو مختلف جوهريا لأنه يخص الإسلام ورموزه عامة. ونلاحظ أن هذا التطوّر يشمل الساحة الأوروبية عامة. مسألة المآذن بهذا المعنى، ليست مشكِـلة سويسرية، والمآذن أصلا ليست أولوية على أجندة المسلمين في سويسرا. توجد في البلاد كله 4 مآذن وهناك مطلب أو اثنان في الأفق.
أصحاب المبادرة أنفسهم يقولون بأن المآذن ليست هي المشكلة، بل هي مبرر وسياق فقط. هم يقولون إن الهدف الأساسي هو مكافحة الأسلمة الزاحفة على المجتمع السويسري والغربي عموما. هل هذه المخاوف حقيقة أم هي مجرّد ادِّعاء؟
باتريك هانّـي: أنا أعتقد أن هاجس الأسلمة حقيقي لدى هذه الأوساط، ولكن هل حظر بناء المآذن وسيلة مجدية لما يرونه زحفا على المجتمعات الغربية؟ طبعا لا. ثم لنحلل هذا الادّعاء: عندما يتحدّثون عن الأسلمة، يشيرون إلى نسبة الولادات العالية لدى المسلمين ويتطرقون إلى الإسلام السياسي وإلى الحركات الإسلامية، ويتجاهل هؤلاء أن هذه الدينامكيات تتحرك بشكل منفصِـل تماما عن مسألة المآذن.
هل حظر المئذنة سيمنع الخطاب المتطرّف مثلا؟ هل منع المآذن سيحُـدّ من تكاثر أعداد الجالية المسلمة؟ إذن، هم يستخدمون المآذن وسيلة للتعبئة في أوساط اليمين المتشدد لا أكثر.
يقولون أيضا إنهم يناهضون مشروعا استراتيجيا للهيمنة الإسلامية على الغرب. هل يوجد فعلا مشروع مرحلي وإستراتيجي من هذا القبيل في أوروبا اليوم؟
باتريك هانّـي: لا خلاف في أن الإسلام، مِـثله مثل المسيحية، دين يسعى للإنتشار، وأن الدعوة للإسلام هي إحدى أهداف الجمعيات الإسلامية الموجودة في البلدان الأوروبية، مثلما هو هدف الجمعيات المسيحية الموجودة في مناطق أخرى من العالم، ولكن عندما نحلل اجتماعيا حالة المسلمين ووضع الإسلام في أوروبا، نجد أن الصورة مختلفة تماما.
أولا، تعيش حركات الإسلام السياسي أزمة في الغرب وتعجز هذه الحركات عن صياغة خطاب ملائم لوضع الأقليات، مما أجبرها على التحوّل إلى حركات وعظية دعوية وتقلّـص بُـعدها السياسي، ولهذا، فإن الحركات التي تنتشر اليوم أكثر من غيرها في أوروبا هي الحركات السلفية، وهذه الأخيرة تفتقد إلى مشروع سياسي واضح، وهدفها الأساسي هو الإنسحاب من أوروبا، وليس التوطين فيها.
أما الخوف من التزايد الديمغرافي للمسلمين، فهذا أيضا وهْـم، والأرقام والدراسات تثبُـت أن معدّل الإنجاب في صفوف المسلمين في حالة تراجع، باستثناء باكستان وبعض الدول الإفريقية. ففِـكرة التوسع إذن لا توجد إلا في أذهان المروِّجين لها.
دكتور باتريك، رغم كل ما ذكرت الآن، هناك رأي عام واسع وهناك على الأقل شريحة كبيرة من العالم الغربي تتفاعل مع هذا النوع من الخطاب وتقبل به، كيف تفسِّـر ذلك؟
باتريك هانّـي: أنا لم أنكر وجود هواجِـس من الوجود الإسلامي. نحن نعيش عصر العولمة، وتمر الساحة الدولية حاليا بتغيرات اقتصادية عميقة، والخوف من العمالة الأجنبية الأوروبية (من إيطاليا وإسبانيا والبرتغال..) في عقود سابقة، أصبح اليوم يوجَّـه ضد المرجعية الإسلامية. الخوف من الإسلام هو خوف من الأجانب المسلمين، وهو شكل جديد من العنصرية التي تريد أن تعلّق على الأجانب كل أسباب الأزمات التي تمُـر بها أوروبا.
من الواضح أن هنالك فرز اليوم في الغرب، من جهة خطاب حول الديمقراطية والتسامح، ومن جهة أخرى الإسلام والنمط الثقافي الشرقي، هذا الفرز هل هو فرز واقعي أولا؟ وما هي انعكاساته في السنوات القادمة بحسب رأيك؟
باتريك هينّـي: يبدو أن الإسلام أصبح مثل المرآة العاكسة في بعض الخطابات السياسية في أوروبا، نريد أن نؤكِّـد هُـويتنا الديمقراطية عبْـر إيجاد وصناعة شيئ آخر مختلِـف جوهريا، وهو الإسلام.
مسألة الديمقراطية مرتبطة بمسألة الحركات السياسية، ومسألة الأزمة في العالم العربي هي أزمة دول غير مبنية على شرعية الإسلام إطلاقا، بمعنى أن الإسلام يُـستخدم اليوم كفزّاعة بيَـد الأطراف اليمينية، وليس وسيلة مصدر حقيقي للخطر.
المخاوف مبنية حول الدعاية الإعلامية وعبر الخطاب السياسي، ولا صلة لها بالواقع الحقيقي في هذه البلدان، وللأسف هذه المبادرة صنعت مشكلة حول مسألة الإسلام في سويسرا، بالرغم من أن اندماج السكان المسلمين في سويسرا تمّ بشكل جيِّـد بالرغم من التزايد الكبير للسكان المسلمين خلال الثلاثة عقود الأخيرة.
عملية التعبئة هذه لا يشارك فيها فقط أنصار اليمين المتشدد، بل يبدو أن هناك فئات اجتماعية أخرى تسااهم فيها. ما هي هذه الفئات؟
باتريك هينّـي: التعبئة ضد المآذن يقوم بها تحالف بين تيار يميني عنصري من ناحية، وتيار مسيحي، وشعار هذا التحالف هو الدفاع عن أوروبا المسيحية، وأغلبية هؤلاء المسيحيين من الإنجيليين. ونلاحظ أنه حتى هذا العُـنصر المسيحي في التعبئة له صلة بالمسيحية الصهيونية.
ومن المهِـم الإشارة هنا إلى أن التعبئة حول المآذن في سويسرا – على عكس قضية البرقع في فرنسا – مهمّـشة في الحيِّـز السياسي السويسري، حيث تمّ رفضها من كل الإتجاهات والأطراف والأحزاب السياسية والمؤسسات الدينية الكبرى، المسيحية وغيرها.
ما هو تقييمك لكيفية تعاطي النخب والرأي العام عموما في العالم العربي والإسلامي مع ما يحدث هذه الأيام في سويسرا؟
باتريك هينّـي: الرأي العام وبشكل خاص وسائل الإعلام العربية والإسلامية، يتّـسم تعاملها مع قضية المآذن بقدر كبير من الهدوء والنّـضج، وهذا لعدة أسباب. السبب الأول، أعتقد أن العالم العربي لا يريد أن يكرر سيناريو التوتر مثلما كان الحال بخصوص رسوم الكاريكاتور في الدنمرك في 2006، كذلك، المآذن ليس لديها هذا القدر الكبير من القُـدسية كما كان الحال في المسألة السابقة، والتي كانت تخص شخصية النبي مباشرة، بينما المآذن هي فقط ملحق بأماكن العبادة التي يمكن أن تكون موجودة حتى دونها.
نسبة القُـدسية إذن في هذه الحالة أقلّ، ناهيك أن الأطراف الأكثر تشدّدا في العالم العربي، أعني السلفية، لا تنظر إلى المئذنة كشيء مقدّس، بالعكس المئذنة هي اختراع تاريخي تمّ إنشاؤه بعد عهد النبي، وليس ركنا من أركان الدين. لا أعتقد أننا سنشهد في سويسرا سيناريو على طراز السيناريو الدنمركي، الذي شاهدناه قبل ثلاث سنوات.
swissinfo.ch – أجرى الحوار عبد الحفيظ العبدلي
لا يكاد يمر يوم في سويسرا حتى تصدر مواقف جديدة عن هيئات سياسية أو منظمات مدنية داعمة أو رافضة في اغلبها لمبادرة حظر المآذن، التي سيصّوت عنها الناخبون يوم 29 نوفمبر الجاري ومن آخر هذه المواقف:
نداء رؤساء الأحزاب: في خطوة غير مسبوقة، صدر يوم 18 نوفمبر الجاري نداء عن جميع رؤساء الأحزاب السويسرية، بإستثناء زعيمي حزب الشعب (يمين متشدد)، والإتحاد الديمقراطي الفدرالي (يمين ديني متطرف)، ويدعو الموقعون على النداء الشعب السويسري إلى رفض مبادرة حظر المآذن. وأوّل الداعين لهذه الخطوة كان كريستيان لوفرا، ثم تبعه لاحقا زعماء الأحزاب الأخرى. كما تعبّر هذه الخطوة على القلق والإنزعاج الذي ينتاب المجتمع السياسي السويسري من احتمال حصول مفاجأة غير سارة يوم 29 نوفمبر، وما سيكون لذلك من “انعكاسات كارثية على الإقتصاد السويسري، وعلى صورة سويسرا في الخارج”. وقد تزامن صدور هذا النداء مع نشر نتائج سبر للآراء كشف عن جمود في نسبة الرافضين للمبادرة وتوسّع لجبهة الداعمين لها مقارنة بشهر أكتوبر الماضي، ما يعني أن زعماء الأحزاب يسعون إلى تعبئة الشعب السويسري لتدارك ذلك.
مندوبو الإندماج: ويوم الثلاثاء 17 نوفمبر الجاري، صدر بيان عن مندوبي الإندماج في الكانتونات السويسرية أكّدوا فيه أن “مبادرة حظر المآذن تنتهك الحريات العامة التي يضمنها الدستور السويسري، وتتعارض مع الأسس الضرورية للتعايش السلمي داخل المجتمع”. كما أشار البيان إلى أن المبادرة “تعرقل مسار اندماج المسلمين، والجهود الحكومية التي بذلت من أجل ذلك”، دون أن يفوتهم الإشارة إلى ان مبادرة من هذا القبيل “لن تؤدي إلا إلى تعزيز صفوف المتطرفين الأجانب والمحليين”.
نساء يرفضن حظر المآذن: في رد على الداعين لحظر المآذن دعما كما يقولون “لحرية المرأة وحقوقها”، أعلنت الفروع النسائية لأربعة أحزاب سويسرية كبرى، ثلاثة منها ممثلة في الحكومة بطلان ادعاء أنصار المبادرة وجاء في بيانهن أن “النص الداعي إلى حظر المآذن لا يخدم بأي شكل قضية حقوق الإنسان، ولا مبدأ المساواة بين النساء والرجال”. وأكدن أيضا على أن هذه المبادرة تقوم على “مغالطة واستغلال خوف المواطنين من التطرّف والإرهاب لأغراضهم الخاصة”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.