هل انتقل مركز ثقل حرب واشنطن على “الإرهاب” إلى منطقة الساحل؟
قال نائب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق مارتن إنديك لـ swissinfo.ch: "إن أمريكا تعبت من الحروب وتريد الخروج من الشرق الأوسط عسكريا والإكتفاء بالمشاركة السياسية"، وهو موقف يبدو منسجِما مع إقدام الرئيس أوباما، على سحب القوات الأمريكية من العراق واعتزامه مغادرة أفغانستان في عام 2014.
في الوقت نفسه، يُلاحظ المراقبون توغُّـلا أمريكيا متزايدا في منطقة شمال إفريقيا والصحراء الكبرى. فهل تتجه الأمور إلى نقل مركز ثِقل “الحرب على الإرهاب” إلى منطقة الساحل والصحراء؟
على رغم تأكيد مسؤولين أمريكيين سابقين، أن الولايات المتحدة انفتحت على العالم الإسلامي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، رأى غالبية المتحدثين في فعاليات المنتدى السنوي العاشر “أمريكا والعالم الإسلامي” العكس، مُعتبرة أن واشنطن انسحبت تدريجيا من العالم الإسلامي في السنوات الأخيرة، وأنها تريد أن تنهي الحروب المُندلعة في باكستان وأفغانستان، وهو ما أكّدته سياسات إدارة الرئيس باراك أوباما، التي جنحت إلى سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، وكذلك من العراق.
وفي المقابل، ما لم يتطرّق له المتحدثون في منتدى “أمريكا والعالم الإسلامي”، الذي استضافته الدوحة مؤخرا على مدى ثلاثة أيام، هو انتقال الإهتمامات الأمنية الأمريكية من آسيا إلى منطقتيْ شمال وغرب إفريقيا، بعدما باتت الأجهزة الأمنية الأمريكية تعتقد أن تنظيم “القاعدة” نقل مركز عملياته إلى هذه المنطقة.
وبحسب الكاتب السعودي خالد الدخيل، باتت واشنطن في عهد أوباما ترى أن تركيزها في الشرق الأوسط، يجب أن يكون على الخليج العربي وشمال إفريقيا، وبخاصة مصر، وأن تتقاسم النفوذ مع روسيا في الشام والعراق.
دعت الأمم المتحدة بلدان الساحل الى تعزيز أنظمة الإنذار وتبادل المعلومات وتنسيق عملياتها لمراقبة حدودها من أجل التصدي للإرهاب والجريمة المنظمة، وذلك في تقرير يتضمن “استراتيجية متكاملة” للمنطقة.
وقد أعد النص الذي حصلت وكالة فرانس برس على نسخة منه، مكتب الموفد الخاص لمنطقة الساحل رومانو برودي وسلمه يوم الجمعة 15 يونيو 2013 الامين العام للامم المتحدة بان كي مون الى الاعضاء الخمسة عشر لمجلس الامن.
وذكر التقرير أن الامم المتحدة تريد مساعدة بلدان الساحل على “وضع آليات منسقة لمكافحة الارهاب والجريمة المنظمة حتى تعمل الشرطة وحرس الحدود والجيش والجمارك سوية بطريقة متماسكة وفي اطار احترام حقوق الانسان”.
ومن بين الافكار الكثيرة المطروحة، عقد “اجتماع اقليمي لاجهزة الاستخبارات لتبادل المعلومات حول تهديد القاعدة وفروعها”.
وتقترح الامم المتحدة ايضا تقديم “مساعدة تقنية” لعناصر الشرطة وقضاة البلدان المعنية وتدعو هؤلاء الى مزيد من التركيز على تمويل الانشطة غير الشرعية. واحدى النقاط المطروحة هي “تبادل المعلومات … بين المطارات في أمريكا اللاتينية وافريقيا الغربية والساحل وبلدان المغرب واوروبا للتصدي لعمليات التهريب من مصدرها والى الجهة المرسلة اليها ولدى انتقالها”.
واشار التقرير الى ان “ثمانية عشر طنا من الكوكايين تبلغ قيمتها التجارية 1,25 مليار دولار انتقلت في 2012 عبر افريقيا الغربية وانتقل قسم منها عبر الساحل”.
واضاف التقرير ان الهدف من هذه “الاستراتيجية الواسعة المتكاملة التي اعدتها الامم المتحدة لمنطقة الساحل”، هو التصدي لكل جوانب الازمة: تحسين الادارة ومكافحة الجريمة (تهريب مخدرات واشخاص واسلحة وسجائر وتبييض اموال) ومكافحة الارهاب وتقديم المساعدة الانسانية الى 11,4 مليون شخص مهددين بالجوع، منهم خمسة ملايين طفل تقل اعمارهم عن خمس سنوات.
وقال بان كي مون في هذا التقرير “يجب أن لا نتعاطى مع المشاكل في مالي بطريقة منعزلة”. واضاف ان “احلال السلام والامن الدائمين يتطلب عملا جماعيا لمعالجة جذور عدم الاستقرار الذي يتخطى حدود مالي”.
واعرب بان كي مون عن “قلقه البالغ من الصلات الواضحة بين مجموعات الجريمة المتورطة في تهريب المخدرات والمجموعات المسلحة الناشطة في المنطقة”. وقال “يجب ات يتزامن تركيزنا على الامن والدبلوماسية والتنمية … بما في ذلك العلاقات مع افريقيا الغربية والمغرب العربي”.
(المصدر: وكالة الصحافة الفرنسية أ ف ب بتاريخ 15 يونيو 2013)
جولة جديدة
من دلائل هذه الرُّؤية الإستراتيجية الجديدة، أن ثمانية مسؤولين أمريكيين معنيين بالشؤون الاستراتيجية والعسكرية، زاروا هذه المنطقة العام الماضي. أما في السنة الجارية، فتوالت الزيارات ذات الطابع الأمني إلى عواصم المِنطقة، وآخرها جولة ويندي شيرمان، نائبة وزير الخارجية الأمريكي، المكلفة بالشؤون السياسية، التي استمرت أسبوعا، وشملت كلا من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، بالإضافة إلى مصر.
كما أن من دلائلها أيضا، إرسال قوات تدخُّل سريع إلى قاعدة “سيغونيلا”، جنوب إيطاليا كي تكون جاهزة للإنتقال إلى أية نقطة في شمال إفريقيا عند الإقتضاء، وهي قوة قِـوامها 500 جندي مزوَّدين بسِتّ طائرات من طِراز “في 22″، القادرة على نقل أسلحة خفيفة وقذائف هاوْن، إضافة إلى المعدّات الفردية، التي تُستَخدم في الإشتباكات المحدودة وحماية المنشآت وإجلاء الأشخاص أو البحث عن المفقودين.
وكان جورج ليتل، المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، أوضح أن تلك القوات جاهزة للتدخل “إذا ما تدهْـور الوضع أو إذا ما طُـلب منّا ذلك”، مؤكِّدا أن العسكريين الذين سيتولّون تأمين المقرّات الدبلوماسية أو إجلاء الدبلوماسيين الأمريكيين، باتوا يتمركزون في تلك القاعدة الأطلسية.
وأتت هذه الخطوة في أعقاب الإنتقادات الحادّة التي تعرّضت لها وزارة الدفاع الأمريكية في الأشهُـر الماضية، بسبب عجزها عن إرسال قوة تدخُّـل في الوقت المناسب، للتصدّي للهجومين اللذين استهدفا السفارة الأمريكية في تونس والقنصلية الأمريكية في بنغازي. وكان الجنرال كارتر هام، الرئيس السابق للقيادة الأمريكية بإفريقيا عبَّـر بشكل صريح خلال جولة مغاربية قام بها في مارس 2013، قبل تسليم القيادة إلى خلَـفه، عن مخاوِف الإدارة الأمريكية من انتشار الجماعات المرتبطة بـ “القاعدة” في كل من تونس وليبيا.
فرنسا ليست ببعيدة عن تلك الهواجس الأمنية في رؤيتها لمنطقة الساحل والصحراء، إذ أكّد رئيسها فرانسوا هولاند، أن العلاقة بين بلده وإفريقيا “ينبغي أن تتوسّع الآن عبْر الدعم الذي ستُؤمنه باريس للجيوش الإفريقية، لتدافع عن نفسها، على أن يشمل ذلك آفة الإرهاب”. وأضاف “أشدِّد على وجوب أن يتولّى الأفارقة مُستقبلا أمن قارّتهم، حتى لو كانت فرنسا إلى جانبهم دائما”.
من الجزائر إلى مالي
وعلى رغم فعالية الجيش الجزائري في قتال الجماعات المسلحة، ما زالت الإدارة الأمريكية تحمل كثيرا من الهواجس في شأن قُدرة تلك الجماعات على القيام بعمليات استعراضية ومُؤلمة في الآن نفسه، أسْوة بالعملية التي كان المجمّع الغازي تيغنتورين، في أقصى الجنوب الشرقي للجزائر، مسرحا لها، وأدّت إلى مقتل عشرات من الرّهائن الغربيين، الذين احتجزهم الخاطفون.
أما في مالي، فمع نجاح القوات الفرنسية والإفريقية في طرد التنظيمات الأصولية المسلحة من مُدن الشمال، وخاصة تنظيمات “أنصار الدين” و”التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا”، تشير جميع التقارير إلى أن الجِسم الرئيسي للجماعة الأم، وهي “القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي”، ما زال سليما وتجمّعت عناصره على الحدود الليبية المالية، ناقِلة الأسلحة الثقيلة التي كان الجيش الفرنسي يُخطِّط لتدميرها إلى هناك. ويُذكِّر هذا الإنسحاب التكتيكي بالطريقة التي توخّتها حركة “طالبان” في خريف 2001 أمام التفوق الجوي والتكنولوجي الكاسح لقوات الغزو الأمريكية.
ويعتقد خبراء أن قلّة الخِبرة العسكرية للقوات الإفريقية التي ستحلّ محلّ القوات الفرنسية وتراجُع طلعات الطيران الحربي الفرنسي في سماء المنطقة، سيُحدثان نوعا من الفراغ الأمني في مالي، وهو ما حذّرت القيادة العسكرية الجزائرية من مُضاعفاته، خلال الإجتماع الأخير لرؤساء أركان “دول الميدان”، (موريتانيا ومالي والنيجر والجزائر) في نواكشوط، والذي خصّص لدرس الوضع الأمني الجديد في مالي، بعد انسحاب القوات الفرنسية من مسرح العمليات.
وقد يكون الـ 80 ألف جندي الذين يجري إعدادهم من دُول الميدان لتعويض القوات الفرنسية، غير كافٍ للسيْطرة على منطقة شاسعة، تمتد من حدود ليبيا الجنوبية إلى الحدود الشرقية لموريتانيا، خاصة أن كتيبتيْن مصنّفتيْن كأخطر كتائب “القاعدة” في المنطقة، وهما “يوسف بن تاشفين” و”طارق بن زياد”، لجأتا إلى كهوف مُرتفعات إيفوغاس، شمال مالي.
كما حذّر الرئيس التشادي إدريس ديبي في حديث أدلى به أخيرا لصحيفة “لوفيغارو” الفرنسية، من أن “الجماعات المسلّحة التي كانت بلا أرض في الماضي، صارت لديها مواطِئ قَـدَم شاسِعة في ليبيا، بما فيها مُعسكرات تدريب في الجبل الأخضر وجماعات تتشكّل في بنغازي وطرابلس وسَبْها، وهي لم تكُن تملك أسلحة، فباتت تحصل عليها بسهولة ومن جميع الأنواع والأحجام، كما أنها كانت تعمل في الخفاء وصارت اليوم تستعرِض قوّتها وتبشِّر بتطبيق الشريعة في إفريقيا” على حد تعبيره.
أكثر من ذلك، نبّه آدم إنتوس ودرو هنشو الصحفي في صحيفة “وول ستريت جورنال”، إلى أن بؤرة جديدة للإضطرابات تتمدّد في جنوب غربي ليبيا، الذي يبعُد نحو 1600 كيلومتر عن مالي، ويقع خارج مدى الطائرات الحربية الفرنسية، وفي منطقة لم تكُن تحظى باهتمام أمريكي أو غربي يُذكر سابقا. ولعل هذا ما دفع الولايات المتحدة إلى اختيار مطار نيامي عاصمة النيجر، لإقامة قاعدة للطائرات بلا طيار فيها بعد انتهاء العمليات الرئيسية في مالي.
هل هي بداية أفغنة أو باكستنة شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء؟ يُجيب مارتن إنديك، مساعد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق بالنّفي، مؤكِّدا لـ swissinfo.ch أن الولايات المتحدة لن تخوض حروبا جديدة ضدّ الإرهاب بعد الخروج النهائي من أفغانستان في 2014، لكنها ستنخرِط في الجهود الدولية للحرب على الإرهاب، مثلما حدث في مالي”. وأضاف إنديك، الذي يتولى حاليا منصب مدير السياسة الخارجية في مركز بروكينغز بالولايات المتحدة أن “أمريكا تعبت من هذه الحروب وتريد الخروج من الشرق الأوسط عسكريا، والإكتفاء بالمشاركة السياسية”.
أكثر من ذلك، قال إنديك، إن أمريكا بدأت الخروج رُويدا رُويدا من المنطقة، لأنها بدأت تقلِّل من اعتمادها الكلِّي على نفط الخليج، إلا أن نهاد عوض، المدير العام لمجلس العلاقات الأميركية الإسلامية (كير)، لم يشاطر هذه التوقّعات وقال لـ swissinfo.ch، “إن الولايات المتحدة لن تخرُج من ملفّات الشرق الأوسط ولا من جغرافيته في الخمسين سنة المقبلة، لأنه يملِك موارد طبيعية مهمّة تحتاج إليها”، وإن أقَـر بأن الستين سنة الماضية “شهِدت علامات استِفهام كثيرة حول ابتعاد سياسة الولايات المتحدة عن قيمها وعن القيم الكونية عموما”.
قاعدة أمريكية في النيجر؟
على أرض الواقِع، تتعدّد الإشارات والخُطوات التي تؤكّد عكس ما ذهب إليه مارتن إنديك. فقرار إنشاء قاعدة للطائرات التي تعمَل بلا طيار في النيجر، يُذكِّـر بالغارات التي تقوم بها القوات الأمريكية حاليا في أفغانستان وباكستان واليمن، عبر استخدام هذا الصنف من الطائرات، وهي غارات يعزوها الأمريكيون إلى صعوبة قِتال “القاعدة” في مناطق تفتقِر الحكومات فيها إلى القوات اللاّزمة للسيطرة على حدودها الشاسعة.
ومن الواضح أن وجود 300 تنظيم مسلّح في ليبيا، إلى جانب تكاثُـر العمليات التي ينفِّذها مسلحون في النيجر وتشاد ونيجريا، بما فيها العملية الأخيرة في الموقع الذي قرّرت أمريكا إنشاء قاعدتها فيها، يشكّلان حافزا على المُضي قدما في هذا القرار.
وفي الأيام الأخيرة، أظهرت خارطة تنصّت وكالة الأمن القومي الأمريكي التي تسرّبت إلى صحيفتيْ “الغارديان” و”واشنطن بوست”، أن ليبيا حلّت في المرتبة الأولى من اهتِمامات الإستخبارات الأمريكية بين بلدان المغرب العربي، تلَـتْـها الجزائر. ويعود الإهتمام بليبيا إلى اغتيال السفير الأمريكي السابق لديها وتمركز جماعات مرتبطة بـ “القاعدة” في جنوب البلاد. أما الجزائر، فيُعزى الاهتمام بها إلى وجود شركات طاقة أمريكية تنشُـط في جنوبها، إلى جانب حدوث العملية الخطِرة لاحتجاز الرهائن في موقع عين أم الناس، القريب من الحدود المشتركة مع ليبيا.
ويمكن الإشارة هنا، إلى الخطوات التي قام بها اللِّواء يوسف المنقوش، رئيس الأركان الليبي السابق، قبل عزله، والمُتمثلة في تشكيل وِحدة مُحترفة لحرس الحدود، تقوم بتسيير دوريات مراقبة في التّخوم الصحراوية، وإنشاء وِحدة منفصلة لحماية المنشآت الحيوية، مثل حقول النفط أو التجمّعات التي يُقيم فيها الموظفون العاملون فيها.
ولا شك في أن القوات الليبية المسلّحة تفتقِـر حاليا إلى التقنية المُتقدِّمة المحمولة جوا، الضرورية لمراقبة المساحات الشاسعة من الصحراء، لكن قد يكون المنقوش، فكر في اكتساب تلك التقنية، لولا أن الصِّراع بين المؤسسات الشرعية والميليشيات المسلحة، أطاح به. وبرزت نتيجة فوضى السلاح اليوم، من خلال تقرير حديث للأمم المتحدة، أصدرته يوم 9 أبريل 2013، وأكّدت فيه أن السلطات الليبية لم تستطِع أن تسيْطر سوى على 40% فقط من الأسلِحة المتوسطة والثقيلة، التي كانت تشكِّـل ترسانة القذافي، التي تُقدّر بمائة ألف قطعة سلاح، تشمل صواريخ أرض جو وقذائف وأدوات اتّصال وسواها. وبحسب التقرير، فقد تسرب كثير من تلك الأسلحة إلى كل من تونس والجزائر ودول الساحل.
من هنا، يمكن أن يستدرج هذا المشهد المتفجِّر القيادة الأمريكية إلى ورْطة جديدة في منطقة الساحل، لتعقب فروع “القاعدة” هناك، وأن يُغريها ضُعف الجيوش المحلية بتولّي المهمة بنفسها، وإن بالأسلوب الجوّي المُعتمَـد في اليمن وباكستان.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.