عام المفاجآت والتحولات
قبل يوم واحد من انقضاء عام 2003، أصدر القضاء الجزائري خكما يُلغي المؤتمر الثامن لحزب جبهة التحرير، ومنع علي بن فليس من ممارسة النشاط السياسي.
من جهته أمر الرئيس الجزائري وزارة الداخلية بالاستعداد لمواجهة أنصار بن فليس في الشوارع، وهو ما يعني أن العام الجديد قد يبدأ في الجزائر بالعنف السياسي.
دوامة العمل السياسي الجزائري، أدت إلى إعلان علي بن فليس رئيس الحكومة في شهر مارس الماضي العصيان الحزبي على رئيس الجمهورية. وقررت جبهة التحرير الوطني التي يترأسها بن فليس عدم مساعدة بوتفليقة خلال الانتخابات الرئاسية القادمة التي تنتظم بعد ثلاثة أشهر من الآن.
شعر الجميع أن جبهة التحرير لم تتحرك من العدم، وأن الجيش يكون قد أوحى من طرف خفي لبن فليس و رفاقه بالتمرد على الرئيس. أما هل يملك القائلون بهذا الرأي دليلا أو وثيقة وقعها قادة الجيش تطلب من جبهة التحرير إعلان العصيان؟ فلن يدعي أحد أنه يملك دليلا كهذا.
قد يكون الدليل، غير مكتوب، و لكنه مشاهد، لأن منع بن فليس من النشاط السياسي، يمكن تفسيره، بطريقة أن المؤسسة العسكرية، لم تحرك ساكنا، مفضلة بوتفليقة عليه، أو أنها فضلت عدم التدخل تماشيا مع خطتها في الانسحاب من الحياة السياسية.
عدديا، يُقدر أنصار بن فليس، بحوالي مليوني مناضل، يمكن للكثير منهم الاستجابة لطلب القيادة بإعلان العصيان، وفي نفس الوقت، أبدى وزير الداخلية، نور الدين يزيد زرهوني، صديق بوتفليقة الحميم، تصميما كبيرا على مواجهة وضع كهذا، رغم أنه غريب وخطير جدا.
كما أن الطبقة السياسية الجزائرية، شعرت بالخطر نتيجة لقرار القضاء بمنع جبهة التحرير من العمل السياسي، لأنه المذاق الأول – حسب رأيها – لما قد يحدث خلال الانتخابات القادمة من تزوير.
30 مليار دولار!!
في مقابل هذا، يُجمع الجزائريون، أن الزلزال الذي ضرب شرق العاصمة الجزائرية، في الحادي والعشرين من شهر مايو، كان أهم حدث وحّـد بين المواطنين، ورفع الروح المعنوية لديهم، من خلال دعمهم الكبير لآلاف المنكوبين.
غير أن هذا الشعور بالوحدة الوطنية، لم يكن ليصمد أمام أحداث أخرى، تعادل من حيث نتائجها، خسائر الزلزال المادية، أو تزيد عليها.
فقد قررت الحكومة، وبجرة قلم، الغلق النهائي لمؤسسة الخليفة، لصاحبها عبد المؤمن خليفة، فاختفت مؤسسة طيران وبنك ومؤسسات أخرى، تشغل عشرين ألف عامل، ثم خسرت الخزينة ملياري دولار على الفور، بالإضافة إلى مليارات أخرى، بسبب توقف الشركة عن العمل.
جاء قرار الغلق، بعد خلافات بين خليفة والرئيس الجزائري حول مسائل تتعلق بالعمل الاقتصادي الحر، والدعم الذي يجب أن يلقاه بوتفليقة (من قبل خليفة) عبر قناتين تلفزيونيتين يملكهما. ولأن خليفة رفض دعم الرئيس انتهى كل شيء بجرة قلم، والرجل الآن شبه لاجئ في العاصمة البريطانية لندن.
لم يقل بوتفليقة شيئا حول موضوع الخليفة، غير أنه أكد من خلال ما قام به في الميدان، أن سياسته الاقتصادية، مكنت الجزائر من الاحتفاظ بفائض صرف يُقدر بثلاثين مليار دولار أمريكي، وهو ما لم يحدث منذ خمسة وعشرين عاما!
اتجاه نحو التتريك؟
لقد كان “الجيش الجزائري” حاضرا على لسان السياسيين والدبلوماسيين والإعلاميين ورواد المقاهي والصالونات طوال هذا العام. فالبعض يريد أن تتدخل المؤسسة العسكرية في كل صغيرة و كبيرة والبعض الآخر، ينتابه الفضول، ليعرف رأي أصحاب القرار، كما يحلو للبعض تسميتهم.
أما الجيش، فقد قلل قادته من التصريح لوسائل الإعلام، باستثناء تدخل قصير، حمل معنى سياسيا كبيرا لرئيس هيئة أركان الجيش الجزائري محمد العماري الذي قال بالحرف: “لا يعارض الجيش وصول أي مرشح إلى رئاسة البلاد، و لو كان الشيخ عبد الله جاب الله زعيم حركة الإصلاح الإسلامية”.
وبالفعل فقد فتح هذا التصريح، بابا واسعا للجدال السياسي بشأن مصداقية و نزاهة الانتخابات الرئاسية المقبلة، لأن مؤدى تصريح قائد هيئة أركان الجيش الجزائري، أن المؤسسة العسكرية لا تملك مرشحا ما ولو كان عبد العزيز بوتفليقة.
أما الجيش نفسه فقد مضى، في طريق آخر اختطه لنفسه منذ العام 1996. إذ كثف من اتصالاته وعلاقاته مع حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية وشارك في مناورات عسكرية متعددة في منطقة البحر المتوسط وغيرها.
ثم قررت المؤسسة العسكرية أن يناقش ضباطها في دورات خاصة مسائل السلطة والسياسة ومدى تدخل الجيش فيهما، بالإضافة إلى نوعية المهمة التي يمكن للقوات المسلحة أن تقوم بها وسط مجتمع يتغير كل يوم.
بطبيعة الحال، كانت إجابات الضباط على تساؤلات كهذه مزيجا بين الحقيقة والتصنع، غير أنها أثبتت أن الاتجاه نحو “تتريك” الجيش (نسبة إلى الحالة القائمة في تركيا) أمر واقع. وبدا واضحا أن صناع القرار استفادوا إلى حد ما من النصائح الداعية إلى عدم المبالغة في التشدد على شاكلة الجنرالات الأتراك..
تعاون أمني
في نفس الوقت، استمر العنف في حصد أرواح الجزائريين، ولو أن معدلات القتلى تدنت عما كانت عليه مثيلاتها في السنوات الماضية. فعوض أن يكون هناك مائة قتيل أسبوعيا، تحولت الأرقام إلى خمسين إلى ثلاثين أسبوعيا. أما في الأشهر الستة الماضية فقد كان أغلب القتلى من الجماعات المسلحة.
وقد قامت الجماعة السلفية للدعوة والقتال، باختطاف حوالي خمسين سائحا، حرر نصفهم بالقوة، فيما أجبرت الحكومة الألمانية على دفع حوالي ستة ملايين يورو كي يُطلق سراح الباقين. ويتحصن المختطفون الآن في المناطق الشمالية الوعرة في جمهورية مالي.
وتشير بعض المصادر إلى أن أعدادهم وعدتهم قد ازدادت بعد المال الذي حصلوا عليه. كما أظهرت مسألة تحرير الرهائن، نوعية التعاون القائم بين مصالح الأمن الجزائرية ونظيراتها في كل أنحاء العالم، وخاصة منها الأوروبية والأمريكية.
من ناحية أخرى، استمر الجدل حول الصحافة الجزائرية، بين المعارض والمؤيد، وبين المتعقلين والفوضويين. وكما سُجن بعض الصحافيين وأوقفت صحف أخرى بضعة أسابيع كي تدفع مستحقاتها للمطابع والضرائب، فقد استمر الانتقاد الشديد لمؤسسات الدولة ورموزها من دون استثناء.
أما البعض فقد تنفس الصعداء لأن الحياة الخاصة للجزائريين لم يتناولها الصحافيون الفوضويون، ويتمنى الجميع أن يستمر هذا الوضع في مستقبل الأيام.
اقتصاد ونقابات
اقتصاديا، نجح الرئيس الجزائري، في تطبيق برامج ضخمة، تعنى بإصلاح الطرق وبناء السدود ووضع خطط هامة لبناء السكن الاجتماعي الذي تعاني الجزائر من نقصه معاناة شديدة.
في نفس الوقت، وكعادة الأشغال الكبرى، لم يلحظ المواطنون جدواها في المدى القريب، وتململ الجزائريون في مناطق عديدة لأن البطالة متفشية وفرص العمل نادرة جدا. واضطرت مصالح الأمن إلى استعمال الغاز المسيل للدموع والعصي والكلاب لتفريق المتظاهرين الغاضبين.
وتعتبر مسألة الإصلاح الاقتصادي مربط الفرس بالنسبة لاستقرار الجزائر في السنوات القليلة القادمة. فيما يؤكد الخبراء الاقتصاديون، أن الإدارة الجزائرية تفتقد إلى الشجاعة اللازمة لدخول عالم المنافسة الاقتصادية العالمية من خلال فتح المجال للاستثمارات الخاصة محلية كانت أو خارجية.
و في نفس السياق، ازدادت حدة احتجاجات عمال القطاع العمومي، وأضرب آلاف الأساتذة عن العمل وطالبوا برفع أجورهم دون أن ينتسبوا إلى نقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين، الموالية للدولة.
وفيما تجسد تحرر العمال “نقابيا” خلال عام 2003 ، انفتح الباب حسبما يبدو أمام تعددية نقابية، أفرحت الراغبين في أن يكون لأعوان الشرطة نقابات كما في الدول الغربية.
في المقابل أعلن البعض عن رفضهم لفكرة تعدد النقابات، على غرار السيد علي تونسي المدير العام للأمن الوطني الذي قال: “لا يحتاج رجال الشرطة إلى نقابة، لأنهم على أحسن ما يرام”.
مفاجآت وتحولات
أما الإسلاميون، فقد فرحوا بإطلاق سراح شيخي الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحظورة، عباسي مدني و علي بن حاج. وفي نفس الوقت، فرضت الحكومة شروطها على الإسلاميين من دون استثناء، ولأنها اعترفت بوجودهم داخل المجتمع الجزائري، إلا أنها وضعت خطوطا حمرا لا ينبغي عليهم تجاوزها، وهو ما سيتم التأكد منه، في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجديد، عندما يتحرك الإسلاميون لصالح هذا المرشح أو ذاك، مخالفين أو مؤيدين، لتوجهات أصحاب القرار.
نفس الشيء يمكن أن يقال عن القبائل، الذين راوحوا مكانهم هذا العام، ولم يتقدموا أو يتأخروا في حوارهم مع الحكومة، غاية ما هنالك أن ملفهم أصبح ورقة ضغط انتخابية لدى البعض، و ملف مساومة لدى البعض الآخر، كأن قدر القبائل، أن يظلوا أبد الدهر، محل مراهنات الأقوياء والدهاة من السياسيين والمغامرين.
كان العام 2003، عام المفاجآت بما تحمله الكلمة من معنى، غير أنه جسد التحولات الكبيرة التي يعيشها المجتمع الجزائري، واتضح بما لا يدع مجالا للشك أن قادة البلاد ممن خاضوا الحرب على الاستعمار، وحكموا بعد الاستقلال، يصطدمون يوميا، بصخرة تغير الأجيال والعقليات.
في نفس الوقت، لم تتغير طبيعة التحول في الجزائر عن صورتها المعهودة: بطء وصخب عند الاحتكاك في شبه غريب بزلازلها التي لا تتوقف…
هيثم رباني – الجزائر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.