خبراء سويسريون يـؤكدون على الأهمية العلمية لموقع الـهـُمّـل الأثري في سوريا
تنفرد بعثة التنقيب الأثري السورية السويسرية العاملة في موقع بئر الهمل بحوض الكوم بسوريا باكتشافها لأحد المواقع النادرة في العالم حيث تتمركز جل حقب ما قبل التاريخ المحتفظة بلقى ذات نوعية جيدة، وبعثورها على دلائل تدفع إلى إعادة تصحيح قراءة تاريخ هجرة الإنسان البدائي من إفريقيا. لذلك لا يتوانى العديد من الخبراء والبحاثة عن الإشادة بخصائص هذا الموقع.
عند الحديث عن أعمال بعثة للتنقيب عن الآثار في موقع معين، يتعلق الأمر بعدد من الأخصائيين يتولى كل منهم جانبا من الأبحاث والدراسات. ومع اختلاف التخصصات وتعددها يُجمع كل الذين التقيناهم في موقع الهُمّل من أعضاء البعثة الأثرية السورية السويسرية على أن الموقع “يتميز بأهمية خاصة وفريدة من نوعها لسبب من الأسباب”، وهذا ما يجعل عددا من هؤلاء الأخصائيين يتردد من حين لآخر على الموقع للمشاركة في دراسة الإكتشافات أو للإطلاع على ما تم العثور عليه.
الحقبة الموسيتيرية ممثلة بكل أبعادها
توماس هاوك من جامعة بازل وهو متخصص في الحقبة الموستيرية (التي تعود إلى حوالي 200 الف سنة قبل الميلاد) قدم قبل سنوات الى موقع الهمل بحوض الكوم وهو طالب لإعداد أطروحته قبل أن يتولى مهمة نائب رئيس البعثة السويسرية فيه.
ويرى هاوك أن أهم مميزات موقع الهُمّل التي تمنحه قيمة استثنائية تتمثل في “وفرة الُّلقى التي تم العثور عليها في طبقات يزيد ارتفاعها عن أربعة أمتار، وهذا ما يعتبر نادرا جدا” حسبما يؤكد.
ويشير الخبير السويسري إلى أن هذه الغزارة والوفرة في اللقى التي يتم العثور عليها وجودة نوعيتها “تسمح لنا بإعادة تصور مراحل التطور التكنولوجي سواء بالنسبة للحقبة الموستيرية وتصور كيف كان الإنسان طوال هذه الفترة التي تمتد الى حوالي 150 الف سنة يستوطن أو يتردد على هذا الموقع وفقا للظروف التي مر بها كموقع مياه (أي مراحل وفرة مياه) أو مراحل جفاف التي عادة ما تعمل على التأثير في نشاطات هذا الإنسان”.
وبما أن الموقع يحتوي على طبقات عديدة فإن “ذلك يسمح لنا بإلقاء نظرة واسعة على هذه الحقبة بدل الإطلالة من نافذة ضيقة”، مثما يقول توماس هاوك.
ومن أهم اللقى (أو المواد) التي عثر عليها الخبراء في هذا الموقع والعائدة لهذه الحقبة (أي الموستيرية) يقول توماس هاوك “بالدرجة الأولى اللقى الحجرية أو الصوانية المستخرجة من موقع يبعد بحوالي عشر كيلومترات عن موقع الهمل والتي تم تصنيعها هنا على شكل أدوات قاطعة مثلثة الجوانب من نمط “لوفالوا” والتي لم تكن تستعمل فقط كرماح للصيد بل ايضا كسكاكين للتقطيع والجزر وما إلى ذلك”.
وبالمقارنة مع مواقع أخرى، يقول الخبير السويسري أن “المهم ليس الإختلاف بل ما هو مماثل أيضا نظرا لأن العثور في مناطق صحراوية على نفس الأدوات التي تم العثور عليها في مناطق ساحلية وذات معالم إيكولوجية مغايرة، ولاستخدامات مغايرة يسمح لنا – ولو أننا لا نملك دلائل على ذلك – باستخلاص أن ذلك يتم بموجب الإلتزام بالعادات والتقاليد الثقافية”.
أما فيما يخص الإختلاف بين ما يتم العثور عليه في سوريا وفي البلدان المجاورة، فالملاحظ أن “المواد التي تم العثور عليها في المنطقة تتميز بجودة ونوعية أعلى من نظيراتها التي تم العثور عليها في مناطق أخرى مثل فلسطين والأردن”.
الخلاصة التي يصل إليها توماس هاوك هي أن “هذا الموقع تردد عليه الإنسان والحيوان بشكل مستمر طوال كل هذه الحقب، وأن النشاطات تكيفت مع مستوى ما كان متوفرا من مياه في البئر بحيث أن فترات الجفاف كانت تعرف توافد أعداد كبيرة من الأشخاص ولفترات أطول بينما وجدنا في طبقات أخرى آثار شخصين او ثلاثة لفترة قصيرة وبغرض إنجاز مهمة ما مثل تجزئة حيوان أو استخدام نبات ما والإنصراف من بعد” ذلك.
اسم الموقع تحول إلى مصطلح
وليد أسعد، مدير متحف وآثار تدمر والمسئول المباشر عن موقع الهُمّل يحرص على التنويه بأن هذا الموقع أثرى قاموس علم الآثار بمصطلح يحمل نفس الإسم أي “الحقبة الهُمّلية” في إشارة الى أدوات صوانية اكتشفت فيه “تتميز بدقة صناعتها وبشكلها المتطاول وتدل على أن الإنسان قد تمكن التحكم في أدوات التصنيع لتصنيع هذه الأدوات. وهذا يدل على تطورفي آلية التفكير الإنساني للوصول الى نمط مميز من الصناعة الصوانية التي أخذت مفهوم الهملية التي أصبح معترفا بها على مستوى العالم”، على حد قوله.
أما زميلته الدكتورة هبة السخل، مديرة المتحف الوطني السوري في دمشق والمتخصصة في عصور ما قبل التاريخ (أجرت تدريباتها كطالبة مع بعثة البورفسور لوتانسورر في دراسة الأدوات الصوانية)، فهي تضيف بأن “موقع الهمل يتميز بجودة الصوان المستخدم في صنع الأدوات التي بقيت محفوظة حتى الآن وكأنها صنعت اليوم ونظرا للوفرة وكثرة هذه الأدوات التي عثر عليها في موقع الهمل أصبحت سوريا تهتم بدراسة تقنية تصنيع الأدوات الصوانية بعد أن كان ذلك مقتصرا على أوروبا”.
ونظرا لجودة الأدوات التي تم العثور عليها من عصور ما قبل التاريخ “تمكنا من التعرف على التقنية المستخدمة ومن خلال هذا التحكم في دراسة تقنيات الأدوات الصوانية، يمكننا التعرف على الإستخدام الذي كانت تستعمل فيه ومن ثم التعرف على نمط العيش الذي كان سائدا في تلك العصور القديمة”، مثلما تقول الدكتورة هبة السخل.
وكانت الدكتورة هبة السخل قد توصلت في أطروحتها إلى أن الموقع كان يُستخدم لتصنيع أدوات صوانية وتصديرها إلى مناطق أخرى حيث تم العثور في الموقع في فترات معينة على بقايا تصنيع أدوات صوانية بدون العثور على الأداة نفسها.
موقع تأثر بالتغيرات المناخية
آن صوفي مارتينو، الخبيرة السويسرية في جيولوجيا الموقع والتي ترددت عليه أربع مرات منذ عام 2007، تشتغل على تحليل تكوين الطبقات وديناميكية تشكيل الموقع ومحاولة فهم طريقة استخدام هذه العين التي سمحت للطبقات بالتراكم في هذا المكان والإحتفاظ الجيد بكل هذه المواد الآثرية.
وتقول الخبيرة “نحاول فهم الظروف المناخية التي كانت سائدة أثناء تكوُّن كل طبقة وما إذا كانت معاصرة لفترة تراكم المواد الأثرية أم أن هذه المواد الأثرية تم نقلها في وقت لاحق للمكان”.
وقد توصلت في نهاية المطاف إلى أن الأمر يتعلق بـ “قصة واحة تعود إلى العصور القديمة جدا أي حوالي مليوني سنة”، وإلى أن الموقع “عرف ديناميكية استخدام مغايرة وفقا للتقلبات المناخية بحيث كانت البداية مع استخدام عين مائية ارتوازية ذات ماء عذب استمرت لفترة طويلة، والتي مرت بفترات متقلبة ما بين جفاف ووفرة مياه إلى أن انتهت باستخدامها بمياه مالحة وهذا كله في هذه الطبقات المتتالية التي هي عبارة عن كتاب نقرأه من الأسفل الى أعلى مما يجعل من هذا الموقع الذي لا نجد مثيلا له إلا في المناطق شبه الجافة في الولايات المتحدة وأستراليا، الموقع الأكثر احتواء على التفاصيل في العالم”.
وكخبيرة سويسرية تقدم من مناطق جبلية في وسط أوروبا، ترى السيدة آن صوفي أن “الفائدة العملية (من العمل في الموقع) تتمثل في إكتساب مزيد من الخبرة في خصائص مناطق شبه جافة لا يمكننا الحصول عليها من خلال عملنا في أوروبا وهذا مهم جدا”.
“جنة” بما يحتوي عليه من أدوات صوانية
يوري ديمينكو، خبير آخر يقدم من أوكرانيا التي لم يُعثر فيها على أي موقع أثري يعود للعصر الحجري القديم جدا، يعتبر من جهته أن ما شاهده في الكوم “هو بمثابة جنة على الرغم من صعوبة الأحوال المناخية وارتفاع درجة الحرارة”.
ويقول ديمينكو: “إن ما يتميز به الموقع كونه يحتوي في أقسامه الثلاثة (همل وندوية وهمل تليل) على كافة الحقب التاريخية القديمة. فإذا كان موقع الهمل لا يحتوي على الحقبة الآشولية فإنها موجودة بكثرة في موقع ندوية وهكذا”.
وبالمقارنة مع المواقع الشبيهة به في منطقة سيناء أو جنوب إسرائيل، يلاحظ الخبير الأوكراني أن “هذه المواقع لا نجد بها أية لُقى تعود للحقبة اليبرودية أو الموستيرية في بعض المناطق”، لذلك ينصح بمواصلة أعمال البحث في المنطقة وتوسيعها لاستكمال كافة الحقب.
وفي معرض التأكيد على أهمية تواجد حقب موستيرية في الموقع، يقول الخبير ديمينكو: “هذه الحقب هي التي عرفت تواجد الإنسان البدائي (الهوموسابيانس). إذ تشير الأفكار السائدة الى أن الإنسان البدائي (الهوموسابيانس) وصل الى المنطقة قادما من إفريقيا واختفى أو مات لأنه ربما لم يستطع التأقلم والعيش خارج منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، ولكن هذا الموقع (أي الهمل) يظهر جليا أن هذا الإنسان استطاع العيش والتأقلم في المنطقة. ومن هذا المنطلق يمكن القول بأنه يُحتمل أن هذا الإنسان البدائي (الهوموسابيانس) لم يتوجه نحو أوروبا ولكنه توجه نحو المنطقة الآسيوية انطلاقا من هنا”.
يعتبر البروفسور جون ماري لوتانسورر، رئيس الجانب السويسري في البعثة السورية السويسرية بالكوم ومدير معهد عصور ما قبل التاريخ وعلوم الآثار بجامعة بازل السويسرية أن “موقع بئر الهمل ذو أهمية كبيرة بالنسبة لتاريخ فصيلة الجمال بمختلف أصنافها”.
ويقول مؤكدا ما ورد في المقال الخاص باكتشاف الجمل العملاق (انظر المواضيع المصاحبة)، “إن النظرية السائدة عن منشإ الجمال في العالم والتي ظلت سائدة حتى اليوم هي أنها أصيلة أمريكا الوسطى والشمالية وأنها انتقلت عبر مضيق بيرينغ الى آسيا والصين بالتحديد قبل أن تمر الى إفريقيا بما في ذلك بلدان المغرب العربي. كما أن الاعتقاد السائد أن وصول الجمال الى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا يتعدى عشرة آلاف سنة”.
لكن البروفسور جون ماري لوتناسورر، يؤكد في حديثه لـ swissinfo.ch “لقد عثرنا على بقايا جمال في كل الحقب التاريخية القديمة الممثلة في بئر الهمل بحوض الكوم”.
كما عثر فريق البروفسور لوتانسورر على بقايا هيكل عظمي لجمل عملاق يفوق مرة ونصف أو مرتين أكبر جمل عادي حالي. وهي المرة الأولى التي يتم فيها العثور على صنف من هذا النوع في العالم وهو ما يدفع الى تكثيف البحث في المنطقة لتوضيح هذا اللغز.
ويؤكد البروفسور لوتانسور أن “غالبية الأصناف التي عثرنا عليها غير معروفة ولم يسبق أن تمت دراستها. ولذلك سوف لن نهتم فقط بتحديد مراحل تاريخ الإنسان بالمنطقة بل أيضا تاريخ الجمال”.
اما مدير متحف وآثار تدمر المهندس وليد أسعد فيستخلص من هذه الإكتشافات الأثرية بالكوم أن “ذلك غيّر فهما سائدا فترة طويلة بأن الجمل الذي هو رمز الصحراء العربية ويسمى بسفينة الصحراء وافد للمنطقة العربية من شرق آسيا أو من إفريقيا من عشرة الى خمسة عشر الف عام ، لأن اكتشافه في فترة تعود لما بين 80 الى 120 الف عام يعمل على تبديل المفهوم السائد”.
وبالاستناد الى أن بعثة الكوم عثرت على بقايا جمال في حقب تاريخية تعود إلى حوالي 400 ألف سنة قبل الميلاد، يصل المهندس وليد الأسعد الى خلاصة تؤكد أن “الجمل ابن هذه المنطقة وليس وافدا إليها”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.