سويسرا تعزّز التعاون التجاري مع الصين في ظلّ توتّرات بين بكين والغرب
بينما يدير الغرب ظهره للصين، تعمل سويسرا على تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع العملاق الآسيوي. ولكن ما العواقب المحتملة التي قد تترتب عن ذلك؟
تبنى الغرب موقفاً متشدداً تجاه الصين. فقد فرض الاتحاد الأوروبي تعريفات جمركية عقابية على السيارات الكهربائية الصينية، وتستعد الولايات المتحدة لشن حرب تجارية على العملاق الآسيوي. ويحاول العديد من الشركاء التجاريين الغربيين توسيع سلاسل التسليم الخاصة بهم، وإقامة تحالفات جديدة. ويهدف هذا النهج، المعروف باسم إزالة المخاطر، إلى تفكيك التبعيات الحرجة.
فتعتبر عدة بلدان، أنّ الزمن الذي كان فيه الربح هو المحدد الأساسي لرسم علاقاتها مع الصين قد انقضى. وتعدّ سويسرا الاستثناء الوحيد، إذ تتمسك بنهجها في تكثيف علاقاتها الاقتصادية مع القوة الآسيوية. فمنحت حكومتها في سبتمبر، الضوء الأخضر للمضي قدماً في المفاوضات حول توسيع اتفاقية التجارة الحرة مع الصين.
لقد ربطت سويسرا بالصين علاقات صداقة على الدوام. واعترفت من أوائل الدول الغربية، بجمهورية الصين الشعبية تحت حكم ماو تسي تونغ عام 1950. وسيحتفل البلدان قريباً بالذكرى الخامسة والسبعين لهذه العلاقة المتميزة.
المزيد
شركات تجارية سويسرية تطمح إلى تحقيق أحلامها في الصين
سويسرا” في وضع تفاوضي جيد “مع الصين
ومع ذلك، فقد تغيّر الوضع عما كان عليه قبل عشر سنوات، عندما دخلت اتفاقية التجارة الحرة حيز التنفيذ لأول مرة. فيشهد الاقتصاد الصيني انكماشا. كما يدير أهم شركاء سويسرا التجاريين، الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، الظهر للصين حاليا. ويهدد الخطاب القومي الذي تتبناه السلطات في بكين بتصعيد النزاع مع تايوان. فهل يمكن أن تكون سويسرا ساذجة إلى هذا الحد؟
ليس ذلك ضروريا في رأي وان-هسين ليو، الخبيرة في المفاوضات والاستثمارات الدولية في معهد كيل للاقتصاد العالمي، التي تجيب: “بعد عشر سنوات، من المنطقي أن تجدّد سويسرا الاتفاقية الحالية “.
وتوضح قائلة:” بسبب التوترات الجيوسياسية الحالية، قد تفكّر الصين في اعتماد بعض التدابير الحمائية في مرحلة ما. ويمكن لسويسرا حماية مصالحها أفضل بتحديث الاتفاقية”.
وتشرح ليو تحديث اتفاقية التجارة الحرة في إتاحة الفرصة لسويسرا للمطالبة بتعديل بعض قواعد اللعبة، كما هو الحال في بعض مجالات التجارة، وحماية البيانات، وتبادلها على الساحة الدولية.
وترى أن سويسرا في موقف تفاوضي جيد في ما يخصّ حقوق الإنسان. فتقول: ”يُعتبر الاتفاق مهما خاصّة بالنسبة إلى الصين حاليا، لأنه يتيح وصولها إلى السوق الأوروبية “. ويُعدّ الأمر على أهميّة كبيرة بالنسبة إلى البلد الآسيوي، بالتزامن مع ابتعاد الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي أيضاً عنه. وتبدو ليو مقتنعة بأن “الصين ستفعل ما بوسعها حتى لا تفقد هذا الوصول”.
وفي المقابل، يمكن للحكومة السويسرية أن تستغل هذه التبعية للدعوة إلى تعزيز حقوق الإنسان وحماية البيئة. لكن، رفضت لجنة تابعة لمجلس النواب السويسري حتى الآن، إضفاء صبغة الإلزام على القواعد الخاصة بهذه القضايا في الاتفاقية. فأعلنت العديد من المنظمات والأحزاب ذات الميول اليسارية، عن إجراء استفتاء لزيادة الضغط.
الشركات السويسرية تعاني تبعية كبيرة
وتُعدّ الصين من ناحية أخرى، وبالنظر لحجمها الكبير فقط، سوقاً أساسية لبلد صغير موجه للتصدير مثل سويسرا. كما تمثّل ثالث أهم شريك تجاري لدولة جبال الألب. ووفق أمانة الدولة للشؤون الاقتصادية (SECO)، بلغت قيمة صادرات سويسرا إلى الصين عام 2023 40،6 مليار فرنك سويسري. وبلغ إجمالي الواردات 18،4 مليار فرنك سويسري. ولكن تباطأ نمو حجم التجارة مقارنة بالسنوات القليلة الماضية. ويظل الذهب أهمّ الصادرات، لكنه مستثنى من اتفاقية التجارة الحرة بين البلديْن.
ومع ذلك، يقول دانيال كيندرمان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ديلاوير: “لن يكون الانفصال عن الصين مستداماً للاقتصاد حاليا“. ويُستحسن أن تنوّع سويسرا أسواقها الرئيسية. وقد اتضح ذلك خلال جائحة كوفيد-19. ويؤدي ضعف النمو الاقتصادي في الصين الآن إلى زيادة الضغط على الشركات السويسرية لتوسيع خياراتها.
وأظهر مسح أجراه معهد أبحاث الظرفية الاقتصادية (KOF) التابع للمعهد التقني الفدرالي العالي في زيورخ عام 2023، اعتماد خُمس الشركات الصناعية السويسرية من متوسط إلى كبير، على المدخلات الحيوية من الصين.
ويعد قطاع الإلكترونيات الأكثر تبعيةً، ويليه قطاع الصناعات الدوائية والكيميائية. وتقرّ أقلّ من خُمس الشركات بعدم قدرتها على تقييم مدى اعتمادها على الصين. وعموما، لم يتخذ أكثر من نصف الشركات التي شملها الاستطلاع أي تدابير، بينما اتخذها أقلّ من الثلث فقط، أو يخطّط لاتّخاذ ما يصل إلى ثلاثة منها، مثل زيادة التوريد من بلدان أوروبية أخرى.
ويُعتبر النهج السويسري الفريد من نوعه في الولايات المتحدة عمليا. فيقول كيندرمان: “من الواضح أن الحكومة السويسرية ترى أن نهج “العمل كالمعتاد” لا يزال خياراً قابلاً للتطبيق. ولكن، من غير الواضح إلى متى ستستمر هذه الاستراتيجية في العمل”، خاصة بعد فوز ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية، الذي قد ” ينتهج سياسة تجارية متشدّدة جدا ضد الصين، وقد يؤثر ذلك أيضاً في سويسرا، من بين دول أخرى “.
المزيد
ويُثير هذا التطوّر القلق في القطاع الصناعي السويسري أكثر من السياسة. إذ يقول آلان غراف، كبير المستشارين والمستشارات في مؤسسة “سويسرا غلوبال إنتربرايز“ السويسرية (Switzerland Global Enterprise) في مقال نشرته وكالة بلومبرغ: “يكمن كبر مصدر قلق للشركات في بعض الصناعات، في مدى تأثير معاملاتها مع الصين في معاملاتها مع الولايات المتحدة “.
وقد لمّحت بذلك قضية قانونية في الربيع الماضي، أُثيرت حول تزويد شركة آي بي بي (ABB) السويسرية، شركة “شانغهاي جنهوا” (Shanghai Zhenhua) الصينية للصناعات الثقيلة، ببرمجيات تُثبت في الرافعات في الصين، ثم تُسَلَّم إلى الولايات المتحدة. وتخشى شركة آي بي بي من جمع البرمجيات بيانات عن مناولة البضائع عبر باب خلفي، وتسليمها إلى الحكومة الصينية. وقد دُعيت للإدلاء بشهادتها في هذه القضية أمام الكونجرس الأمريكي.
”سويسرا ليس لديها خطة بديلة”
تقول سيمونا غرانو، المحاضرة الأولى في الدراسات الصينية في جامعة زيورخ: “أعتقد تواتر مثل هذه الحالات أكثر في المستقبل، فمع تزايد التوترات التجارية، ستصعب على سويسرا الأعمال التجارية مع كلا الجانبين “.
كما تعتقد أن تقييد كل من الولايات المتحدة والاتّحاد الأوروبي علاقاتهما التجاريّة مع سويسرا إذا استمرّت في دعم الصين، يمثّل خطرا حقيقيا. فتقول: “في أسوأ السيناريوهات، سيكون على سويسرا أن تختار بين القوى الكبرى”.
المزيد
ما الذي يُمكن لسويسرا أن تفعله حيال التنافس بين الولايات المتحدة والصين؟
وماذا لو هاجمت الصين تايوان؟ تقول غرانو: “ستكون العواقب مدمّرة على الاقتصاد العالمي وسويسرا”. وتعتبر حقيقة عدم وجود أي مناقشات حول هذا الأمر مسألة شائكة إذ “لا تملك سويسرا حالياً خطة بديلة”. بل تتخذ نهجاً مريحاً بدلا عن ذلك.
وقد اتضح ذلك في صيف عام 2024، عندما قرر وزير الخارجية السويسري إينياتسيو كاسيس الامتناع عن تحديث استراتيجية وزارته الخاصّة بالصين. وترشد هذه الوثيقة العامة من له مصلحة من الفيدراليين والفيدراليات حول كيفية التعامل مع النظراء والنظيرات، وترى غرانو أنّ تناول قضية تايوان مثلا، كان ضروريا إلى جانب الصين.
وتضيف الخبيرة الجامعيّة قائلة: “ما نحتاجه الآن هو تحديد الموقف بوضوح”. ولذلك، لا بدّ من الاستعداد لإزعاج الصين من حين لآخر. فقد “انتهى الزمن الذي كانت فيه سويسرا قادرة على فصل اقتصادها عن القضايا السياسية ببطء، ولكن بالتأكيد”.
تحرير: يانيس مافريس
ترجمة: عبد الحفيظ العبدلي
مراجعة: مي المهدي/أم
التدقيق اللغوي: لمياء الواد
المزيد
نشرتنا الإخبارية المتخصصة في الشؤون الخارجية
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.