مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مبدأ الولاية القضائية الدولية يولد من جديد… ماذا يعني هذا للعالم؟ 

أليكس شنايتر وإيان لوندين، المديران السابقان لمجموعة لودين النفطية، أثناء محاكمتهما في محكمة ستوكهولم، في سبتمبر 2023. وقد اتُهما بالمشاركة في جرائم حرب في السودان.
أليكس شنايتر وإيان لوندين، المديران السابقان لمجموعة لودين النفطية، أثناء محاكمتهما في محكمة ستوكهولم، في سبتمبر 2023. وقد اتُهما بالمشاركة في جرائم حرب في السودان. Jonas Ekstromer / AFP

يسعى مبدأ الولاية القضائية الدولية، إلى متابعة الجرائم الفادحة في جميع أنحاء العالم. لكنّ تأثيره قد بدأ يُلحظ للتوّ فقط في سويسرا، رغم أنّه قد نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. فما الأسباب، وما هي تبعات ذلك؟ 

تشترط سويسرا وجود ارتباط لملاحقة إحدى الجرائم وإحالتها على القضاء؛ فإما أن تقع  الجريمة في سويسرا، أو تكون في علاقة بالجنسيّة السويسريّة، فاعلا أو مفعولا.  

لكن يخالف مبدأ الولاية القضائية الدولية هذه القاعدة. فيخوّل الملاحقة القضائيّة لجميع الدول، عند وقوع جريمة خطيرة، حتى وإن لم يتوفر هذان الشرطان. فيسعى المجتمع الدوليّ برمّته إلى متابعة الجرائم بالغة الخطورة، وبالتالي تشمل الولاية القضائية الدولية جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، والتعذيب. 

وازداد في الآونة الأخيرة، عدد القضايا المرفوعة أمام المحاكم وفق مبدأ الولاية القضائية الدولية، خاصةً في سويسرا. وفي ما يلي، إجابة عن أهم الأسئلة المتعلّقة بالموضوع. 

كيف نشأ مبدأ الولاية القضائية الدولية؟ 

نشأ مبدأ الولاية القضائيّة الدوليّة، بعد الحرب العالمية الثانية، عام 1949. وقد نصَّت عليه في البداية، اتفاقية جنيف. ثمّ تضمّنته بعد ذلك، اتفاقيات القانون الدولي المبرمة لاحقاً، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب. 

لكن لم تطبق الدول مبدأ الولاية القضائية الدولية، إلا منذ تسعينيات القرن الماضي. فتقول آنا بيتريج، أستاذة القانون الدولي، والقانون العام في جامعة بازل: “فقد القانون الدوليّ زخمه بعد محاكمات نورمبرغ، وطوكيو في الأربعينيات”. وقد أدت الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين، إلى تطور القوانين الدولية، بما فيها القانون الجنائيّ، لكن عُرقِلت إلى درجة شلّ عمل المؤسسات الدولية. 

ولم يحتدم النقاش الدوليّ حول تطوّر القانون، إلا بعد سقوط الستار الحديدي، بتفكّك الاتحاد السوفياتي، وانهيار حلف وارسو. وقد وُضعت من قبل مبادئ علميّة، وسياسيّة مختلفة، كما ازداد عدد الدول التي أدرجت في قانونها الجنائيّ، مبدأ الولاية القضائية الدولية باطّراد، ليُصبح ضروريا في تنفيذ الإجراءات أمام المحاكم المحلية. 

ثمّ حانت اللحظة الفارقة، بعد الدعوى التي رفعتها إسبانيا ضد ديكتاتور تشيلي أوغستو بينوشيه عام 1998، وكانت أول قضية تُرفع، استناداً إلى مبدأ الولاية القضائية الدولية. ومثلت بذلك نموذجاً للدول الأخرى، كما تزايدت بموجبها الضغوط، لمحاسبة أي من الأطراف المتورِّطة في جرائم القانون الدولي، وفق المسؤولية الجنائية. 

تم التوقيع على اتفاقيات جنيف في 12 أغسطس 1949. وهي تشكّل جوهر القانون الإنساني الدولي، الذي يهدف إلى الحدّ من آثار النزاع المسلّح. وهي تحكم سير الحرب، وتحمي ضحايا النزاعات المسلحة.
تم التوقيع على اتفاقيات جنيف في 12 أغسطس 1949. وهي تشكّل جوهر القانون الإنساني الدولي، الذي يهدف إلى الحدّ من آثار النزاع المسلّح. وهي تحكم سير الحرب، وتحمي ضحايا النزاعات المسلحة. Keystone

لماذا يتزايد عدد القضايا المرفوعة وفق مبدأ الولاية القضائية الدولية؟ 

ازداد تطبيق مبدأ الولاية القضائية الدولية في السنوات الأخيرة.  فارتفع عدد هذه القضايا بين عامي 2016 و2021، بنسبة 44 في رابط خارجيالمائة في مستوى الاتحاد الأوروبي، أما في مستوى العالم، فقد ارتفعت هذه النسبة بين عامي 2022 و2024 بمقدار 33 في المائةرابط خارجي

وشهدت سويسرا  بدورها، تطوراً مماثلاً. فتقول أنَّا بيتريج: “لم تشهد القوانين في هذا الصدد، نشاطا كافيا، لمدّة طويلة من الزمن. لكن تغير الوضع منذ عام 2021، عندما شهدت المحكمة الدستورية الفدرالية في بلينزونا لأوّل مرّة، إدانة وفق مبدأ الولاية القضائية الدولية. إذ أدانت المحكمة آنذاك، القائد الليبيري أليو كوسيا، بسبب ارتكابه جرائم ضدّ الإنسانية.”

وأدانت المحكمة الدستورية الفدرالية في مايو من العام الجاري، وزير داخلية غامبيا السابق عثمان سونكو، لارتكابه جرائم عديدة ضدّ الإنسانية، فأصدرت في حقه حكماً بالسجن مدة عشرين عاماً. 

وقد ساهمت تلك الأحكام في “التطبيع” مع مبدأ الولاية القضائيّة الدوليّة، إذ تقول أنًّا بيتريج: “فكلما ازداد عدد الدول التي تجري مثل هذه المحاكمات، كلما أصبح هذا المبدأ أكثر قبولاً واعتياداً”. فقد استحدثت دول كثيرة وحدات متخصّصة، في تولّي القضايا المرتبطة بانتهاكات القانون الدولي، وإدانتها. 

ما هو الدور الذي تقوم به منظمات المجتمع المدني؟ 

ترى أنّا بيتريج أنّ ازدياد عدد تلك الدعاوى، مرتبط بتبليغ منظّمات المجتمع المدنيّ، السلطات عن ارتكاب الجرائم. وتعدّ منظمة “ترايل إنترناشيونال” رابط خارجي(Trial International) غير الحكومية، إحدى هذه المنظمات الرائدة في هذا المجال عالميّا. وتأسست عام 2002 في جنيف، لتحول دون إفلات منتهكي القانون الدولي من العقاب. 

يعتبر مبدأ الولاية القضائية الدولية، عنصراً محورياً في التزامات منظمة ترايل إنترناشيونال، التي رفعت استنادا إليه، دعاوى عديدة في كل من سويسرا، وفرنسا ودول أخرى في كل أنحاء العالم. وتمتلك قاعدة بيانات، تضم قضايا بُتَّ فيها، وأخرى ما تزال مرفوعة أمام المحاكم. كما تنشر هذه المنظمة تقريراً سنوياً، وترفع فضلاً عن ذلك دعاوى جنائية.فتعود قضية عثمان سونكو مثلا، إلى بلاغ تقدمت هي به.  

ويصرّح بينوا ميستر، المستشار القانوني بمنّظمة ترايل إنترناشيونال، قائلا: “نبلّغ بفضل الشبكة، عمّا يدعو إلى الاشتباه في سويسرا، أو في غيرها. وتوجد على موقعنا أيضا،استمارةرابط خارجي تمكّن كلّا من الضحايا أو الشهود من الجنسين، من التواصل معنا مباشرةً. كما أننا نُجري بعض التحريات بأنفسنا”. 

ويمكن للمنظّمة، أن تكتفي بتحرير بلاغ فقط، إذا ما كان موضوع  الاتّهام من داخل سويسرا، إذ لا يمكن للسلطات فتح تحقيق إلّا في هذه الحال. لذلك يقرّ بينوا ميستر بتواتر تحرّي منظمات المجتمع المدني، عن وجود بعض المتّهمين أو المتّهمات داخل البلاد، من عدمه، من خلال مشاركة البعض في أحد المؤتمرات، أو حضور موعد في أحد البنوك مثلا، نظرا لاتّخاذ كثير من المنظمات الدولية سويسرا، مقراً لها.  

خلال فترة تولّيه منصب وزير الدفاع، كان خالد نزار (على اليسار) شخصية رئيسية في الصراع بين الحكومة الجزائرية والجماعات الإسلامية خلال الحرب الأهلية الجزائرية. يظهر بجانبه رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد بوضياف (اليسار)، وقائد الجيش عبد المالك قنايزية (اليمين)، في عام 1992.
خلال فترة تولّيه منصب وزير الدفاع، كان خالد نزار (على اليسار) شخصية رئيسية في الصراع بين الحكومة الجزائرية والجماعات الإسلامية خلال الحرب الأهلية الجزائرية. يظهر بجانبه رئيس المجلس الأعلى للدولة محمد بوضياف (اليسار)، وقائد الجيش عبد المالك قنايزية (اليمين)، في عام 1992. AFP / André Durand

ما هي أهمية الدعاوى القضائية سياسياً؟ 

ترى أنّا بيتريج أن فتح السلطات تحقيقا فعليا، ومدى جديتها في متابعته، “يتوقّف على موطن المتّهم أو المتّهمة الأصلي، خشيةً من حدوث تصدعات، أو توترات في العلاقات الدبلوماسية”. 

فتتعمّد بعضُ الدول حمايةَ أخرى. فيسافر الرئيس الروسي فلاديمير بوتن مثلاً، إلى الخارج، رغم  صدور مذكرة اعتقال بحقه، لما ارتكبه من جرائم الحرب. إلا أنه لا يسافر إلا إلى الدول حليفة روسيا، التي لا يتوقّع اعتقاله فيها. 

ويرى بينوا ميستر من ناحية أخرى، أنّ لطاقم العمل في إحدى السلطات، تأثير في مدى سرعة التحقيق وشموليّته؛ وفعلا، يمكن ملاحظة “التطوّر الإيجابيّ” منذ تولّي شتيفان بليتلر رئاسة النيابة الفدرالية، في يناير عام 2022.  وقد صرّح أنه يعتبر القانون الدولي محورا أساسيا.  

ما الذي يمكن لسويسرا تحسينه؟ 

رغم ذلك، يرى ميستر أن هناك فرصاً لتحسين الوضع في سويسرا، ويؤكّد أن الموارد القانونيّة المتعلّقة بالقانون الدولي في فرنسا، وألمانيا، وهولندا على سبيل المثال، أكثر منها بكثير. فيقول: ” تعتبر سويسرا متخلفة، مقارنة بهذه الدول”.  

وترى أنَّا بيتريج، أنه لو توفر لسويسرا مزيداً من الإطارات البشرية المتخصصة، لاستغرقت التحقيقات وقتاً أقل، ولكانت أكثر كفاءة، فقد مضت على عدّة جرائم مُبلّغ عنها، عقود من الزمن. وقد يسبق الموتُ صدورَ الحكم القضائي فيها. من ذلك مثلا وزير الداخلية الجزائري السابق، خالد نزاررابط خارجي الذي  وصلت الدعوى المرفوعة في حقه أمام المحاكم السويسرية، قبل إثني عشر عاما من بداية التحقيقات التي انطلقت تحديداً، في شهريْ يونيو، ويوليو من عام 2024، لكنّه تُوفّي في نهاية ديسمبر عام 2023، فأغلقت القضية. 

 واكتشف ميستر  من جانبه، خللاً إضافياً في القضية المرفوعة ضد عثمان سونكو، بعد أن طالبت منظمة ترايل إنترناشيونال غير الحكومية، بترجمة إجراءات القضية برمتها إلى الإنجليزية، ولم تترجم المحكمة سوى الأجزاء الأساسية، فقال: “لم تكن الترجمة كافية، إلى درجة أنّه لم يفهم أي أحد من الأطراف ذات الصلة، ولا من الصحافيين [والصحفيات] شيئاً، في حين كانت كتابة تقارير صحافية حول القضية، هامّة جدّا”.  

ضحايا وأقاربهم.نّ في مظاهرة خارج المحكمة الجنائية الفدرالية، في بيلينزونا، وذلك أثناء محاكمة وزير الداخلية الغامبي السابق، عثمان سونكو، في 8 يناير 2024.
ضحايا وأقاربهم.نّ في مظاهرة خارج المحكمة الجنائية الفدرالية، في بيلينزونا، وذلك أثناء محاكمة وزير الداخلية الغامبي السابق، عثمان سونكو، في 8 يناير 2024. Ti-Press

كيف سيتطور مبدأ الولاية القضائية الدولية مستقبلاً؟ 

تتوقع كل من أنَّا بيتريج وبينواه ميستر، تزايد تطبيق مبدأ العدالة الدولية مستقبلاً، ليشمل دعاوى ضد بعض الشركات، كما هو الحال في القضية المرفوعة ضد مُديرَيْن سابقَيْن بشركة لوندين النفطية مثلا، منذ عام 2023 في السويد. إذ اتُّهِمَ الرجلان بتمويل الجيش في الحرب الأهلية السودانية، في ما بين عامي 1997 و2003، لتهجير أهالي المناطق الغنية بالنفط، كي تتمكن شركة لوندين من القيام بأعمالها هناك. و مدير شركة لوندين التنفيذيّ السابق، أليكس شنايتر، هو مواطن سويسريّ. 

ويتوقّع بينوا ميستر أن يشمل مبدأ الولاية القضائية الدولية، حماية البيئة تدريجياً. فهناك حالياً ثلاث قضايا مرفوعة من قِبَل منظمة ترايل إنترناشيونال في هذا المجال، تتعلّق بنهب الأخشاب، وغيرها من الموارد الطبيعية في مناطق الحروب. 

إذن ينبئ تزايد الدعاوى، واتساع مجالات التطبيق، عن حيوية مبدأ الولاية القضائية الدولية، وملاحقة جرائمَ بموجب القانون الدولي، وترى بيتريج أنّها إشارة مهمّة، فتقول: “لا يمكن فتح صحيفة حاليا، دون القراءة عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي. ولكن سيحين أوان تحمّل مسؤوليّة هذه الانتهاكات، وإن بعد عقود”. فيمكن أن يمثّل مبدأ الولاية القضائيّة الدوليّة، نافذة على الأمل في تحقيق العدالة.    

تحرير: مارتن لويتينغر

ترجمة: هالة فرّاج

تدقيق لغوي: لمياء الواد

مراجعة: ماجدة بوعزّة/ أم

المزيد

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية