مركز سويسري يُساعد الدول العربية على التحكم الديمقراطي في أجهزتها الأمنية
يكثف مركز جنيف للمراقبة الديمقراطية على القوات المسلحة اتصالاته بالدول العربية التي تشهد تحولات نحو الديمقراطية، لمساعدتها على إصلاح نظم مراقبة أجهزتها الأمنية من أجل أن تتحول إلى خدمة المواطن بدل التركيز على خدمة النظام السياسي القائم. وفي حوار خصّ به swissinfo.ch، يذكر السيد آرنولد لويتهولد، مدير قسم الشرق الأوسط وشمال افريقيا في المؤسسة أن اهتمام مركز جنيف بالمنطقة العربية انطلق قبل حلول الربيع العربي، إلا أنه تعزز بعدها.
يُـعتبر مركز جنيف للمراقبة الديمقراطية للقوات المسلحة، من المعاهد الهامة في جنيف التي تسهر على ترسيخ قواعد التسيير الديمقراطي والحكم الرشيد، وفقا لمعايير القانون الدولي وحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. ويتميز بتوجهه لترسيخ تلك المعايير بين صفوف قوات الأمن والجيش في الدول الأعضاء بالمركز، مستفيدا في ذلك من خبرة وتجربة دول ديمقراطية عريقة.
عن نشأة المركز وتخصصه في محاولة فرض إشراف ديمقراطي على قطاع يُـعتبر من أكبر القطاعات سرية وحساسية، مثل الدفاع والأمن، يقول السيد أرونولد لويتهولد، مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: “إن دورة حياة مفاهيم من قبيل الأمن والدفاع وما إلى ذلك، محدودة زمنيا. فقد تزامن تأسيس المعهد مع انهيار جدار برلين، وقد كان الشغل الشاغل آنذاك هو كيفية التوصل الى إشراف ديمقراطي على القوات المسلحة في الدول، وبالأخص الدول المستقلة حديثا في أوروبا الشرقية، بعد تفكك الإتحاد السوفياتي. أما اليوم، فقد تم توسيع المهام لكي تشمل، إلى جانب القوات المسلحة، قوات الأمن والمخابرات والقوات الخاصة، إضافة الى كل أجهزة مراقبة هذه المؤسسات الرسمية منها، مثل الحكومة ومختلف الوزارات المعنية، التي توكل المهام أو البرلمان وجهاز العدالة المكلفان رسميا بالمراقبة فيما يخص الأداء أو صرف الأموال. وأجهزة المراقبة غيْـر الرسمية، مثل منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام التي تمارس رقابة هامة تجعل قطاع الأمن اليوم كباقي قطاعات المجتمع، مثل قطاع الصحة أو التعليم وما إلى ذلك، أي كباقي القطاعات التي تقدم خدمة للمجتمع”.
التحول قد يستغرق أكثر من 20 عاما
من المعلوم أنه ليس من السهل تغيير التصرفات والممارسات، بل قد يكون من العسير تماما تغييرها في قطاع حيوي كثيرا ما كان يعتبر نفسه في العديد من الدول فوق القانون بل غير خاضع للمساءلة أصلا، مثل قطاع الأمن والجيش. لذلك، تبدو المفاهيم والممارسات التي يسعى مركز جنيف للمراقبة الديمقراطية للقوات المسلحة نشرها وتعميم تطبيقها، أمرا في غاية الصعوبة وقد يتطلب إنجاز المهمة الكثير من الوقت.
في هذا السياق، يقول السيد أرنولد لويتهولد: “يجب توقع فترة انتقالية قد تمتد إلى عشرين عاما على الأقل”، واستشهد بتصريح أحد الرسميين الذي اعترف بارتكاب قوات بلده لانتهاكات في مجال احترام حقوق الإنسان، عندما لخص المسألة بالإشارة إلى أن (الموضوع) “لا يتعلق بتغيير سياسة، بل بتغيير ثقافة وممارسات، وهذا أتعس، لأن هناك ثقافات تقبل أكثر من غيرها بعض الممارسات العنيفة”.
ومن المؤكد أن هذا التحول يتطلب تغييرا واسعا يشمل القوانين والتشريعات والسياسات والممارسات، بل حتى الأشخاص في بعض الأحيان إضافة إلى المؤسسات الساهرة على مراقبة قطاعات الأمن والجيش.
من أوروبا الشرقية إلى.. العالم
تاريخيا، بدأ مركز جنيف للمراقبة الديمقراطية للقوات المسلحة نشاطه قبل عشرة أعوام، كمعهد تخصص أوروبي – أطلسي لمساعدة دول أوروبا الشرقية على الخروج من المرحلة الشيوعية والإنتقال إلى الممارسة الديمقراطية، ولكن سرعان ما وسَّـع نشاطاته لتشمل مناطق جغرافية أخرى، ويقول مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المركز: “اليوم، أصبحنا بمثابة منظمة عالمية لها نشاطات في كل أنحاء العالم، بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا”.
ومع أن دول أوروبا الشرقية لا زالت تحظى بالأولوية في نشاطات المركز بعد تجربة العشرية الأولى، إلا أنه يواجه اليوم سيلا من الطلبات، سواء من القارة الإفريقية وأخيرا من المنطقة العربية، بحكم التحولات الطارئة فيها جراء الثورات الشعبية المتصاعدة فيها.
مع ذلك، يُحذر السيد لويتهولد من أن “أية خِـبرة، مهما كانت جيدة ومفيدة، فمن غير الممكن نقلها كما هي، لأن الأوضاع تتميز بخصوصياتها”، وهو الأمر الذي دفع المركز إلى توظيف خبراء يقدمون من أكثر من 30 بلدا “فنحن لا نقوم بعملية الإصلاح، بل ندعم ما يتصوره أبناء البلد وخبراؤها المحليون من إصلاحات”، مثلما يشرح السيد لويتهولد.
الإهتمام بالمنطقة سبق الثورات
لم ينتظر مركز جنيف للمراقبة الديمقراطية للقوات المسلحة اندلاع الثورات الشبابية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا للإهتمام بالمنطقة العربية، فقد أسس فروعا إقليمية له في بيروت (لبنان) وفي رام الله (الأراضي الفلسطينية) قبل سنوات، واليوم يكثف المسؤولون فيه الإتصالات من أجل دعم الدول التي تشهد تحولا ديموقراطيا ومرافقتها في مسيرتها باتجاه إصلاحات جذرية لأنظمتها الأمنية.
ويرى السيد أرنولد لويتهولد أن مردّ هذا الإهتمام يكمن في “اكتشاف المنطقة العربية لضرورة القبول برفع تحدي إدخال الإصلاحات على القطاع الأمني. وفي ذلك استجابة لمطلب الشارع العربي ولمطلب إقليمي ودولي في نفس الوقت”.
ومن أجل تعزيز قدرات هذا القطاع على ضمان استتباب الأمن على مختلف المستويات سواء كانت محلية أو إقليمية أودولية، يتوجب عليه أن يُـدخل إصلاحات تشمل طريقة عمله وتصرفاته وممارساته، وهي من أولويات التواجد في مكتب رام الله، ويقول السيد لويتهولد: “إن تواجدنا في رام الله يقترن بإيماننا بأن قطاع الأمن مُطالب بلعب دور هام لجلب الإستقرار. ولكن هذا الدور يجب أن يكون متماشيا مع الشرعية ومع احترام القانون وخدمة لصالح المواطن، وليس لصالح النظام (السياسي) أو لبضعة منتفعين من النظام”.
وفي الوقت الحاضر، تغطي نشاطات مركز جنيف للرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة كلا من الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد سعى المركز للإحتفاظ بعلاقات جيدة مع الطرفين (سلطة محمود عباس في رام الله وسلطة حماس في قطاع غزة)، حتى أثناء تعقد الخلافات الفلسطينية -الفلسطينية، لأن “إقصاء جهة، يعني إقصاء 50% من سكان الاراضي الفلسطينية من عملية الإصلاح”، مثلما يقول السيد لويتهولد.
أما في لبنان، فيرى مدير قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في المركز أن “التحدي مختلِـف ويتمثل في مطلب حكومي ومن شتى الأطراف لمساعدتهم على إصلاح هذا المجال من خلال التركيز على أربع قطاعات: قوات الأمن، التي هي معنية بالدرجة الأولى، ثم الحكومة والوزارات المعنية ومكتب رئيس الوزراء ورئيس الدولة، وثالثا، البرلمان، ورابعا منظمات المجتمع المدني”.
وبالنظر إلى أن المشكلة في لبنان تتلخص في معضلة “انضباط الميليشيات المسلحة”، فهل هي مشمولة بهذا البرنامج أيضا؟ يجيب السيد لويتهولد أن “الميليشيات ليست مندرجة في هذا البرنامج في لبنان في الوقت الحالي. لكن يمكن إدراجها إذا ما قررت الحكومة اللبنانية والمجتمع اللبناني تبني سياسة لتحديد كيفية التعامل مع الميليشيات، لأنها تخلق مشكلة بالفعل في البلد”، ويقر الخبير السويسري أن “كيفية التعامل مع الميليشيات، تمثل مشكلة في العديد من الدول”.
في العراق، انطلق نشاط المركز في عام 2007 حيث يؤكد السيد لويتهولد أنه “أول بلد عربي حاول التوصل إلى سن قانون لمراقبة جهاز المخابرات، علما بأن هذا الموضوع قد حذف من أولويات دول المنطقة منذ مدة”. وقد تبلور هذا التعاون في تنظيم ورش عمل في جنيف وفي العراق جمعت ممثلين عن الحكومة والبرلمان ومنظمات المجتمع المدني إضافة الى ممثلين عن جهاز الأمن والمخابرات، وسمحت للمشاركين بالإطلاع على تجارب دول أخرى سبقت في هذا الميدان وسنت قوانين لمراقبة عمل جهاز المخابرات.
في الوقت نفسه، ساعد المركز السلطات العراقية في عملية تحديد بنود الإتفاقيات المتعلقة بتواجد قوات أجنبية فوق أراضيها، إلا أن العقبة التي تواجه التعامل العادي مع البلد “تكمن في المشاكل الأمنية التي تحد من إمكانية القيام بنشاطاتنا في العراق لذلك نعوضها بنشاطات مشتركة خارج العراق”، مثلما يشرح السيد لويتهولد.
في السياق نفسه، تزامن تعاون مركز جنيف للمراقبة الديمقراطية للقوات المسلحة مع المغرب مع التحول الذي شهدته المملكة لدى تولي الملك محمد السادس العرش خلفا لوالده الحسن الثاني. ويتذكر مدير قسم الشرق الأوسط وشمال افريقيا بالمركز أن “المغرب قام عندها بعملية صعبة تتمثل في مراجعة طريقة عمل قوات الأمن، أي مراجعة أكثر من 15 الف ملف شكاوى تتهم قوات الأمن بممارسة التعذيب والإختفاءات القسرية”.
وقد أسفر هذا التمشي عن “اعتراف الدولة بأخطاء الماضي وانتهاج سياسة جديدة تحول دون تكرار تلك الأغلاط”، على حد تأكيد السيد لويتهولد. وعلى إثر إنجاز هذه المراجعة، قامت الرباط بإنجاز إصلاح يشمل “إعطاء قوات الأمن مهام محددة وواضحة وتحديد الصلاحيات المُوكلة لها، وإنشاء أجهزة رقابة تشرف على عملها، بما في ذلك قيام البرلمان بدور في هذا المجال”.
“من حماية الحاكم.. إلى حماية المُواطن”
مع اندلاع موجة الثورات والإنتفاضات الشعبية العربية انطلاقا من تونس ثم مصر، ومع المواجهات الجارية في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين حاليا، يتضح جليا أن المراقبة الديمقراطية للقوات المسلحة، أصبحت من المطالب الأساسية للشارع العربي. لذلك، فليس من المستغرب أن تجد العديد من المراكز والمؤسسات المتخصصة (مثل مركز جنيف للمراقبة الديمقراطية للقوات المسلحة) طريقها الى عدد من العواصم العربية بيسر، حيث يلاحظ السيد لويتهولد أن “ما ينتقده الشارع العربي اليوم ويلوم عليه الحكومات هو عدم إعارتها اهتماما لحقوق المواطن وسماحها بتفشي الرشوة بقوة وبحدوث اختلاسات كبيرة، وفي أغلب الأحيان سماحها لأجهزة الأمن فيها بالتصرف بطُـرق مشابهة لطرق تصرف شبكات الجريمة المنظمة”.
وفي نهاية المطاف، كانت النتيجة أن “هذه الأجهزة التي من المفروض أن تسهر على أمن المواطن، لم ترتكب عمليات تعذيب واعتقال تعسفي فقط، بل شاركت في بعض الأحيان حتى في تنظيم اعتداءات يُـطلق عليها مفهوم الإعتداءات الإرهابية”، على حد تعبير السيد لويتهولد. لذلك ترغب الدول التي تشهد اليوم إصلاحات جذرية (تونس ومصر أساسا) تغيير هذا الوضع كي تتحول قوات الأمن والقوات المسلحة عموما من “جهاز أمن لحماية الحاكم الى جهاز أمن لحماية المواطن”، على حد تعبيره. وقد شرع مركز جنيف للرقابة الديمقراطية للقوات المسلحة في الإتصال بكل من تونس ومصر منذ شهر فبراير 2011.
فيما يتعلق بتونس، يشير السيد لويتهولد إلى أن الحكومة “تعهدت بالشروع في مسار لا رجعة فيه فيما يتعلق بدمقرطة القطاع الأمني..”. وفي تطور غير مسبوق بالنسبة للتونسيين، عقد مركز جنيف للمراقبة الديمقراطية للقوات المسلحة في منتجع مونترو اجتماعا استمر يومين في شهر أبريل الماضي، شارك فيه ممثلون عن مختلف الوزارات (كالدفاع والخارجية والداخلية) وعن المؤسسات الأمنية إضافة الى ممثلي المجتمع المدني والإعلام لتحديد الأولويات بالنسبة لإصلاح قطاع الأمن التونسي بعد التغيير الذي شهدته البلاد. وهناك اليوم مشاورات بين مسئولي المركز وتونس لتحديد البرامج ذات الأولوية في عملية إصلاح القطاع الأمني.
وإذا كانت المفاوضات مع تونس قد قطعت شوطا هاما، فإن الوضع مع مصر اقتصر حتى الآن على عقد لقاءات أولية. وفي هذا الصدد، يقول السيد لويتهولد: “سنشرع في تعميق الحوار مع مصر قريبا”.
أخيرا، عبر السيد آرنولد ليوتهولد، الذي يعرف المنطقة العربية جيدا، عن الأمل في أن “يتم الإستماع اليوم إلى أصوات الشارع العربي المطالبة بالكرامة”. ومن أجل تحقيق ذلك فعليا، “يتطلب الأمر إدخال إصلاحات عميقة بما في ذلك على قطاع المخابرات والأمن والداخلية، لأن المواطن اليوم يُطالب بالاحترام الفعليّ وعلى الدولة أن تستجيب لهذا المطلب”.
تأسس عام 2000 بمبادرة سويسرية ويوجد مقره في مدينة جنيف.
تتمثل مهمته في مساعدة الدول على تبني نظم إشراف ديمقراطي على قطاعي الدفاع والأمن.
تشارك فيه حاليا 58 دولة ويوظف حوالي 120 شخصا من 30 جنسية مختلفة.
يقوم المركز برصد ممارسات الدول الديموقراطية في مجالات الأمن والدفاع من جهة، ويعمل على تبادل معارفة وخبراته مع باقي البلدان والمنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني.
تقدرميزانيته السنوية بحوالي 30 مليون فرنك سويسري، تسهم الكنفدرالية بالقسط الأكبر منها.
يرى المشرفون على المركز أن وجوده في جنيف وتأسيسه بمبادرة سويسرية، عوامل مهمة تمنحه “مصداقية لدى الدول الراغبة في إصلاح نظمها الأمنية ويضمن له ثقة الدول في تمتعه بالحياد والإستقلالية”.
قبل اندلاع الثورات الحالية، شملت نشاطات المركز في المنطقة العربية الأراضي الفلسطينية ولبنان والعراق والمغرب الأقصى.
بعد فرار بن علي وتنحي مبارك، كان المركز من أولى المؤسسات التي عرضت تقديم المساعدة على تونس ومصر في مسارهما الإصلاحي وخاصة في المجالات المرتبطة بإصلاح قطاع الأمن.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.