ظواهر تدعو للقلق تـزحـف على الدولة العربية
رغم اختلاف حدة التراجع أو التدهور أو السكون، حسب الحالة العربية، فإن اللافت للنظر أن الشعور العام بعدم الرضى الشعبي هو القاسم المشترك بين المجتمعات العربية.
وفي اللحظة الجارية، يصعب القول أن أيا من البلاد العربية يسير في خط مستقيم إلى الأمام، حتى ولو كان بطيئا.
لا تعدو الدولة العربية كمؤسسة جامعة للوطن والمواطنين أن تواجه بتحديات، إما نتيجة النمو والتطور نحو الأمام، وإما نتيجة تدخلات خارجية، وإما نتيجة لخلل ذاتي نابع من قصور الأداء وعدم القدرة على الوفاء بالحد المناسب من التزامات التطور والتكيف.
وفي اللحظة الجارية، يصعب القول أن أيا من البلاد العربية يسير في خط مستقيم إلى الأمام، حتى ولو كان بطيئا. فالجميع، وإن اختلفت الدرجة، يعرف التعرج في الحركة والعودة إلى الوراء قبل التقدم إلى الأمام، وتفاقم الهموم والمشكلات، وتكاثر الظواهر غير المعتادة والصادمة للمجتمع، وقلة السياسات الجريئة والاكتفاء في كل الأحوال برد الفعل، ومن ثم ندرة المبادرة، وارتفاع الشكوى والتذمر من الحاكم قبل المحكوم.
ازدهار الطائفية عربيا
ورغم اختلاف حدة التراجع أو التدهور أو السكون، حسب الحالة العربية، فاللافت للنظر أن الشعور العام بعدم الرضاء الشعبي هو القاسم المشترك بين المجتمعات العربية، وزيادة الفواصل بين الشرائح الاجتماعية والعمرية في كل مجتمع على حدة، وكأن كل منهم يمثل مجتمعا بذاته لا علاقة له بالمجتمع الآخر، رغم الانتماء إلى الأرض ذاتها والوطن ذاته. وإن كان لذلك الانفصال الاجتماعي أسبابه الاقتصادية والثقافية والسياسية المتراكمة عبر سنوات طويلة مضت، فقد زادت حدته مع دخول البعد الديني الطائفي إليه بفعل تداعيات الغزو الأمريكي للعراق قبل ثلاث سنوات، إذ نلحظ الآن سطوة معنوية وسياسية للطائفية في أكثر من بلد عربي.
فمن قبل كان لبنان يمثل النموذج الأبرز في “المحاصصة” الطائفية سياسيا ومؤسسيا، وهي التي لم تقدم له الحل الأمثل، بل يواجه كل يوم أزمة تلو أخرى. وإن كان في ذلك عبرة ودرس، فيبدو أنه غائب عن الكثيرين في دول عربية أخرى ما لبثت أن تنادي فيها الفرقاء إلى البحث عن حصة طائفية بدلا من تعميق المواطنة فيها، رغم ما في ذلك من تيار مناقض للتطور.
فالعراق الآن يقدم النموذج الثاني في الطائفية السياسية التي يصاحبها بُعد عرقي آخر، نظرا لوجود الأكراد ضمن إطار الدولة العراقية. وفي دول عربية أخرى، تداعب أقلياتها الدينية نفس الشوق والتطلع إلى الحصول على مغانم سياسية أسوة بشيعة العراق الذين أصبحوا أعلى قمة الهرم السياسي العراقي بحكم الغالبية العددية النسبية في مواجهة السنة، عربا وأكرادا.
وفى السياق الشيعي، يبدو التطلع واضحا في حالات الدول الخليجية العربية، إلا أن هدف هذه المرحلة يتمثل في الخروج من عباءة سياسات الإقصاء التي طبقت طويلا، وتأكيد الحضور في النسيج الوطني والاجتماعي، تمهيدا للمطالبة بحقوق أخرى مستقبلا.
وفي السياق ذاته، تبدو حالة مصر مثيرة للكثير من القلق، فمصطلح الفتنة الطائفية الشهير بات يتردد كثيرا في سياق العلاقة بين المسلمين والأقباط، والأحداث التي تعكر العلاقة بين الجانبين صارت أكثر تكرارا وفق مدى زمني آخذ في الانحسار، وبما يطرح بدوره تساؤلات كثيرة حول مصير الوطن الواحد.
تفاقم البلطجة والانفلات
دعوات الطائفية في بلدان عربية تصاحبها أزمات هيكلية كبرى تعبر عن نفسها في أكثر من ظاهرة مقلقة. فمصطلح البلطجة الشهير الذي برز إعلاميا في الانتخابات البرلمانية المصرية نهاية عام 2005، يمتد ليشمل حالات أخرى، وإن أخذت تعبيرا آخر كالانفلات الأمني الشهير الذي بات مقرونا بالوضع في الأراضي الفلسطينية التابعة للسلطة الوطنية، كانت آخر تجلياتها استعراضات القوة البائسة التي قام بها مسلحون ملثمون تابعون لحركة فتح، أحاطوا ببعض المباني الحكومية والبلدية وأغلقوا الشوارع والطرقات وأطلقوا النار في الهواء، وجرحوا البعض وأهانوا البعض الآخر في مشهد عبثي يثير الحزن على مصير فلسطين التي يحلم العرب بتحريرها يوما ما.
وإذا كانت هذه هي الطريقة التي يحتج بها البعض على تصريح هنا أو حدث هناك، فتلك مصيبة بكل المقاييس، فإن تركت مصائر الوطن للبلطجة والسلاح غير الشرعي، فربما لن يكون هناك وطن أصلا للدفاع عنه.
الاستقواء بالخارج
ظاهرة أخرى أخذت تشيع في عديد من المجتمعات العربية، قوامها الاستقواء بالخارج المتحفز دوما للتدخل ولنصرة طرف ضد آخر ولتخريب كل ما يقوم عليه المجتمع من تضامن بُني عبر عشرات إن لم يكن مئات السنوات، وهو استقواء له أسبابه البنيوية في نظم الحكم العربية القائمة على الاستبداد وعلى رفض التكيف السلمي مع مطالب المجتمع. وربما لا يقول أحد مباشرة إنه يسعى لدعم خارجي لمواجهة النظام المستبد، ولكن المؤشرات توحي عكس ذلك، على الأقل من زاوية استثمار خطط القوى الكبرى لمضاعفة الضغوط على الحكم، ونرى ذلك في مشاهد عربية عديدة.
فقوى 14 مارس فى لبنان، يستنجد بعضها بالأمم المتحدة والدعم الأمريكي والفرنسي لمواجهة قوى لبنانية معارضة، ويتطرف البعض في طلب النجدة الخارجية لممارسة ضغط على جار عربي يرى فيه حليفا لقوى لبنانية معارضة له.
والنماذج هنا كثيرة، تمتد لنفر من أقباط مصر في الداخل يستقوون بنظراء لهم في الخارج ويسعون إلى دعم حكومات أوروبية من أجل الضغط على حكومتهم المصرية، بل وعلى غالبية المجتمع أيضا، وصولا لما يرونه حلولا مرضية لما يعتبرونه تجاوزا في حقهم واضطهادا لمكانتهم.
وتبدو حالة حركتي التمرد في دارفور السودانية من الصنف نفسه، فهم آخذون في تعطيل المفاوضات برعاية الاتحاد الإفريقي، ويقفون مع مزاعم تشاد ضد بلدهم، رغم علمهم أنها لا أساس لها من الصحة، ومطالبين بتدخل دولي لعل وعسى يعيد تكرار مشهد حماية إقليم كردستان العراقي وإخراجه من رعاية الدولة الأم لعدة سنوات يمكن بعدها المطالبة بالانفصال عن الوطن الأم.
بؤس الحل الأمني
ولسنوات عدة، كانت الحلول التي تتبعها الدولة العربية في مواجهة معارضيها في الداخل، تستند إلى الحل الأمني باعتبار أن المعارضة خروج على الإجماع الوطني الذي تمثله الحكومة والقيادة السياسية، ورغم ثبوت فشل هذا الحل ومسؤوليته عن عديد من الظواهر السلبية الأخرى في الحالة العربية، فما زال هو السائد تقريبا رغم تغيير ظواهر الأشياء. ربما نجد بعض استثناءات عابرة، كدعوات الحوار مع القوى الوطنية المختلفة، لكنها سرعان ما تخبو وتختفي، وتعود الأمور إلى سيرتها الأولى. وحالات دول الخليج بارزة هنا، كالبحرين مثلا، واليمن الذي يدعو قادته إلى الاصطفاف الوطني من ناحية، ومحاصرة أحزاب المعارضة من ناحية أخرى.
الثابت هنا أن اللجوء إلى الحل الأمني مسؤول عن فشل أي حوار مؤسسي أو مجتمعي من أجل تجاوز بؤر الاحتقان المتزايدة، ومسؤول أيضا عن تفاقم الأزمات الهيكلية وعدم قابليتها إلى إصلاح تدرجي، كما هو الحال في تونس وليبيا وسوريا، وهم الذين ينكرون على مثقفيهم المنادين بالإصلاح السياسي أن يتحركوا في المجتمع أو يتحدثوا عن مطالبهم، بل الأكثر من ذلك يعتبرون مجرد النقد خيانة للوطن.
وفي مصر ثبت أن الحل الأمني للتطور السياسي أو لقضية المواطنة أو علاج القصور في الفكر الديني لجماعات معينة، يؤدي إلى عكس ما هو مطلوب. وللأسف، يمتد الأمر إلى حل أزمة القضاة أمنيا من جانب عبر فض الاعتصامات السلمية للمناصرين لهم بالقوة، ومن خلال تحويل كبار المستشارين المطالبين باستقلال القضاء، إلى المحاكمات، وذلك بدلا من استكمال خطوات استقلال القضاء تطبيقاَ لما هو مؤكد في الدستور نصا وروحا.
المناصرون للحل الأمني ذوي نفس قصير لا يهمهم ما يجري في المجتمع من مشاعر سلبية تجاه مؤسسات الدولة وقادتها، ولا يهمهم أيضا زيادة الانشقاق الاجتماعي والسياسي، ويتصورون أن زيادة تدخلهم في كل شيء في أمور الوطن، سيحميه من السقوط الذي يبدو يدق أبواب العديد من الحالات العربية بكل قوة.
فالحل الأمني لظواهر الخلل والعنف والجريمة لا غبار عليه في حد ذاته، وإن امتد إلى الحياة السياسية برمتها وصار اقتراب المعالجة الوحيد المسموح به، هنا تظهر ملامح الكارثة.
الهروب الكبير بين الإهمال والتواطؤ
وحتى الحل الأمني لمواجهة الجريمة والعنف ليس ناجعا في عديد من الحالات العربية. ففي اليمن مثلا، يهرب 23 سجينا من خلية لتنظيم القاعدة من أحد السجون المحصنة جيدا في مطلع شهر فبراير الماضي والذي تديره قوات أمن الدولة. ويثير ما قيل رسميا عن مشهد الهروب عبر نفق تحت الأرض من عنابر السجناء إلى فضاء الهروب الرحب، لحظات درامية مثيرة من أحد أشهر الأفلام الأمريكية بعنوان “الهروب الكبير”، وهو فعلا هروب كبير للسجناء، وسقوط أكبر لمن يفترض أنهم حماة الأمن والوطن معا، مع فارق جوهري أن الهروب في الفيلم الأمريكي سقط، ولكنه في الواقع نجح بامتياز. والمفارقة أن يبرر كبار المسؤولين اليمنيين هذا الفرار بأنه ليست المرة الأولى، وربما كان
هناك تواطؤ أو إهمال، وأنه يحدث في بلدان عديدة.
والإهمال هنا له أشكال شتى، وإن صاحبه فساد مستشري إلى العمق، يكون منطقيا حدوث كوارث تلو أخرى. والعاملان معا يفسران سير عبارات بين موانئ مصرية وسعودية لسنوات وهي بعيدة عن الحد الأدنى لمواصفات العبارة البحرية الصالحة، مما ينتج عنه كوارث تودي بحياة آلاف من البشر في المرة الواحدة، وفي هروب صاحب الشركة بعد تصفية شركته في غمضة عين وتحت بصر الحكومة، ولتضيع حقوق الضحايا في الهواء. والعاملان معا يفسران أيضا سوء الإدارة الحكومية لكارثة أنفلونزا الطيور، التي أطاحت تماما بالثروة الداجنة وكلفت المجتمع أكثر من خمسة عشرة مليارا من الجنيهات، وأضافت إلى سوق البطالة عدة عشرات من الألوف.
هذه الظواهر مرتبطة بأزمات الفشل الذريع في العديد من الحالات العربية في إدارة التحول الاقتصادي، وفي إشاعة الليبرالية الاقتصادية المنضبطة، وفي التراجع في حماية ومناصرة القضايا العربية، وفي قبول الضغوط الخارجية سرا بعد رفضها علنا، نكون أمام فصل جديد في الدولة، قوامه التدهور البنيوي، الذي لا تصلح معه مصالحات جزئية أو إصلاحيات ظاهرية.
ومهما قيل عن انخراط المواطنين في همومهم الشخصية، فليس هناك من يضمن السيطرة على تحركات عشوائية قد تطيح بالجميع في لحظة غضب واحتجاج عامة.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.