“شرق أوسط كبير” أم “شكوك كبيرة”؟
ثلاثة أسئلة فورية أثارتها "مبادرة الشرق الأوسط الكبير" الأمريكية:
هل تضمنت شيئا جديدا لم تشر إليه سلسلة المبادرات الأمريكية العديدة السابقة التي أطلقت طيلة العام الماضي؟وهل لها فرصة للتحّول إلى خطة دولية، وبالتحديد إلى مشروع أوروبي – أمريكي مشترك؟ ثم: ما موقف الحكومات والشعوب العربية منها؟
القراءة السريعة لنص المشروع لا توحي بأي جديد في الواقع، سوى محاولة إلباس المبادرات الأمريكية السابقة رداء عمليا من خلال بعض الاقتراحات التنفيذية.
فقد اعتمد المشروع بشكل كثيف على تقرير التنمية البشرية التابع للأمم المتحدة، والذي وضعه عدد من المثقفين والخبراء العرب كأساس لتحليل أوضاع الشرق الأوسط، وكمنطلق لتحديد المناهج والحلول.
كما كرر بشكل حرفي بنود “مبدأ” الرئيس الأمريكي جورج بوش حول “الاستراتيجية المتقدمة للديمقراطية في الشرق الاوسط”، و”مبدأ” وزير الخارجية كولن باول حول “الشراكة الأمريكية – الشرق أوسطية”.
وهكذا، خرجت المبادرة بالأهداف الرئيسية المكررة الآتية:
1- تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح في المنقطة.
2- بناء مجتمع معرفي.
3- توسيع الفرص الاقتصادية.
هذه العناوين النظرية الرئيسة، تفرّعت إلى عناوين فرعية تنفيذية. ففي باب تشجيع الديمقراطية، دعت إلى دعم الانتخابات الحرة في الشرق الأوسط من خلال المساعدات التقنية والتدريب على الصعيد البرلماني (خاصة للنساء)، والمساعدة القانونية للناس العاديين، وتطوير وسائل الإعلام المستقلة، وتشجيع دول المنطقة على مكافحة الفساد، ودعم قيام المجتمع المدني.
وعلى صعيد بناء المجتمع المعرفي، وضعت سلسلة مبادرات لدعم التعليم الأساسي، ومحو الأمية، وسد النقص في الكتب التعليمية، وإصلاح برامج التعليم، ونشر الإنترنت.
أما بالنسبة للهدف الثالث، وهو توسيع الفرص الاقتصادية، فقد اقترحت إنشاء صناديق عدة لتمويل ما أسمته “تجسير الهوة الاقتصادية للشرق الاوسط الكبير” تتضمن: صندوقا لتمويل المشاريع الصغيرة، ومؤسسة المال للشرق الأوسط الكبير (لدعم الأعمال المتوسطة والكبيرة)، وبنك تنمية الشرق الأوسط الكبير (لمساعدة الدول الساعية للإصلاح على توفير إحتياجات التنمية)، والشراكة من أجل نظام مالي أفضل، إضافة إلى تسهيل انضمام دول الشرق الأوسط إلى منظمة التجارة العالمية، وإنشاء مناطق التجارة الحرة لتشجيع التبادل الاقليمي والمشاريع الاقليمية المشتركة.
الإنتظار سيطول..
ويعلّق بيتر سينغر، مدير “مشروع السياسة الأمريكية نحو الشرق الاوسط” في مؤسسة بروكينغز، على هذا المشروع بقوله: “أنه يأتي بعد سلسلة طويلة من الوعود الأمريكية غير المنتجة لتحقيق الإصلاحات في العالم الإسلامي، لقد تعب الناس: خطاب يقبض على خناق خطاب، ولا شيء يحدث”.
ويقول خبير أمريكي آخر بشؤون الشرق الأوسط وهو مارك وولترز: “من حيث الشكل، تبدو المبادرة إيجابية للغاية. لكن، وإلى أن نرى التمويل الذي سيغطي كل هذه المشاريع، سيكون من الصعب أن نصّدق ما نرى”.
ومعروف أن الادارة الأمريكية لا تُـخصص سوى أموال قليلة لمشاريعها الديمقراطية في الشرق الأوسط، وعلى سبيل المثال لم تحصل مبادرة الشراكة الأمريكية – الشرق أوسطية، والتي أطلقت عام 2002 برعاية إليزابيث تشيني، ابنة نائب الرئيس الأمريكي تشيني، في عامها الأول سوى على 29 مليون دولار، واضطرت إلى الانتظار سنة كاملة وسط احتجاجات صاخبة من جانب مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية قبل أن تحصل على 100 مليون دولار إضافية.
ومع ذلك، يؤكد مسؤول أمريكي أن كل هذه الأموال “لا تزال في المصارف”، وأن تنفيذ البرامج “بطيء للغاية إلى درجة أننا يجب أن ننتظر جيلا كاملا قبل أن نرى بدايات التغيير، ربما 50 عاماأخرى”.
ويرى العديد من المحللين العرب، كما الأمريكيين، أن هذه المبادرة لنشر الديمقراطية في كل أنحاء “الشرق الأوسط الكبير” تأتي لتغطية الفشل الأمريكي في تحقيقها في “الشرق الأوسط الصغير” المتمثل في أفغانستان والعراق، إضافة إلى تعثّر تطبيق خارطة طريق للسلام الفلسطيني – الإسرائيلي.
ويقول بعض هؤلاء بأن إدارة بوش تريد عبر هجومها الديمقراطي الكبير، الإيحاء للأمريكيين في السنة الانتخابية الراهنة بأن مشاكل العراق وأفغانستان وفلسطين، ليست سوى خربشات على سطح مشروع أمريكي أكثر طموحا لنشر الحرية والديمقراطية والقيم الأمريكية السامية في منطقة يعتبرها الناخبون مهمة في تشّكل هويتهم الإنجيلية المسيحية.
شكوك أوروبا
هل يعني كل ذلك أن “مبادرة الشرق الأوسط الكبير” مجرد خدعة كبيرة؟ كلا.
فالولايات المتحدة بكل أطيافها السياسية، باتت منذ 11 سبتمبر 2001 جادة كل الجّدة في تغيير اللوحة الشرق أوسطية، وهذا ما أكدته الحملات الانتخابية الأمريكية الأخيرة، حيث بدا واضحا أن المرشحين الديمقراطيين للرئاسة ينتقدون سوء أداء إدارة بوش في العراق وأفغانستان وباقي أنحاء الشرق الاوسط، لكنهم لم يوحوا للحظة واحدة بأنهم يعارضون برامج بوش لتغيير الأمر الواقع الحالي في المنطقة.
تدور الشكوك حول الأهداف الحقيقية للتغيير الذي تريده الإدارة لا حول التغيير نفسه، وهي شكوك تتضخّـم كثيرا في أوروبا. لماذا؟ هذا التساؤل يقود إلى السؤال الأول حول فرص تحّول المبادرة الأمريكية إلى مبادرة دولية أو أوروبية أمريكية.
لقد أعلن المسؤولون الأمريكيون أنهم ينوون طرح هذه المبادرة على ثلاث قمم ستُـعقد في صيف هذا العام: قمة الثماني الكبار في ولاية جورجيا الأمريكية، وقمة حلف الأطلسي في اسطنبول، وقمة الاتحاد الأوروبي. لكن هل أوروبا حقا في وارد الانضمام الى أمريكا في مشروعها الطموح هذا؟
لا أحد، لا في الغرب الأوروبي القديم، ولا في الغرب الأمريكي الجديد يشك بأن لأوروبا مصلحة إستراتيجية عُـليا في نجاح مشروع الشرق الأوسط الكبير.
فهذه المنطقة في نهاية التحليل هي الحديقة الخلفية للامبراطورية الأوروبية الناشئة، وهي بهذه الصفة قادرة على أن تكون، إما جنة غناّء لأوروبا، أو جهنم رعناء ضدها.
الشرق الأوسط الديمقراطي والمزدهر والآمن، سيكون بطاقة تأمين حقيقية لتحّول أوروبا إلى دولة عظمى مكتملة النمو، خاصة إذا ما تم دمج هذه المنطقة الحيوية بالعولمة الرأسمالية عبر البوابة الأوروبية.
والشرق الأوسط الديكتاتوري والفقير والمتفّجر، سيجعل المصير الأوروبي نفسه يتأرجح على كف عفريت، ليس فقط بسبب الخطر الإرهابي وأسلحة الدمار الشامل والصواريخ العابرة للقارات، بل أيضا بسبب الزحف الديموغرافي العربي والإسلامي الذي يُـمكن أن يغيّـر كل التركيبة السكانية الأوروبية.
بروكسل، إذن لا تستطيع إلا أن تصفّق للمشروع الأمريكي الجديد. لكن لماذا لا تفعل؟ هنا، ومع هذا السؤال، ندخل في غياهب عالم آخر مغاير تماما لذلك الذي ترسمه الشعارات الأمريكية الرنانة حول نشر الديمقراطية والحريات.
فالأوروبيون يشكّـون بأن الولايات المتحدة ليست جادة في مشروعها الديمقراطي، ولو أنها كانت كذلك، لسارعت قبل أي شيء آخر إلى إغلاق ملف الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي الذي من دونه لا إستقرار ولا أمن في المنطقة.
والأوروبيون يشكـّون بأن هدف واشنطن الحقيقي هو احتلال الشرق الأوسط الكبير لا تحريره. والسبب أكثر من معروف: السيطرة المطلقة على نفطه قبل تحّول هذا الأخير من سلعة وافرة الى عملة نادرة خلال عقد أو عقدين من الآن.
والأهم، أن الأوروبيين يشكّـون بأن مشروع الشرق الأوسط الكبير الأمريكي، هو في حقيقته مخطط كبير لتحويل الحديقة الجغرافية الخلفية لأوروبا إلى حديقة عسكرية – سياسية أمريكية متقدمة تُـحيط بها من كل جانب وتحاصرها من كل ناحية.
وهذا بالطبع في إطار “لعبة الشطرنج الكبرى” التي تحدث عنها زبيغنيو بريجينسكي، والتي تستهدف عبر السيطرة على الشرق الأوسط إحكام القبضة على قارة أوراسيا برمتها.
هذه بعض الأسباب الحقيقية التي تدفع الأوروبيين إلى رفض التهام الطعم الديمقراطي الشهي على صنارة مشروع الشرق الأوسط الكبير. وكما هو واضح، هذه أسباب لا تمت إلا بصلة شكلية إلى القيم الديمقراطية، ولا إلى المبادئ الليبرالية.
الأوروبيون يعرفون ذلك لذا، فهم مترددون ومتوجسون. والأمريكيون يعرفونه بالتأكيد، لكنهم يستمتعون الآن بتعذيب الأوروبيين، من خلال تغليف مشاريعهم الاستراتيجية – النفطية الشرق أوسطية بورق “السيلوفان” الديمقراطي – الليبرالي.
وطالما استمر الوضع على هذا النحو، (أي شكوك أوروبية من جهة، وأفخاخ أمريكية من جهة أخرى)، ستبقى كل الجهود لترميم البيت الأطلسي أشبه بطلي سفينة مشرفة على الغرق بدل سد الثقوب فيها.
حلق الرؤوس
الآن، وإذا ما كان الأمر على هذا النحو بالنسبة لحلفاء أمريكا الأوروبيين، فكيف سيكون بالنسبة للحكومات والشعوب العربية؟ على المستوى الحكومي، تبدو الأمور متفاوتة.
فرئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري أعلن صراحة رفضه للمبادرة، وأعرب عن مخاوفه من تطبيقها. وهذا كان موقفا مهما لأنه جاء بعد لقاء الحريري مع الرئيس المصري حسني مبارك، مما أوحى بأن هذا الأخير يتّـخذ موقفا مماثلا، لكنه لا ينوي الإفصاح عنه.
لكن، في الوقت نفسه، كان الرئيس اليمني علي عبد الله صالح يؤكّـد أن عصر الديمقراطية بدأ، وانتهى عصر الديكتاتوريات، ويدعو إلى قبول الإصلاحات الأمريكية قائلا: “فلنحلق رؤوسنا قبل أن يحلقوا لنا”. إلى من سينحاز القادة العرب الآخرون: إلى الحريري أم إلى علي عبد الله صالح؟
ستكون قلوبهم مع الحريري، وعقولهم مع علي صالح. بكلمات أوضح: سيبذل رؤوس الانظمة العربية قصارى جهدهم لرؤية المبادرة الأمريكية تتخبط بدماء الفشل، في حين سيوحون لواشنطن بأنهم سائرون قدما على طريق الإصلاحات، وإن ببطيء شديد، وهذا ما سيخلق وضعا سورياليا مثيرا في الشرق الأوسط خلال المرحلة المقبلة.
بيد أن التحدي الحقيقي للمبادرة الأمريكية يكمُـن في شك، إن لم يكن رفض، الشعوب العربية لها، وهو رفض لا ينبع من إدارة الظهر للديمقراطية والحريات، بقدر ما هو إدانة للسياسات الأمريكية في المنطقة، خاصة إزاء الصراع العربي – الإسرائيلي.
لقد أوضح استطلاع للرأي، أجرته مؤخرا مؤسسة أمريكية أن 94% من المصريين لا يثقون بالولايات المتحدة، في حين كانت استطلاعات فضائية “الجزيرة” الإلكترونية تُـشير إلى أن 96% من العرب يعتبرون الولايات المتحدة خصما.
والآن، ومع وجود القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان والعديد من دول الخليج، ودعمها لقوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، سيكون من الصعب على هذه الشعوب النظر الى أمريكا كمحرر لا كمحتل، كمثال للحرية والديمقراطية، لا كنموذج للإمبريالية.
والحصيلة بسيطة: ستبقى مبادرة الشرق الأوسط تثير الأسئلة والشكوك أكثر من الإجابات والثقة في الشرق الأوسط وخارجه، طالما أن الولايات المتحدة لم تعالج الشكاوى والتظلمات الرئيسية لشعوب المنطقة، ولم تخاطب المصالح الحقيقية لحلفائها الأوروبيين.
وبالمناسبة، شكاوى الشعوب العربية لا تزال في معظمها وطنية وقومية، أكثر منها ليبرالية وديمقراطية.
سعد محيو- بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.