هدم مُجمّع سجون أبو سليم.. إشارة انفتاح من طرابلس أم محْـو لآثار مجْـزرة؟
قلّـما يُهدم سجن في العالم العربي، لا بل على العكس تحمل وسائل الإعلام العربية بين وقت وآخر أخبارا عن إنجاز ديمقراطي جديد يتمثل في بناء سجن أكبر مساحة وأمنع أسوارا وأشد رهبة.
وأسماء هذه الإنجازات، التي تُزهر فيها أغصان حقوق الإنسان وتتفتح ورود الحريات باتت مشهورة، مثل معتقل الجفر الصحراوي في الأردن وسركاجي في الجزائر وأبو غريب في العراق والمزة في سوريا وأبو سليم في ليبيا وأشقاؤهم، مع ذلك، يحدث أحيانا أن يُقوض أحد تلك المعالم بِـلا مقدمات ولا أسباب مقنعة فيغدو في لمح البصر حجرا على حجر، وكأن زلزالا ضربه بعد أن يكون “نزلاؤه” (طبقا للمصطلح المستخدم في بعض البلدان العربية)، قد نُقلوا طبعا إلى مكان بديل.
حصل ذلك في تونس، بعد إنشاء سجن جديد في ضاحية المرناقية، غرب العاصمة، فهُدم السجن المدني الضخم المعروف بسجن 9 أبريل 1938، وهو اسم الشارع الكبير الذي يطل عليه في وسط العاصمة، غير أن أجيالا من السياسيين شعرت بالصّـدمة لمحو أثر ذلك المكان الذي اختزن لحظات هامة من تاريخ تونس منذ سجن قيادات الحركة الوطنية في أعقاب مظاهرات دامية ضد الاحتلال الفرنسي أواخر ثلاثينات القرن الماضي، ومن ضمنهم الحبيب بورقيبة، الذي كان يُحب زيارة الزنزانة التي اعتُقل فيها بعدما اعتلى سدة الرئاسة، مرفقا بمصوري التليفزيون، وانتهاء بمعارضيه اليساريين والإسلاميين الذين ملؤوا زنازين ذلك السجن من دون انقطاع تقريبا في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
طي لفترة كالحة أم محو الذاكرة؟
أما في ليبيا، فوجّـه هدم مُجمع سجون أبو سليم، القريب من العاصمة طرابلس، هزّة لكيان النّـخبة التي ضمنت بقاءه عامِـرا وتعاونت أطيافها لكي تجعل منه النقطة الأعلى كثافة سكانية في البلد، حتى أنه صار ألصق بذاكرتهم وأعمق أثرا في وِجدانهم من بيوتهم نفسها، لكن بقدر ما أغاظ الهدم أولئك الذين شعروا بأن قِـطعة من ماضيهم دُفنت أمام أعينهم، شكّـلت الخطوة مفاجأة سارّة باغتت الرأي العام اللِّـيبي، لأنها قضت سريعا ومن دون مقدِّمات على كابوس مُخيف، كانت ترتعِـد الفرائص لمجرّد ترديد اسمه. وأربكت الخُـطوة في الوقت نفسه، المدافعين عن حقوق الإنسان والجمعيات الأهلية الحقوقية، إذ لم يكن هذا المجمّـع رمزا للمحاكمات وقمْـع المعارضين وأصناف التعسف، التي تمتلِـئ بها بيانات الجماعات والشخصيات السياسية المهاجرة وحسب، وإنما كان أيضا مسرحا لمذبحة رهيبة قُـتل فيها ألف ومائتي (1200) مُـعتقل، بحسب تأكيدات منظمات حقوقية.
وتُوجه تلك المنظمات الإتهام إلى ستة مسؤولين أمنيين وسياسيين ليبيين بالضلوع في تلك المجزرة، بينهم رئيس جهاز المخابرات السابق موسى كوسا، الذي تمّـت تسميته وزيرا للشؤون الخارجية في 2 مارس 2009، وعبدالله السنوسي، صِـهر العقيد معمر القذافي.
وأتت تلك المناقلات في إطار تعديل اللجنة الشعبية العامة (الحكومة)، الذي أقرّه مؤتمر الشعب العام (البرلمان)، لكن لا يمكن الجزم بمسؤولية أي من هؤلاء المسؤولين عن التصفِـيات الجماعية التي أبصَـرها مُجمّـع أبو سليم، طالما أن الملف في أيدي القضاء وأن الشهود الأحياء على الواقعة لم تُتح لهم الفرصة للإدلاء بشهاداتهم بعدُ.
ويمكن القول أن الأوساط الحقوقية الليبية اليوم منقسِـمة إلى فريقيْـن إجمالا في تقديرها لأهمية تلك الخطوة، ففيما يرى فريق أول أن المهم هو القضاء على رمز الفترة الحالكة التي شهدها البلد في الثمانينات والتسعينات، يتمنّـى آخرون لو لم تكن خطوة الهدم تمت لكي يتسنّـى للجهاز القضائي إعادة تركيب شريط الأحداث وضبط المعلومات وتحديد المسؤوليات.
آراء وتقييمات مختلفة
وفي هذا السياق، رفض نقيب المحامين السابق محمد إبراهيم العلاقي في تصريح خاص لـ swissinfo.ch الإدلاء بأي موقِـف من هدْم السِّـجن، وإن عبَّـر عن أمله بأن تُعطي التحقيقات الجارية بشأن القضية (في إشارة إلى أحداث أبو سليم) ثِـمارها. غير أنه امتنع عن الخوض في جوهر الموضوع، مُوضِّـحا أن “هناك من يعتبِـر أبو سليم رمزا لحادثة معيّـنة ويجب التحقيق فيها، وهناك من يرى أنه رمز لحقبة مضت، لكن يجب أن يبقى لكي يكون شاهدا عليها”.
وأفاد أن القاضي محمد البشير الخضار، وهو مستشار من المحكمة العليا انتُدب للقيام بالتحقيق في الحادثة من دون إعطاء تفاصيل أخرى. وكرّر النقيب العلاقي، الذي ترافع على كثير من المعتقلين السياسيين، التأكيد على أنه لا يريد الإدلاء بتصريحات “ضَـمانا لاستكمال التحقيق وعدم التأثير في سير العدالة”.
أما زميله النقيب عبد الحفيظ غوقة، فاتخذ موقفا مختلفا، وقال في تصريح خاص لـ swissinfo.ch إنه يُرحب بوصفِـه حقوقيا بهدم ذلك السجن، “لأنه رمز للمعاناة. فهو معتقل سياسي رهيب”، واستدرك مؤكِّـدا أنه “طالما أن هناك تحقيقات جارية، رأينا أن خطوة الهدم غير مناسبة إلى أن تُستكمل التحقيقات”.
مع ذلك، شدّد على أن سِـجن أبو سليم “كان رمزا لاحتجاز كثير من حريات الليبيين، ولذلك، كان ينبغي أن يتم التريث في هدمه”. وبيّـن أنه يتألف من مجموعة سجون تشكِّـل رمزا “كريها بالنسبة للحريات”، مُشيرا في الوقت نفسه إلى وجود سجون أخرى في ليبيا تقع تحت مسؤولية أمانة (وزارة) العدل، “لكن هذا المكان بالذات، ارتبط بانتهاكات واسعة لحقوق السجناء السياسيين، لذلك يجب إزالته”.
وأشار إلى أن “مناخ الحريات في ليبيا شهد تطوّرا منذ عام 2000، بفضل جهود مؤسسة القذافي التي يرأسها سيف الإسلام معمر القذافي، إذ تم الإفراج على كثير من السجناء السياسيين وأُحيل البعض الآخر إلى القضاء، بعدما كانوا لا يُحاكمون وبعضهم يموت داخل المعتقل”. وختم النقيب غوقة تصريحه بهذه العبارات “الوضع تحسّـن الآن في المعتقلات، والمناخ صار أفضل”.
لكن نشطين حقوقيين ليبيين في الداخل، نفوا أن تكون الانتهاكات في مجمع أبو سليم السجني، اقتصرت على الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، وأكّـدوا أن العقد الحالي أبصر أيضا انتهاكات بالغة، بينها اعتقال جمال الحاجي وفرج حميد وثمانية عناصر أخرى معهما، حُكِـم عليهم بالمؤبّـد بين شهري يونيو وديسمبر 2008 لمجرّد كونهم اتّـفقوا على خطة للتظاهر في الذكرى الأولى لمقتل 11 ليبيا خلال مواجهات عنيفة مع قوات الأمن في أواسط فبراير 2007. كذلك، قضت محكمة أمن الدولة في طرابلس بسجن المعارض إدريس بوفايد 25 عاما بتهمة محاولة قلب نظام الحكم والتّـخابر مع موظف من دولة أجنبية، في إشارة إلى اتصال مع دبلوماسي يعمل في السفارة الأمريكية في ليبيا، على ما يبدو.
وكانت عناصر الأمن الليبية اعتقلت أيضا جمعة بوفايد، شقيق إدريس وعبد الرحمن القُتيوي، لكنهما لم يظهرا مع المجموعة الأولى أثناء المحاكمة، ثم أخلت سبيلهم فجأة من دون أن تُوجّـه لهم أية تهمة.
وفيما رأى مقرّبون من سيف الإسلام أن هدم سجن أبو سليم خطوة تندرج في إطار خط انفتاحي يسعى لإنعاش المجتمع المدني ورد الإعتبار للمؤسسات، استنادا إلى تصريحات كان أدلى بها نجل الزعيم الليبي في تجمّـع شبابي في مدينة سَـبها في أغسطس 2008 وحض خلاله على “إقامة مجتمع مدني قوي وإدخال إصلاحات على النظام السياسي” الليبي، شكّـك آخرون في استعداد الحُـكم للتطور. واستدل هؤلاء المثقفون، الذين فضّـلوا عدم الكشف عن هُـوياتهم، بتراجع أركان النظام عن مشروع سَـن دستور للبلاد قبل سبتمبر 2009، وهي الخطوة التي بشّـر بها طويلا سيف الإسلام نفسه.
تشاؤم هنا.. وانتظار هناك
ونفى الباحث التونسي المتخصص في الشؤون الليبية توفيق المنستيري في تصريح لـ swissinfo.ch أن يكون هدْم مجمّـع سجون أبو سليم مؤشرا على بداية مسار انفتاحي قد يقوده العقيد القذافي، مؤكِّـدا أن الفترة الوحيدة التي أبصرت ارتِـخاء القبضة الأمنية، كانت بين 1987 و1989، أي في أعقاب الغارات الأمريكية على طرابلس وبنغازي في 1986 والتي دفعته إلى نوع من البراغماتية، سُـرعان ما محاها الصِّـراع المفتوح منذ تلك الحِـقبة مع مُكونات الحركة الإسلامية.
أما الباحث الغربي رونالد سان جون بروس، الذي ألّـف كُـتبا عدّة عن ليبيا، من بينها “ليبيا والولايات المتحدة: قرنان من الصِّـراع” (2002) و”ليبيا من مستعمرة إلى الاستقلال” (2008)، فاعتبر أن الإختبار الحاسِـم الذي مرّ فيه نجل الزعيم الليبي سيف الإسلام معمر القذافي، الذي يُصنّـف رمزا للحركة الإصلاحية، هو ضربه موعد الأول من سبتمبر الماضي، بوصفه الحدّ الأخير لسَـن دستور للبلاد وإقامة انتخابات حرّة، قائلا “صحيح أنه أثار هذا الاحتمال مرات عدّة في الماضي، لكن الحوار الذي تمّ بحضور أعضاء الحكومة في أواسط نوفمبر 2008 وتزامن مع مظاهرات عنيفة في الكُفرة، كان المرة الأولى التي ضبط فيها موعِـدا مُحدّدا لإجراء انتخابات ديمقراطية وإيجاد دستور للبلاد”.
بهذا المعنى يُرجّـح أن يكون هدْم مجمّـع سجون أبو سليم، ليس الخُطّـاف الذي يُبشر بحلول ربيع ديمقراطي في ليبيا، بقدر ما شكّـل التفافا على طلب المنظمات الحقوقية استكمال إجراء تحقيق محايِـد وشفّـاف عن المجزرة التي جرت في هذا المجمع. فهل أجهـض الطّـلب بعد محو بعض (أو كثير؟) من أوراق الملف؟
رشيد خشانة – تونس – swissinfo.ch
طرابلس (رويترز) – قالت المؤسسة الخيرية الرئيسية في ليبيا ان الحكومة أفرجت يوم الخميس عن 88 عضوا بجماعات اسلامية متشددة سجنوا لتامرهم على الاطاحة بحكومة الزعيم الليبي معمر القذافي.
وقالت جمعية حقوق الانسان في بيان “في هذ اليوم الذي نهنيء فيه المهتمين بقضايا حقوق الانسان كافة بما تحقق من نجاح في الافراج عن 45 عنصرا من أعضاء الجماعة الليبية المقاتلة بالاضافة الى 43 عنصرا من المنتمين لجماعات جهادية مختلفة”. والجمعية جزء من مؤسسة القذافي التي يرأسها سيف الاسلام ابن الزعيم الليبي. وقال شهود ان السجناء الثمانية والثمانين خرجوا من بوابات سجن ابو سليم.
وقال صلاح عبد السلام الرئيس التنفيذي للجمعية لرويترز، ان الافراج توج جهود سيف الاسلام.
وتقول جماعات معنية بالدفاع عن حقوق الانسان ان قوات الامن الليبية قتلت 1200 سجين عام 1996 في ابو سالم الذي يقع على مشارف طرابلس وسط قتال انتشر على نطاق واسع بين الجيش ومتشددي الجماعة الليبية المقاتلة في عدة بلدات. وخاض زعماء الجماعة الليبية المقاتلة في ابو سليم محادثات مع السلطات على مدار العامين المنصرمين للوصول الى اتفاق تنبذ الجماعة بموجبه العنف وتفسيراتها المتشددة للاسلام مقابل الافراج عن أعضائها المسجونين.
وذكرت مصادر سياسية أن السلطات كانت قد أفرجت عن اكثر من 130 عضوا بالجماعة على دفعات.
وذكرت صحف ليبية أن قيادة الجماعة الليبية المقاتلة المسجونة أصدرت كتابا الشهر الماضي قالت انه لقي اشادة من علماء دين مسلمين بوصفه “يفتح نافذة جديدة” للترويج لوجهة نظر اسلامية معتدلة بين الاسلاميين.
ويشكك علماء دين مسلمون اخرون في الشرعية الفكرية للكتاب مجادلين بأن زعماء الجماعة الليبية المقاتلة المحبوسين لا يتمتعون بالحرية اللازمة للتعبير عن فكرهم الحقيقي.
كانت الجماعة الليبية المقاتلة قد خاضت معارك دموية في الشوارع والجبال في التسعينات وقتلت عشرات الجنود ورجال الشرطة في اطار محاولاتها للاطاحة بالقذافي.
وذكرت مصادر سياسية وامنية ليبية أن تنظيم القاعدة سعى الى خطب ود الحركة الليبية المقاتلة لتنضم الى جناحه بشمال افريقيا لكن معظم قيادات الجماعة تعارض الاستراتيجية العالمية لتنظيم القاعدة وتعتقد أن من غير المرجح أن تحدث اي تغيير في ليبيا.
وأشارت مصادر سياسية في ليبيا الى أنه بالافراج عن السجناء يوم الخميس يعتقد أنه لم يعد سوى 40 من اعضاء الجماعة الليبية المقاتلة و11 جهاديا اخر في السجون الليبية.
(المصدر وكالة رويترز بتاريخ 15 أكتوبر 2009)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.