مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“الهجرة الدائرية” وسيلة لتفادي هجرة العقول بشكل نهائيّ

عاملان فلاحيان مغربيان يشتغلان في إحدى البيوت المكيفة بمزارع شمال إسبانيا (شتاء 2013) Keystone

إذا ما تم تطبيقها بجدية والتزمت كل الأطراف ببنودها، فمن المحتمل أن تتحول "الهجرة الدائرية" يوما ما إلى الصيغة الأكثر مُلاءمة لحماية مصالح المهاجر وضمان مصالح البلد الأصلي والبلد المستقبل على حد السواء.

لكن، لماذا لا يتم الترويج لهذا النموذج في وقت لا زالت الهجرة السرية أي “غير النظامية” تتسبب في مآسي لا تُـحصى ولا تُعد؟

أتاح أول مؤتمر وزاري أشرفت على إعداده المنظمة الدولية للهجرة حول الجاليات المُغتربة في العالم، يومي 18 و19 يونيو 2013 في جنيف وشاركت فيه أكثر من 140 دولة، الفرصة أمام بعض الدول، من الشمال والجنوب، للحديث عن تجربتها في تطبيق هذا الصنف من الهجرة.

ومن أجل معرفة خصوصية هذا الصنف من الهجرة ومجال تطبيقه عالميا، وما إذا كان سيصبح يوما ما النموذج المثالي لتقنين الهجرة والحد من استغلال العمال المهاجرين النظاميين وغير النظاميين (تعبير مفهوم المهاجرين غير الشرعيين لم يعد مرغوبا فيه من قبل المنظمة الدولية للهجرة)، أجرت swissinfo.ch الحوار التالي مع السيدة لارا وايت، كبيرة مستشاري المنظمة الدولية للهجرة في مجال الهجرة والتشغيل.

swissinfo.ch: ماذا يعني مصطلح “الهجرة الدائرية” بالنسبة لكم في المنظمة الدولية للهجرة؟

لارا وايت: مفهوم الهجرة الدائرية يتوقف على من هي الجهة التي تتحدث عن ذلك. فقد كان في بداية الأمر مفهوما أوروبيا، وتتمثل الفكرة الكامنة وراءه، في تمكين اليد العاملة المهاجرة من العودة الى البلد الأصلي، مع الإحتفاظ بإمكانية العودة من جديد الى البلد المستقبل، وبذلك، خلق نوع من الحركة الدائرية في تنقل هذه اليد العاملة المهاجرة ما بين البلد الأصلي إلى بلد الإستقبال والعكس، عبر توفير شروط تشغيل مدروسة تسمح بحماية حقوق العمال طوال فترة الهجرة.

عندما ظهر هذا التعبير، هل كان يُقصد به الهجرة القادمة من البلدان الأوروبية وحدها أم كان يشمل أيضا الهجرة القادمة من بلدان الجنوب؟

لارا وايت: هناك العديد من دول العالم من خارج أوروبا تتحدث عن نفس المفهوم، ولكنها تستخدم عادة عبارة “الهجرة المؤقتة” أو “العمالة المؤقتة”، عندما يجري الحديث عن اتفاقات تبرمها الدول فيما بينها بخصوص هجرة اليد العاملة. ويمكن القول بأن الهجرة الدائرية تحدث بشكل عفوي بدون تدخل الدولة أو عبر برامج هجرة تشرف عليها سلطات دولة الأصل أو دولة الإستقبال.

ما هي الفئات التي يمكن أن تدخل في إطار الهجرة الدائرية، هل يُقصد بها الطلبة بالدرجة الأولى أم الأطباء وباقي المهن الأخرى؟

لارا وايت: قد تشمل العديد من المهن والفئات، انطلاقا من الطلبة، مثلما ذكرتم، إلى العمال الموسميين، سواء في القطاع الفلاحي أو في مجال الصيد البحري أو عمال القطاع التجاري. وهناك العديد من برامج الهجرة المستخدمة في إطار اتفاقيات التبادل التجاري الحر بين البلدان، مثلما هو الحال في اتفاقية “نافتا” لبلدان أمريكا الشمالية، التي تسمح لعدد من العمال بالتنقل بحرية بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. وفي العديد من الحالات، يحصل العمال المندرجون تحت هذه الأنظمة، على حق الإقامة في كلا البلدين، أو التنقل من بلد إلى آخر بعد فترة زمنية محددة، وهذا كله يتوقف على طبيعة البرنامج المُبرم.

Keystone

كيف تنظر البلدان المصدرة وتلك المستقبلة لليد العاملة المهاجرة إلى برامج الهجرة الدائرية، وما هي الشروط التي يجب توفرها للتفريق بينها وبين الهجرة المؤقتة؟

لارا وايت: هناك العديد من الشروط التي يجب توفرها في أنظمة الهجرة الدائرية أو الهجرة المؤقتة، ومن بين ذلك قدرة العامل المُهاجر على الهجرة إلى بلد الإستقبال، من أجل سد نقص في اليد العاملة في هذا البلد، وهذا يمسّ بالدرجة الأولى العمال الموسميين الذين يتم تشغيلهم في أعمال مؤقتة. أما إذا كان هناك نقص في اليد العاملة لفترة أطول في بعض القطاعات، فإن النظام المتبع عادة هو نظام الهجرة الدائمة، وهذا ما تطبِّـقه بلدان من الشمال، مثل أستراليا وكندا والولايات المتحدة، حيث يستقل العامل المهاجر ويُنظم حياته هناك.

ولكن عادة ما ترى بلدان الأصل أن عملية الهجرة الدائرية وسيلة لتفادي هجرة العقول أو اليد العاملة المتخصصة بشكل مستمر ونهائي، وهي تعتبر أنها وسيلة تسمح لهذه القوى بالخروج إلى الخارج وتطوير مهاراتها المهنية والمعرفية والعودة مرة أخرى إلى البلد الأصلي، التي بقي فيها أهلها وأقاربها. وبعودة هذه القوى العاملة، يتم توظيف مهاراتها وخِبراتها من جديد في البلد الأصلي.

أما الشروط التي يجب توفرها في الهجرة الدائرية، فهي التأطير عند التوظيف والمرافقة أثناء عملية التنصيب في البلد المستقبل وضمان كل الحقوق للعامل المهاجر، بحيث لا يكون هناك فرق بين العامل المهاجر وبين العامل الأصيل، لأن أي قانون عمل يفرق بين الفئتين يعرض العامل الأجنبي إلى مزيد من الإنتهاكات. لذلك، نطالب بأن يكون للعامل المهاجر المؤقت أو الموسمي نفس الحقوق مثل العامل من أبناء البلد.

ومن الشروط الأخرى أن تكون لإقامته في البلد المستقبل فترة محددة، يعود بعدها إلى بلده الأصلي. وما يفرق بينه وبين العامل المهاجر غير النظامي (غير الشرعي)، تمتعه بحق العمل في البلد والعودة إلى وطنه الأصلي والتمسك بحق العودة من جديد إلى البلد المستقبل، الذي كان فيه أو إلى بلد مستقبل آخر. وتوفر هذا العنصر الأخير، يسمح بالحد من تزايد أعداد المهاجرين غير النظاميين الذين يمكثون في البلد بعد انتهاء مدة صلاحية تأشيراتهم أو تراخيص عملهم، مما يعرضهم أكثر للإنتهاكات.

هل لديكم بعض الأمثلة عن برامج الهجرة الدائرية التي تم تطبيقها وأعطت نتائج ملموسة في العالم، وعما إذا كان البعض منها يُطبّق في العالم العربي؟

لارا وايت: من بين الأمثلة التي يمكن ذكرها، برامج الهجرة الموسمية المطبقة في كل من أستراليا ونيوزيلاندا وكندا والتي لها اتفاقيات طويلة الأمد مع بلدان مجاورة.

فقد أبرمت كندا اتفاقيات مع حوالي 15 بلدا من بلدان منطقة الكاريبي والمكسيك، بحيث يُسمح للعمال المهاجرين من هذه البلدان بالدخول إلى كندا مرة في السنة للعمل في المزارع الكندية والعودة بعد انتهاء الموسم إلى بلدانهم الأصلية، مع الإحتفاظ بحق العودة إلى كندا مرة أخرى في الموسم الزراعي القادم.

وهناك العديد من البلدان التي أبرمت اتفاقيات بخصوص تنقل الطلبة، للحصول على التكوين والعودة بعد التخرج إلى بلدانهم الأصلية. وكنا قد أشرنا من قبل إلى برامج تنقل العمال العاملين في التجارة في إطار اتفاقية نافتا بين بلدان أمريكا الشمالية وفي منطقة الكاريبي.

وهناك برامج تنقل لليد العاملة أكثر انفتاحا، على سبيل المثال في دول أمريكا اللاتينية، حيث نجد أفراد طائفة الهنود (أو السكان الأصليين للقارة) التي تحظى بحرية تنقل أفرادها، تشبه إلى حد كبير ما هو موجود بين دول الإتحاد الأوروبي. كما أن هناك أطر تنقل عمالة مُشابهة بين دول مجموعة غرب إفريقيا وبين دول مجموعة الدول المستقلة في آسيا.

وحسب علمي، ليس هناك أي برنامج هجرة دائرية مطبَّق مع دول العالم العربي. لكن ما هو متوفر في العالم العربي، هو عبارة عن شبه برامج أو حركة تنقل لليد العاملة المؤقتة من عدة مناطق من العالم في اتجاه دول الخليج. ولكن هذه الحركة تتم، ليس بالضرورة ضمن برامج محددة بين دولتين، بل هي بالدرجة الأولى، عبارة عن تنقل عفوي للأشخاص.

وما يقلق في ذلك، أن هؤلاء الأشخاص حتى ولو سُمح لهم بالبقاء في تلك البلدان لفترة أطول، فإنهم لا يستفيدون من المزايا الإجتماعية التي يتمتع بها المقيمون الدائمون، أي أنه يتم تمديد فترة الإقامة بشروط الإقامة المؤقتة.

أشادت بعض دول الشمال والجنوب بمزايا تطبيق نظام الهجرة الدائرية واعتبرته “أحد الحلول للتخفيف من ضغط الهجرة غير النظامية”. لماذا لم يتم الدفع لتحويله إلى نظام متفق عليه دوليا؟ وهل تعتزم منظمتكم القيام بذلك؟

لارا وايت: تكمن المشكلة في نظام الهجرة الدائرية، في مدى التمسك بتطبيق حق عودة العامل المهاجر إلى البلد المستقبل مرة أخرى. لكن يمكن أن تحصل أحداث عارضة، مثل ارتكاب العامل المهاجر لجنايات أو أعمال توصف بأنها جرائم أثناء إقامته الأولى في البلد المستقبل. وكثيرا ما يتم إصدار قوانين الهجرة بشكل منفصل عن قوانين العمل والتشغيل. ومن الحقوق السيادية للدول، الحق في رفض دخول أي أجنبي للتراب الوطني.  

أما المنظمة الدولية للهجرة، فلا تعمل على الدفع من أجل تعميم نظام الهجرة الدائرية خصيصا، بل تعمل على الوقوف إلى جانب الدول والمهاجرين، في تعزيز شروط الهجرة ومساعدة المهاجرين في العثور على عمل في مختلف البلدان المستقبلة.

وسواء تعلق الأمر بهجرة مؤقتة أو دائرية أم دائمة، فإن المنظمة الدولية للهجرة تركز في ترويجها ونشاطاتها لهجرة نظامية بالدرجة الأولى. أما مدى نجاح أي من أنظمة الهجرة هذه، فيتوقف على مدى استفادة جميع الأطراف من ذلك ومدى تحقيق حماية العامل المهاجر.

رغم كل هذه المحاسن التي ذكرتها لنظام الهجرة الدائرية، هناك أصوات منتقدة ترى فيه وسيلة من وسائل تعزيز هجرة الأدمغة واليد العاملة المختصة من بلدان الجنوب باتجاه بلدان الشمال؟

لارا وايت: في إطار النقاش الدائر داخل الأوساط المثقفة بخصوص الهجرة الدائرية، هناك مَـن يرى فيها مجرد تصور نظري ولا يُمكن أن يكون له تأثير على أرض الواقع. وبدون التحيز لهذه النظرة أو تلك، يمكن القول – وهذا ينطبق على أي نموذج – بأن المشكلة تكمُن في التفاصيل، حيث يتعلق الأمر بكيفية تنفيذ وتطبيق هذه البرامج وكيف تتم حماية العامل المهاجر طوال فترة هجرته.

وأعتقد بأن من مزايا الهجرة الدائرية، أكثر من أي نوع آخر من الهجرة المؤقتة، ما سبق ذكره من ضمان حق العودة. لكن صمت الحكومات أو عدم ترويجها بكثرة لذلك، يعود لرغبتها في فرض بنود على حق العودة، مثلما أشرتُ الى ذلك في حال ارتكاب المهاجر لسوابق إجرامية، أو لأن هذه الدول تراعي تطورات سوق العمالة لديها، مثلما حصل في عام 2008 عندما شرعت العديد من الدول المُطبّقة لهذه البرامج في التساؤل عما إذا كانت ستضطر لفرض قيود على حق العودة، مخافة أن تؤدي عودة تلك اليد العاملة إلى إيجاد فائض في سوق اليد العاملة وممارسة منافسة على اليد العاملة الوطنية، وهو ما ليس في صالح، لا العامل المُهاجر ولا العامل المحلي.

في الرابع من مارس 2013، تلقى برلمان سويسرا – البلد الذي طبّق العديد من نظم الهجرة، ويُحاول باستمرار مُلاءمة السياسة المتبعة في هذا المجال مع متطلبات سوق العمل الداخلية – التماسا من كتلة الخضر، يطالب الحكومة الفدرالية بإعداد تقرير عن “الهجرة الدائرية.. شراكة حول تنقل الأشخاص، ووسيلة للسماح بالحصول على تكوين وعمل لفترة مؤقتة”.

إلتماس الخضر استند إلى بيان الإتحاد الأوروبي الصادر في 16 مايو 2007 الداعي إلى تفضيل الهجرة الدائرية كنظام لتنقل الأشخاص مع باقي الدول. وفي هذا الصدد يُطالب الخضر الحكومة الفدرالية بالنظر في إمكانية استخدام نفس النظام في إطار جهودها للمساعدة على التنمية.

جاء في التعليل المقدم من طرف كتلة الخضر أنه “لا يمكن تلبية مطالب سوق العمل الأوروبية والسويسرية بدون اللجوء إلى يد عاملة أجنبية، كما أن تلبية هذا الطلب بيد عاملة غير نظامية هو خسارة للعامل المهاجر الذي يجد نفسه في وضعية استغلال، وخسارة للبلد الأصلي الذي فقد شابا قادرا على العمل، وخسارة لسويسرا التي لا يمكنها التحكم في سوق عمالة سوداء لها تأثيرات على أجور العمال حتى من أبناء البلد”.

في إلتماسهم أمام  البرلمان، يقترح الخضر أن “تدرس الحكومة الفدرالية إمكانية إدخال نظام رخصة صالحة للدراسة والعمل بالنسبة لمواطني بلدان أخرى، تسمح لهم بالعمل لفترة محددة في سويسرا مع تلقي دورات تكوين تلبي متطلبات بلدهم الأصلي. يعود بعدها إلى موطنه حيث يمكنه استثمار مهاراته وتكوينه”.

في الثامن من مايو 2013، ردت الحكومة الفدرالية على هذا الإلتماس بالتأكيد على أنه “ليست هناك ضرورة للقيام بدراسة جديدة، نظرا لتوفر برامج شراكة أساسا بين سويسرا وعدد من الدول سواء في مجال التكوين أو العمل”. وأشارت الحكومة إلى أن هناك عددا من هذه البرامج سارية المفعول تتعلق بـ 34 برنامجا في مجال التكوين والتعليم، ويُسمح من خلالها للطالب بالإقامة في سويسرا لفترة قصوى تصل إلى 18 شهرا.

هناك أيضا برامج هجرة مُبرمة بين سويسرا وكل من صربيا وكوسوفو والبوسنة والهرسك ونيجيريا. إضافة الى برامج يتم إبرامها من حين لآخر مع دول أخرى في إطار المساعدة على التنمية وتسمح للمرشحين من هذه الدول بمزاولة تعليم أو تدريب في سويسرا وخصوصا في مجالات الزراعة والسياحة.

الحكومة أشارت أيضا في ردها – الذي دعت فيه أعضاء البرلمان إلى رفض ما جاء في التماس الخضر – بأن “السماح  بدخول عمال من دول أجنبية يقتصر على الإطارات والعمالة المتخصصة، ولا مجال لتليين الإجراءات بالنسبة للبقية لأن اتفاق حرية تنقل الأشخاص مع الإتحاد الأوروبي يسمح بتغطية النقص المُسجّل في سوق العمل السويسرية”.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية