نحو تدخّل “انتقائي” لواشنطن في الشرق الأوسط
لم يتضمّـن الخطاب الذي ألقاه الرئيس أوباما يوم 21 يناير 2013 في مفتتح ولايته الثانية، أيّ إشارة إلى السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بل كرّسه بكليته لـ "الأجندة الليبرالية" وللدِّفاع عن دوْر الحكومة القوية في الداخل.
فهل يعني هذا أن الولايات المتحدة ستعود إلى العُـزلة وستنغلِـق على نفسها تحت وطْـأة أزماتها الداخلية، من جبل الدّيون الهائل، الذي تُعاني منه، ومعه الهاوية المالية المتواصلة، إلى الأكلاف الداخلية الضّخمة للمغامرات الخارجية، التي خاضتها في العقد الماضي (حربا أفغانستان والعراق وحدهما، بلغتا رقماً فلكياً يفوق التريليونيْ دولار)؟
البعض يعتقد ذلك، وهم يوردون المُعطيات التالية، التي يُـفترَض أن تؤكِّـد وجهة نظرهم:
– أمريكا تُـسرّع عملية الانسِحاب العسكري من أفغانستان، وفرنسا تُـسرّع من تدخُّـلها العسكري في جمهورية مالي وتحاول إعادة بسْـط نفوذها في منطقة الساحل والشمال الإفريقييْن.
– روسيا وإيران تضعان كل ثقلهما وراء نظام الرئيس بشار الأسد، والولايات المتحدة لا تفعل شيئاً سِـوى دعوة حُلفائها الأوروبيين والأتراك والخليجيين، إلى التصدّي لهما، فيما هي تُمارس سياسة الأيْـدي المرفوعة في سوريا.
– وقبل ذلك، فرنسا وبريطانيا تخوضان حرباً في ليبيا لإسقاط نظام العقيد معمر القذافي، فلا تفعل واشنطن شيئاً سوى مدّ يَـد العوْن اللّـوجستي لهما، حين تبيّن أنهما قد تتعثّـران عسكريا.
– وفضلاً عن هذا وذاك، تتحرّك إدارة أوباما الثانية لفتح مفاوضات مُباشرة مع إيران، وتُـعيّن ثلاثة “حمائم” في وزارتيْ الدفاع والخارجية ووكالة الإستخبارات (هاغل وكيري وبرينان على التوالي)، فيما تُمارس طهران المزيد من سياسة التصلُّب والتصعيد في كل أرجاء المنطقة، من مضائق دمشق وحلب إلى مضيَـق هُـرمز.
هذه المعطيات تعني، خاصة من منظور قِـوى “المقاومة والمُمانعة” في إيران وسوريا ولبنان، أن الإمبراطورية الأمريكية دخلت مرحلة “الإنحِدار التاريخي”، التي عرفتها قبلها كلّ الإمبراطوريات الغابِـرة في التاريخ، ولم تعُـد قادِرة على مواصلة سياسة التمدّد الاستراتيجي، بوصفها القوة العُظمى الوحيدة في العالم.
ويدعم أصحاب هذه الفَـرضية منطقهم، بالإستشهاد بالتقرير المُشترك الذي أصدرته قبل أيام 16 وكالة مخابرات أمريكية بعنوان “الاتِّجاهات العالمية 2030” (Global Trends 2030)، والذي أشار إلى أنه “مع الصعود السريع لدول أخرى، انتهت لحظة الأُحادِية القُـطبية، وبدأ الباكس أمريكانا (السلام الأمريكي)، الذي ساد منذ عام 1945، ينحسِـر بسرعة”.
واشنطن (رويترز) – بدأ الرئيس الأمريكي باراك أوباما الواثق فترة ولايته الثانية يوم الإثنين 21 يناير 2013، بدعوة حماسية إلى أمريكا أكثر اشتمالا تنبذ الضغينة الحزبية وتتبنى إصلاح قوانين الهجرة وحقوق المثليين ومكافحة تغير المناخ.
وفي مراسم اتسمت بالأُبَّـهة التقليدية أدى أوباما اليمين لتولي فترة ثانية في مبنى الكونغرس الأمريكي، لكن مراسم التنصيب كانت أقل بريقا مقارنة بالبداية التاريخية لرئاسته في عام 2009 عندما تولى المنصب مرتديا عباءة الأمل والتغيير كأول رئيس أمريكي أسود.
وعلى الرغم من هشاشة الإقتصاد والانقسام في واشنطن، قدم أوباما مراجعة للأولويات التي يعتزم متابعتها، لاسيما إعادة التأكيد على القضايا الديمقراطية الليبرالية الأساسية، معلنا أن الأمريكيين “متأهبون لهذه اللحظة” وعليهم “التمسك بها سويا”.
دعا أوباما وقد وخط الشيب شعره بعد أربع سنوات في منصبه، إلى وضع حد للتعصب الحزبي الذي اتسمت كثيرا به فترة ولايته الأولى في البيت الأبيض من خلال معارك مريرة بشأن الاقتصاد مع الجمهوريين.
وكان أوباما يتحدث إلى حشد يقدر بنحو 700 ألف شخص، وهو أقل من نصف الرقم القياسي البالغ 1.8 مليون شخص الذين احتشدوا أمامه قبل أربع سنوات. وقال أوباما “سنتحلى بالشجاعة لمحاولة حل خلافاتنا مع الدول الأخرى سلميا… سندعم الديمقراطية من آسيا إلى إفريقيا ومن الأمريكيتين إلى الشرق الأوسط، لأن مصالحنا وضميرنا يحثنا على التصرف من أجل أولئك الذين يتوقون إلى الحرية”.
وتحدث أوباما بعبارات أكثر تحديدا مما هو معتاد في خطاب التنصيب ووعد “بخيارات صعبة” لخفض العجز في الميزانية الإتحادية، دون المساس بشبكة الأمان الاجتماعي ودعا إلى إعادة تنظيم قانون الضرائب.
وصل الرئيس الديمقراطي إلى التنصيب للمرة الثانية على أرضية صلبة في ظل تأييد شعبي متزايد وسجل إنجازات في الفترة الأولى، مثل إصلاح الرعاية الصحية وإنهاء الحرب في العراق ومقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، لكن تلوح في الأفق معارك بشأن الميزانيات والحد من الأسلحة والهجرة. بيد أن أوباما يبدو أكثر جرأة لأنه لا يحتاج إلى الترشح للإنتخابات مرة أخرى.
(المصدر: نقلا عن وكالة رويترز بتاريخ 22 يناير 2013)
ممارسة دور “المايسترو”..
حسناً. أمريكا بالفعل في حالة انحِدار نِسبي، وآسيا في حالة صعود مُطلق. لكن هذا لا يعني أن تحليل أصحاب المُمانعة صحيح. فأمريكا، كما أشار تقرير أجهزة المخابرات نفسه، ستبقى حتى عقديْن أو ثلاثة، الأولى بين متساوين في العالم.
والأهم، أن هذا التحليل يُـسيء قراءة التطوّرات الرّاهنة في السياسة الخارجية الأمريكية. فإدارة أوباما الثانية لن تنشط للإنسِحاب من العالم، بل هي ستحذو – حسبما يبدو – حذْو كل الإدارات الأمريكية قبل حِقبة الحرب الباردة، التي لم تكن تتدخّل في الحروب والصِّراعات، إلا بعد أن تستنزِف الدول الأخرى نفسها فيها، وإلا بعد أن تجِد أمريكا مصلحة لها في التدخّـل “A la carte”، أي وِفق مَـزاجها وتفضيلاتها. حدَث هذا في الحربيْن العالميتيْن، الأولى والثانية، وحتى في حرب فيتنام التي لم تخُض أمريكا غِـمارها إلا بعد أن انهزمت فرنسا أمام الحركة الشيوعية العالمية.
إدارة أوباما تُـكرِّر الآن تاريخ ما قبل الحرب الباردة هذا. فهي، ولأهداف أخرى تتعلّق بتسوية أوضاعها الإقتصادية الداخلية والتّركيز على منطقة آسيا – الباسيفيك، تُـريد وقْف حربِها المُنفَـردة على الإرهاب أو الإسلام المُتطرّف، كما تريد وقْـف حلولها المُنفردة للأزمات المحلية والإقليمية الأخرى، وإلقاء مسؤولية ذلك على الأطراف الإقليمية والدولية المعنِية أو التي لها مصلحة في هذه الحرب، وهذا ينطبِـق الآن على فرنسا التي لها مصالح اقتصادية ضخْمة في مالي والجزائر وباقي أجزاء إمبراطوريتها السابقة في إفريقيا، وعلى الهند واليابان، لمُواجهة القوّة الصينية الصاعدة، وعلى الحركات الإسلامية التي تسْتَـلم السلطة الآن في المنطقة العربية، بشرط أمريكي، هو ضرْب الإسلام الجِهادي أو المتطرّف.
كما أنه ينطبق بالدّرجة الأولى على حليفها الأوروبي. فهي تقول الآن للإتحاد الأوروبي، إنها مستعدّة لأخذه معها في رحلتها الباسيفيكية وفي تشكيل سوق مُشتركة أوروبية – أمريكية، تكون نواة لـ “غرب كبير” جديد (وِفق تعبير زيبغنيو بريجنسكي)، قد يضم لاحقاً إليه روسيا وتركيا، شريطة أن يبدأ الإتحاد بدفع الأعباء المالية لحلف شمال الأطلسي (أمريكا تتحمّل الآن 75% من أكلافه).
أمريكا، بكلمات أخرى، قرّرت العودة إلى ممارسة دور “المايسترو” في السياسات الدولية، على أن تترك للقوى الأخرى خِيار المشاركة في الأوركِسترا بإشرافها.
.. وفي الشرق الأوسط
مثل هذا التوجّه، لن يكون انحِساراً استراتيجيا امريكيا، ولا وِلادة لتعدّدية قُطبية جديدة، بل حربا أمريكية أخرى، بوسائل أخرى، وهذا ينطبق، أكثر ما ينطبِق على منطقة الشرق الأوسط.
فعلى رغم أن الإنسحاب الأمريكي من العراق وتوقُّـع انسحاب سريع آخر للقوات الأمريكية من أفغانستان، حتى قبل الموعد المُقرر بكثير وهو عام 2014، وقُـرب وصول أمريكا إلى الإكتِفاء الذّاتي من النّفط والغاز، بفضل تكنولوجيا الاستِخراج من فحْم الشال shale))، قد يعني تقلُّـص الإهتمام الإستراتيجي لأمريكا بالشرق الأوسط، إلا أنه لن يُـلغي الحقيقة بأن أمريكا ستبقى اللاّعب الدولي الأول في المنطقة.
فكما لاحظت “فايننشال تايمز” (21-1-2013) فإن “الولايات المتحدة وحدها القادِرة على إنقاذ حلّ الدولتيْن في فلسطين من الإنهيار، ووحدها في وُسْعها، عبْر المفاوضات المباشرة مع إيران، إيجاد حلّ سِلمي لأزمة البرنامج النووي الإيراني، كما أنها وحدها في مقدورها إنهاء الحرب الأهلية في سوريا، إما من خلال اتِّـفاق مع روسيا أو عبْر تسليح بعض قطاعات المعارضة المسلحة السورية بصواريخ مُضادة للطائرات”.
كل ما هنالك، أن واشنطن لن تخوض بعدَ الآن الحروب المباشرة، كما في عهديْ الرئيس بوش، (إلا في حالة الضرورة القُصوى المتّصلة مُباشرة بالأمن القومي الأمريكي أو بأمن إسرائيل)، بل ستعمد إما إلى دفع القِوى الإقليمية والدولية إلى “القيام بالمهمّة” أو إلى ترْك الأطراف المُتصارعة، ومعها داعِموها الدوليين والإقليميين، كي يستنْـزِفوا بعضهم البعض، قبل أن تتدخّل هي ، تماماً كما حدث حين انضمّت إلى الحرب العالمية الأولى، بعد سنتين ونصف من بدئها، أو بعد نحو سنتين من اندِلاع الحرب العالمية الثانية.
وهذه نُـقطة يُمكنها أن توضّح سُلوكيات واشنطن الأخيرة، من منح فرنسا وبريطانيا مسؤولية قيادة التدخّل العسكري في ليبيا، إلى موقِف “الإنتظار”، الذي تمارسه منذ سنتيْن في سوريا، وصولاً الآن إلى دفْعها فرنسا وبريطانيا والجزائر إلى حسم الأمور ضد الجهاديين في مالي وبقية منطقة الساحل الإفريقي.
كما أنها (أي هذه النقطة) يجب أن تكون حاضِرة لدى أصحاب القرار في الشرق الأوسط، خاصة في سوريا وإيران، وهُـم يخطِّـطون للمرحلة المُقبلة من الحروب والصِّراعات في المنطقة. فالخطأ في الحسابات هنا، قد يكون قاتلا.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.