لا تحوّل ديمقراطي دون تقدم عملية إصلاح الأجهزة الأمنية
تشكو القِوى الثورية في دول الربيع العربي، مما تسمّيه "الدولة العميقة" التي تغلغلت فيها أجهزة الأمن والمخابرات وجنرالات الجيش في بعض الأحيان لتمسك بمفاصل الدولة وتستعصي على محاولات إصلاحها أو تشكو من افتِقار أنظمة الحُكم، التي تلَت الإطاحة بدكتاتوريات مبارك والقذافي وبن علي وعلي عبد الله صالح، للإرادة السياسية اللاّزمة لتطبيق هذه الإصلاحات، التي تشكل أهم آليات العدالة الإنتقالية والتحوّل الجدي نحو الديمقراطية الفعلية.
فما هي حقيقة التحديات التي تواجِه إصلاح الأجهزة الأمنية، التي تسبّبت انتهاكاتها ووحشيتها في إطلاق شرارة الربيع العربي، ابتداء من تونس؟ ولماذا تعثّرت أي محاولات لتعديل العلاقة المختلّة بين القوات المسلحة ومؤسسات الدولة الأخرى، التي تميل بشكل واضح في بعض البلدان العربية، لصالح المؤسسة العسكرية؟
طرحت swissinfo.ch هذه التساؤلات على عدد من خبراء إصلاح الأجهزة الأمنية، فاتّفقوا على أنه رغم مرور ثلاثة أعوام على ثورات الربيع العربي، فإن دولا مثل مصر وليبيا واليمن، لم تخط الخطوات الأولى الضرورية في هذا الإتجاه، بينما صادفت محاولات جِدية واعدة في تونس مقاوَمة من تلك الأجهزة للحفاظ على وضعها وتجنّب المُساءلة.
الإرادة السياسية.. إما غائبة أو ضعيفة
الدكتور عمر عاشور، الباحث بمركز بروكنغز في الدوحة والمتخصِّص في دراسات إصلاح أجهزة الأمن، أوضح أن هناك تسعين دولة ديمقراطية في العالم لم تتمكّن أيّ منها من التحول الحقيقي نحو الديمقراطية بدون اتخاذ ما يلزم من إجراءات لإصلاح أجهزتها الأمنية، من بينها “مُلاحقة انتهاكات حقوق الإنسان وإنهاء ممارسات التعذيب وتقنين محاسبة المخالِفين من ضبّاط وجنود الشرطة وتغيير دور أجهزة الأمن والعقيدة الشرطية، بحيث تتّسق مع الأعراف الديمقراطية وأسُس الحُكم الرشيد، ولا يتحقّق ذلك بدون فرض إشراف مدني من المؤسسات المُنتخَبة على كلٍّ من الشرطة والقوات المسلحة”.
ولكن، لتطبيق هذه المتطلّبات، هناك تحديات واضحة تعود إلى عشرات السنين من الممارسات القمعِية وتحتاج إلى إرادة سياسية ورُؤية مستقبلية لتغيير ما كان قائما، حيث يقول البروفيسور توماس ديمسي، رئيس مركز الدراسات الأمنية بكلية الحرب الأمريكية: “تواجه أيّ عملية إصلاح جادّ للشرطة في دول الربيع العربي، تحديات أساسية، مثل تربية كوادر الشرطة والمباحث لعقود طويلة، على أن مهمَّتها خِدمة وحماية نُظم قمعِية، وليس توفير الأمن للمواطن. ولذلك، يلزم تغيير عقيدة الأجهزة الأمنية ونظام قيَمها والطريقة التي تتعامل بها مع المواطنين والإقتِناع بأن مهمّة أجهزة الأمن، خِدمة الشعب وليس حماية النظام”.
لهذا السبب، يربط البروفيسور ديمسي بين ضرورة الإصلاح السياسي وإيمان النّخبة السياسية التي تولّت إدارة شؤون البلاد في مصر وليبيا وتونس واليمن، بضرورة الأخذ بأسُس الحُكم الرشيد والديمقراطية وحقوق الإنسان، وبين إمكانية الإصلاح الحقيقي لأجهزة الأمن وإيجاد وظائف لمن يتِم استبعادهم من قوات الأمن، لا يكون لهم فيها اتِّصال بالجمهور أو حمل للسّلاح، وإلا تحوّلوا إلى ميليشيات مسلحة.
محمد عبد الدايم، كبير الباحثين في المركز الدولي للعدالة الانتقالية في نيويورك يتفق تماما مع هذا التحليل، ويؤكد أهمية أن يشمل الإصلاح القوات المسلحة في الدول التي لا تخضع فيها لإشراف مدني أو يكون للمؤسسة العسكرية مطامِح سياسية أو مصالح اقتصادية، ويدلِّـل على ذلك بقوله: “في الحالة المصرية مثلا، رأينا أن الدستور المعدّل الذي تمّت صياغته بعد تدخّل وزير الدفاع والإطاحة بالرئيس محمد مرسي وحُكم الإخوان المسلمين، منح القوات المسلحة صلاحيات لم تكن موجودة حتى في ظل حُكم مبارك، حيث لا يستطيع رئيس الجمهورية المنتخَب تعيين أو إقالة وزير الدفاع، دون موافقة المجلس العسكري، كما أن ميزانية الجيش لا تخضع إلى مناقشة البرلمان، بالإضافة إلى استمرار حقّ القوات المسلحة في محاكمة مدنيين أمام محاكِم عسكرية”.
ومع الأخذ في الاعتبار أن جنرالات الجيش المصري يُديرون أنشِطة اقتصادية عديدة، لا تخضع للمحاسبة، يرى السيد عبد الدايم أن الربيع العربي في مصر لم يتمكّن من إنهاء العلاقة الفوقية للمؤسسة العسكرية، التي ترقى فوق رقابة المؤسسات المنتخَبة، فيما لم تظهر أيّ من حكومات ما بعد الثورة الإرادة السياسية الضرورية للمُضي في إصلاح الأجهزة الأمنية، ويقول: “تمكّن كل الضبّاط المتّهمين بقتل المتظاهرين أو بارتكاب انتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان في ظل حُكم الرئيس المخلوع مبارك، من الإفلات من العِقاب، كما أعيد مَن تمّت إحالتهم للتقاعد إلى الخِدمة، بحجّة الحاجة إليهم في مكافحة الإرهاب، ولم تتوفر إرادة سياسية بعدُ لكي يمكن تخصيص الموارد التقنية والمالية الضرورية لتطبيق آليات إصلاح الأجهزة الأمنية، ولم يقتصر ذلك على مصر فحسب، بل تعاني ليبيا واليمن من ظروف مشابِهة، وهناك محاولات لم تكتمِل في تونس”.
من “حماية النظام” إلى “توفير الأمن للشعب”
سألت swissinfo.ch الدكتور عمر عاشور عما إذا كان هناك تفاوُت في المصاعِب التي تُواجه دول الربيع العربي، حتى لو توفّرت الإرادة السياسية لإصلاح أجهزة الشرطة والأمن فقال: “رغم أن تونس واجهت مقاومة من بعض المسؤولين في قطاع الأمن متّهمين بممارسة أعمال قمعِية والتورّط في الفساد في ظل حُكم بن علي، وصلت إلى حدِّ تنظيم إضرابات عن العمل في الشرطة، فإن تونس ستُواجه أقلّ المصاعب، لأن أجهزة الأمن فيها أقلّ تورّطا في السياسة، ولأن قواتها المسلحة احترافِية ولم تنخرِط في العمل بالسياسة أو الإقتصاد، كما أنها الدولة الوحيدة من دول الربيع العربي التي استعانت بالفِعل بعدد من الخبراء الدوليين في مجال إصلاح الشرطة ومستعدّة لتطبيق التقنيات المعمول بها دوليا لتحقيق ذلك الإصلاح”.
في المقابل، يرى الدكتور عاشور أن ليبيا واليمن تُواجِهان أكثر المصاعِب عُمقا، للإفتقار إلى وجود هيكل للقيادة والسيْطرة في ظل وجود مؤسسات أمنيه وعسكرية متعدّدة لها ولاءات خاصة، سواء قبلية أو عقائدية وإقليمية، يتعذّر معها الشروع في نمَط إصلاحي مركزي.
من جهة أخرى، اعتبر الدكتور عاشور أن مصر تواجه مشكِلة عميقة، تتمثل في الميزات الخاصة التي يتمتع بها أفراد المؤسسة العسكرية، ليس فقط من الناحية الإقتصادية، وإنما بسبب الإعتقاد الرّاسخ لديْها بأن القوات المسلحة هي مُؤسّسة الجمهورية منذ عام 1954 وأنها فوق البرلمان وفوق السلطة القضائية، لذلك فلا مُساءلة ولا مُحاسبة، حتى لو تورّط أفرادها في القمْع أو الفساد، كما تُساوي بين الحفاظ على الأمن القومي المصري وبين أمنها والحِفاظ على مصالحها الإقتصادية الخاصة. ولذلك، يرى الدكتور عاشور ضرورة أن “تأخذ دُول الربيع العربي بفِكرة الإشراف المدني على الجيش والشرطة”، وأن يأتي ذلك الوزير المدني مُنتخَبا وليس مُعيَّنا من بين جنرالات الجيش والشرطة، لكي يمكن المُضيّ قدُما في إصلاح تلك الأجهزة.
السيد محمد عبد الدايم أكّد لـ swissinfo.ch أن الصعوبة الأساسية التي تواجه أيّ رغبة جادّة في إصلاح أجهزة الأمن في دول الربيع العربي، تتمثل في طبيعة تلك الأجهزة على مدى عقود، ويقول: “لو تركنا الأمر لتك الأجهزة، لما قبلت بأي إصلاح ولا إعادة هيكلة، لأنها بطبيعتها تُقاوم أي تغيير وتنشط للحفاظ على ما هو قائم، لذلك يتعيّن توفّر الإرادة السياسية الحاسِمة، التي تستند إلى إرادة شعبِية صلْبة تُطالب بالإصلاح وتجاهر باعتقادها بفشل تلك الأجهزة في حماية أمن المواطنين أو احترام حقوقهم الإنسانية، وضرورة تغيير أهداف تلك الأجهزة من حماية النظام إلى توفير الأمن للشعب وخِدمته، وهو ما يقتضي تغييرات هيكلية في التعليم والتدريب والثقافة السياسية”.
لذلك، يؤكد السيد عبد الدايم أن عملية الإصلاح ستستغرِق سنوات، لأنها تحتاج لموارد كبيرة مالية وفنية، وتوافُقا سياسيا على تخصيص تلك الموارد، وإيمانا راسخا بأنه لا تحوّل ديمقراطي دون أن تسير عملية إصلاح الأجهزة الأمنية وتعديل العلاقة غير السوية في بعض دول الربيع العربي بين المؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة المنتخَبة يداً بِيَد مع عملية الإصلاح السياسي وتطبيق باقي آليات العدالة الإنتقالية، وخاصة محاسبة كل المسؤولين عن جرائم الماضي.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.