اختبار لقدرة برن على التوفيق بين المبادئ والمصالح والتوازنات
على غير العادة، وجدت سويسرا، التي تحوّلت بانضمامها إلى الأمم المتحدة سنة 2002، إلى بلد كامل العضوية، نفسها مضطرة لتبرير المواقف التي تتخذها في شتى المحافل الأممية.
ومن خلال مراجعة سريعة، يتضح أن عضويتها في مجلس حقوق الإنسان، اقترنت بصعوبة التوفيق بين الإلتزام الفِـعلي بالدفاع عن حقوق الإنسان وبين تطبيق ذلك، من خلال ما يتمخَّـض عن هذه المحافل المُـسيَّـسة من قرارات وتوصيات.
ومنذ انضمامها إلى الأمم المتحدة، تميّـز أداء سويسرا داخل المحافل الأممية بفقدانها ميزة العضو المراقب التي كانت تُـجنِّـبها تحمّل مسؤولية التصويت لصالح هذا الطرف أو ذاك، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمحافل تكثُـر فيها التجاذبات السياسية، مثل مجلس حقوق الإنسان. فقد أصبحت مُـطالَـبة بتوضيح موقفها في كل خطوة تتخذها، حتى في المناسبات التي تقرر فيها الإمتناع عن التصويت.
ولعل هذا أهم ما ميَّـز عضويتها داخل مجلس حقوق الإنسان منذ 9 مارس 2006، تاريخ تأسيسه. فهذا المجلس الذي جاء بمبادرة سويسرية، من أجل تعويض لجنة حقوق الإنسان التي عمّـرت لحوالي ستين عاما وأصبحت تُتـهم بالتسيس والجدل العقيم، الذي منح الأولوية لمصالح الكُـتل الجغرافية، بدل مراعاة انشغالات الدفاع عن حقوق الإنسان، وخاصى لدى التطرّق إلى المواضيع التي تهم المنطقة العربية والشرق الأوسط عموما.
انتهاكات إسرائيل: دعمٌ للنقاش وتحفظ عند التصويت
بالعودة إلى استعراض مواقف برن داخل مجلس حقوق الإنسان، عندما يتعلق الأمر بمناقشة الإنتهاكات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، يتضح أن سويسرا كانت دوما من بين الدول الداعمة لعقد النقاش، سواء في دورات المجلس العادية أو الخاصة. ولكنها كثيرا ما امتنعت عن التصويت، بتبريرات تختلف عادة عن تلك التي يقدِّمها المعسكر الغربي.
ففي أول قرار لمجلس حقوق الإنسان بخصوص الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في شهر يوليو 2006، وعلى الرغم من اعتبار السفير السويسري حينها أن “إسرائيل استخدمت قوة مُـفرطة في عملياتها في قطاع غزة”، إلا أنه اختار إلى جانب أربعة مندوبين آخرين الإمتناع عن التصويت لصالح قرار يُدين إسرائيل، وهذا مقابل 29 بلدا لصالح القرار و 11 ضده. وكان التعليل المقدَّم آنذاك، هو أن مشروع القرار “لم يكن يشير إلى انتهاكات القانون الإنساني الأخرى، المتعلقة بإطلاق الصواريخ على القرى الإسرائيلية والإنفجارات الإنتحارية أو اغتيال مستوطِـن إسرائيلي شاب”.
وأثناء الحرب التي خاضتها إسرائيل في قطاع غزة في نهاية عام 2008 وبداية عام 2009، كانت سويسرا البلد الغربي الوحيد الذي ساند عقد جلسة خاصة في شهر يناير 2009، مما أثار انتقادات من المنظمات اليهودية في سويسرا، إذ على الرغم من الجدل الذي دار حول العنوان الذي تم اختياره للجلسة الخاصة، والذي رأت فيه إسرائيل أنه يستهدفها لوحدها دون الإكتراث للإنتهاكات المرتَـكبة من قِـبل الفلسطينيين، اعتبرت سويسرا أن “خطورة الوضع، تفرض انعقاد الدورة”.
في المقابل، قابلت سويسرا القرار المترتِّـب عن الدورة والذي أشار إلى إدانة إسرائيل، وأقر بتأسيس لجنة تحقيق دولية في الإنتهاكات المرتكبة في حق القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، بالإمتناع عن التصويت إلى جانب 12 دولة أخرى، في حين صوتت لصالحه 33 دولة وعارضته كندا بمفردها. وقد كان من نتائج هذه الدورة وما تلاها من دورات خاصة حول مجزرة بيت حانون، أن أفضت إلى صدور تقرير ريتشارد غولدستون، الذي اعتبره المراقبون “أهمّ تقرير تفرزه آلية حقوق الإنسان”، حيث قام بتصنيف الإنتهاكات المرتكبة من قبل إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة واعتبر أنها “بمثابة جرائم حرب وقد ترقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية”، لكن تقاعس الدول المؤثرة وسوء مناورة الجانب الفلسطيني، أدّيا في نهاية المطاف إلى إبطال مفعول تقرير غولدستون.
وفي الجلسة الخاصة، التي خصّصها مجلس حقوق الإنسان للنظر في الوضع السائد في لبنان عقِـب الاجتياح الإسرائيلي في صيف 2006، امتنعت سويسرا عن التصويت لصالح القرار الذي “أدان الهجمات الإسرائيلية العشوائية، وبالأخص ما ارتكبته من انتهاكات في قانا ومروحين والدوير والبياضة والقاع والشياح والغازية وغيرها”.
في تلك المناسبة، عللت برن الإمتناع عن التصويت، بـ “عدم التوازن في التعاطي مع الإنتهاكات بالنسبة لكل الأطراف”، فإن السفير بليز غودي، عبَّـر آنذاك أمام وسائل الإعلام عن “اعتقاده بأن الدول الإسلامية، من مفهومها، ترى أنه من الطبيعي أن لا يكون هناك توازن في مشروع القرار، لأن الأوضاع على الأرض غيْـر متكافئة”. كما أوضح غودي بأن ما ترغب فيه سويسرا عند الحديث عن التوازن “ليس تحميل الطرفين نفس المسؤولية، وأن القانون الإنساني الدولي، حتى في حالات استعمال مُـفرط وغير متكافئ للقوة، لا يسمح للطرف الثاني بعدم احترام تجنيب المدنيين قدر المستطاع ويلات الحرب”.
“الربيع العربي”.. فرصة للإجماع
الإنتهاكات المتكرّرة، التي تعرضت لها شعوب عدة بلدان عربية في إطار ما يُعرف بثورات الربيع العربي والتي كانت محط نقاش من قِـبل مجلس حقوق الإنسان، مثل ليبيا وسوريا، وفرت لسويسرا فرصة التذكير بمواقفها الداعمة لاحترام حقوق الإنسان والتقيد بثوابت القانون الإنساني الدولي، نظرا لشِـبه الإجماع الذي ساد انعقاد هذه الدورات. وحتى بالنسبة لبعض الإنتفاضات التي تم تجاهلها، مثل البحرين، فقد استغلَّـت سويسرا بعض الفرص المتاحة للتطرق للإنتهاكات المُـرتَكبة هناك.
ففي وضع ليببا، التي خصص لها مجلس حقوق الإنسان جلسة خاصة في 25 فبراير 2011 وأقدم على إقصائها من العضوية في خطوة غير مسبوقة، عبَّـرت سويسرا عن “ترحيبها بالإجماع بين المجموعات الجغرافية الذي سمح بعقد الدورة الخاصة”. كما أدانت برن “عمليات القتل التعسُّـفي للمتظاهرين على يد قوات الأمن الليبية”، ورحبت “بإقصائها” من عضوية مجلس حقوق الإنسان. وبعد سقوط النظام نهائيا، رحبت بـ “انتهاء 40 عاما من الديكتاتورية” في هذا البلد المغاربي.
وإذا كانت سويسرا قد سارعت لعرض دعمها لبناء المؤسسات الديمقراطية في ليبيا، فإنها كانت من بين الدول القلائل التي شدّدت على أن “محاربة الإفلات من العقاب بالنسبة لمرتكبي الإنتهاكات الجسيمة، يعتبر عنصرا أساسيا لقيام سلام دائم وتجنُّـب ارتكاب نفس الإنتهاكات في المستقبل”.
التشديد على المطالبة بمحاربة الإفلات من العقاب، تميزت به سويسرا أيضا في الملف السوري أمام مجلس حقوق الإنسان، إلى جانب إدانة الإنتهاكات المرتكبة من أطراف النزاع. ففي بداية المواجهات، شددت سويسرا على “ضرورة أن لا يصرف الإهتمام بالقضايا الإنسانية، النظر عن البحث عن حل سياسي” للأزمة السورية. وبادرت على لسان وزير خارجيتها ديديي بوركالتر بالإعراب عن دعمها “لأية جهود يتم القيام بها، لربط الحوار بين الأطراف المعنية” في سوريا.
ومع استمرار الصراع وتزايد الإنتهاكات، لم تجد سويسرا بُـدّا من التشديد أثناء الجلسة الخاصة التي خصصها مجلس حقوق الإنسان لمناقشة مجزرة الحُولة في أول يونيو 2012 على “ضرورة احترام كل الأطراف للقانون الإنساني الدولي”، مشيرة بالخصوص إلى مسؤولية الحكومة السورية فيما حدث.
وبالمناسبة، كانت سويسرا من الدول القلائل التي “طالبت مجلس الأمن الدولي بتحويل ملف الانتهاكات في سوريا مباشرة الى المحكمة الجنائية الدولية، لأنها هي القادرة على القيام بتحقيق ومتابعة الجُـناة في غياب إرادة لدى الحكومة السورية للقيام بذلك”، حسبما ورد في مداخلة رئيس الوفد السويسري في الجلسة.
وحتى في ملف البحرين، الذي تجاهله مجلس حقوق الإنسان (حتى الآن) بسبب الضغوط الممارسة من طرف بعض القوى الكبرى في المجلس، وجدت سويسرا فرصة في الدورة العشرين للمجلس المنعقدة يوم 28 يونيو 2012 لكي تعبِّـر في نص مشروع قرار مشترك مع 27 دولة أخرى عن “القلق بخصوص أوضاع حقوق الإنسان، التي ارتُـكبت أثناء أحداث مارس وأبريل 2011 أو تلك المُـستمِـرة إلى حد اليوم”.
ولئن رحَّـبت الكنفدرالية كباقي الدول بنتائج لجنة التحقيق المستقلة (لجنة بسيوني) في الأحداث، فإنها طالبت بالتسريع بتطبيق تلك التوصيات، خصوصا فيما يتعلق بـ “إفساح المجال أمام المقرّريْن الخاصيْن، مثل المعني بمناهضة التعذيب والمعني بحرية التجمع، اللذان طلبا زيارة المملكة. كما طالبت بضرورة السماح لمفوضية حقوق الإنسان بإقامة مكتب دائم لها في البحرين.
دور بنّـاء في مواضيع حساسة
على صعيد آخر، تميزت سويسرا، منذ حصولها على العضوية في مجلس حقوق الإنسان في مارس 2006، بدور نشِـط لدعم ملفات حساسة، من بينها احترام القانون في محاربة الإرهاب أو إلغاء عقوبة الإعدام وحقوق المدافعين عن حقوق الإنسان، أو حقوق المُـعوَّقين.
ففيما يتعلق مثلا باحترام القانون عند محاربة الإرهاب، شدد مشروع القرار، الذي دعمته سويسرا، على تذكير الدول بضرورة أن تراعي عمليات محاربة الإرهاب، احترام كافة الإلتزامات التي وقعت عليها بموجب القانون الدولي وحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي وحقوق اللاجئين، بل يذهب مشروع القرار إلى حد إلزام كل الدول باتِّخاذ كل التدابير، لكي تضمن بأن الأشخاص المعتقَـلين لديها، يجب أن يستفيدوا من كل الضمانات المُـخوَّلة من قِـبل القانون الدولي، بما في ذلك ضمان عدم التعرض للتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية أو المُخِـلة. وفي حال عرضهم على المحاكمة، أن تراعي تلك المحاكمة الإجراءات والضمانات الأساسية. ولأن هذا المشروع قُـدِّم من بلد غربي هو سويسرا، رأت فيه دول مثل كوبا أو الجزائر، مِـثالا بنّـاءً يجب إتباعه في عمل مجلس حقوق الإنسان مستقبلا.
أما في صورة حصول إجماع داخل المجلس، وهو أمر نادر الحدوث، فإن سويسرا عادة ما تُـسارع بالترحيب بذلك، على أنه النموذج الأمثل لعمله، وهذا ما حدث أثناء الدورة الخاصة حول دارفور في مارس 2007، والتي انتهت إلى إصدار قرارات بالإجماع من بينها إرسال لجنة تحقيق على عين المكان، إذ رأت برن على لسان سفيرها آنذاك أن “هذه الخطوة تظهر جلِـيا بأن ثقافة التوافق قائمة فعلا في المجلس، وفي ذلك علامة مميَـزة في الطريق القصير، الذي خطاه مجلس حقوق الإنسان منذ قيامه في 19 يونيو 2006″، على حد تعبيره.
وفي بعض الحالات، تبنَّـت سويسرا ودول عربية مشاريع قرارات عرضت على المجلس، من بينها المشروع المشترك مع المغرب في عام 2008 (تمّ التوصل إلى إقراره في عام 2011)، والداعي إلى ضرورة تعميم التكوين والتأهيل في مجال حقوق الإنسان.
تأسس مجلس حقوق الإنسان رسميا، يوم 19 يونيو 2006، ليُـعوِّض لجنة حقوق الإنسان، التي تعرّضت لانتقادات شديدة بعد تحولها في نهاية حقبة الحرب الباردة إلى ساحة مواجهات عقيمة بين الكتل السياسية والجغرافية.
يتألف المجلس من 47 دولة، تُـنتخب مباشرة من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة وتتراوح مدة عضويتها ما بين عام وثلاثة أعوام.
عقد المجلس في العامين الأولين من نشاطه 6 دورات استثنائية، خُـصِّـصت للنظر في قضايا عاجلة تعلقت بالحرب الإسرائيلية على لبنان والأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة وميانمار ودارفور.
رغم الإصلاحات الجديدة، ظلت المواجهة قائمة داخل المجلس بين بلدان الشمال والجنوب، ولم يتمكن الهيكل الجديد من تجاوز الخلافات المزمنة ومنطق الكتل الجغراتفية والسياسية المتصارعة.
في الدورة الأولى، التي خصصها المجلس لآلية الإستعراض الدوري الشامل، خضعت 4 دول عربية لهذا الإجراء، وهي الجزائر والبحرين والمغرب وتونس في الفترة الممتدة من 7 إلى 18 أبريل 2008.
يعتبر الإستعراض الدوري الشامل، آلية جديدة وهامة في عمل مجلس حقوق الإنسان. وتتمثل في القيام بمراجعة دورية لأوضاع حقوق الإنسان في كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وفقا لنفس الشروط.
تتكون عملية المراجعة من تقديم الدولة المعنية لتقرير حول أوضاع حقوق الإنسان فيها، لا يزيد عن 20 صفحة، كما يقدم مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان ملخصا (من 10 صفحات)، يتضمَّـن التوصيات الصادرة عن آليات حقوق الإنسان الخاصة والمقررين الخاصين، بخصوص وضع حقوق الإنسان في الدولة المعنية.
إضافة إلى ذلك، يقدم مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان تقريرا (من 10 صفحات) يتضمن ملخصا لكل ما قدمته المنظمات غير الحكومية من معلومات حول أوضاع حقوق الإنسان في الدولة المعنية.
يناقش المجلس في جلسة عمل تستمر ثلاث ساعات محتوى كل هذه التقارير، ثم يقوم ثلاثة مقررين بإعداد ملخص للنقاش الذي دار حولها وتقديم التوصيات الضرورية.
إثر ذلك، يناقش مجلس حقوق الإنسان لمدة ساعة إضافية تلك التوصيات ويصادق على ما يتم الاتفاق بشأنه وبموافقة الدولة المعنية، أما التوصيات والملاحظات التي لا تقبلها الدولة المعنية فيتم تدوينها جانبا ويكتفي المجلس بأخذ علم بها.
يتوجب على مجلس حقوق الإنسان معالجة ملفات 48 دولة في كل سنة على أن يتم تقديم كل دورة للمراجعة كل أربع سنوات.
اختار المجلس نظاما لتحديد الدول الأعضاء التي يجب استعراض تقاريرها، يراعي الدول المبادرة بالتطوع، وتلك التي تقترب مدة عضويتها في المجلس من الإنتهاء مع الحرص على التنويع بين مختلف الكتل الجغرافية وبين الدول الغنية والسائرة في طريق النمو.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.