“عنف الشباب.. رد فعل على الإقصاء والتهميش”
قتيل في لوكارنو.. وجرحى في بروغ.. واشتباك بالعصي وقضبان الحديد في شوارع مدينة سيون.. والمتهمون دائما أجانب أو سويسريون من أصول أجنبية.
وإذا كان الكثير من المراقبين يرون في هذه الأحداث ظاهرة غريبة عن المجتمع السويسري، فإن مهدي المسعدي، الخبير الدولي في مجال العنف الحضري يُـحمِّـل المسؤولية إلى الأسرة والمجتمع بأسره.
ويرى هذا الخبير، الذي يحسن الإنصات إلى معاناة الفئات الضعيفة ويفضل الحوار والعمل الميداني، أن الشباب في سويسرا يمرّون بظروف صعبة قد لا تختلف كثيرا عمّـا يعيشه أقرانهم في الضواحي والأحياء المهمّـشة في البلدان الأوروبية المجاورة.
ويدعو مهدي المسعدي كل مَـن أراد فهم هذه الظاهرة، إلى الاستماع أولا إلى مطالب هؤلاء الشباب وإلى التعامل بواقعية مع المشكلات التي تواجههم وإلى عدم توجيه أصابِـع الاتهام إلى مجموعة (عرقية أو من جنسية) بعينها.
وبرغم أن الأحداث التي شهدتها العديد من المدن السويسرية خلال الأيام الماضية قد أدّت إلى إلغاء العديد من التظاهرات الثقافية، ككرنافال لوكارنو وكرنافال سيون، وسقط فيها العديد من الضحايا، بعضهم في حالات خطرة، فإنها تظل أحداثا معزولة بحسب مهدي المسعدي، الذي يُـحذّر من تدهْـوُر الوضع أكثر إذا لم تُـتخذ خطوات سريعة في هذا المجال.
وللوقوف على الأسباب الحقيقية لهذه الظاهرة، التي تشغل الرأي العام في سويسرا، أجرت سويس انفو الحوار التالي مع الخبير الدولي مهدي المسعدي، والذي بادرناه بالسؤال التالي:
سويس انفو: متى بدأ اهتمامك بقضايا الشباب، وظاهرة العنف في الساحات العامة؟
مهدي المسعدي: أنا فرنسي من أصل جزائري، وُلدت ونشأت في الأحياء الفقيرة بضواحي باريس، وفي تلك الأحياء، يكثر الحديث عن الاندماج، لكن لا شيء تغيّـر في الواقع.
عندئذ فكرت أنا ومجموعة من الشباب الذين يعيشون في تلك الأحياء، بأخذ زِمام المُـبادرة والمطالبة بتحقيق فُـرص متكافئة في التّـكوين والعمل للجميع على قاعدة المساواة في المواطنة، وبدأنا بتأسيس جمعيات وروابط.
وكانت الخطوة الأولى، التوجه إلى ممثلي الدوائر الحكومية، وقلنا لهم: “إذا لم تُـبادروا بفعل شيء ما لإنقاذ هؤلاء الشباب، فإن الأوضاع ستنفجر”، وللأسف لم يستمعوا إلى ندائنا، واليوم، تشهد تلك الضواحي حالة من العُـنف والتسيّـب.
سويس انفو: هذا في فرنسا، وماذا عن الوضع في سويسرا؟
مهدي المسعدي: عندما قدِمت إلى هذا البلد، أوّل انطباع ترسّـخ لدي، أن سويسرا بلد غني ونظيف ينعم فيه المواطن والأجنبي بالأمن والاستقرار، ولا أخفيكم، تمنّـيت لو أنني ولِـدت وقضيت طفولتي في هذا البلد، ولكن ما لاحظته لاحقا، أن هناك حالة من التكتّـم والسعي لإخفاء عُـيوب هذا المجتمع، ومجرّد النبش قليلا، ينكشف الواقع على حقيقته، وظهر لي أن ما عايشته في مجتمع الضواحي المهمّـشة في فرنسا، موجود أيضا في سويسرا، بغضّ النظر إن كان هؤلاء الشباب يعيشون في مُـدن كبيرة أو في أحياء معزولة أو حتى في مآوى للمشردين، وأرى أن هناك عملا كبيرا يجب القيام به لوضع حد لهذه المعاناة، التي دفعت البعض إلى الإدمان على الكحول والمخدرات وإلى الجريمة والانحراف.
سويس انفو: بعد الأحداث المؤلمة التي كانت مدن سويسرية عديدة مسرحا لها، هل تشهد سويسرا اليوم تصاعُـدا لظاهرة العنف؟
مهدي المسعدي: على الرغم من أن الوضع لم يصل إلى ما وصلت إليه الأوضاع في الأحياء والمدن الفرنسية، لكن من الواضح أن هناك تصاعدا لأحداث العنف، وقبل أن نُـحمـّل الشباب مسؤولية ما يحدُث، علينا أن نتساءل أيضا عن دور الكبار فيما يحدث.
الشباب اليوم يفتقدون إلى أي إطار يضبطهم، العائلة مفكّـكة والآباء مغلوبون على أمرهم. هؤلاء الشباب الذين لا تُـتاح لهم فُـرصٌ لمواصلة الدراسة ولا أماكن للتكوين والتدريب، إذا تُـركوا لحالهم مُـنعزلين عن المجتمع، سينحرفون ويُـصبحون خطرا على المجتمع نفسه.
سويس انفو: هل تقِـف وراء هذه الظاهرة مجموعات منظمة وما الذي يوحِّـد هؤلاء الشباب؟
مهدي المسعدي: الأمر لم يصل بعدُ إلى هذا الحدّ، والشباب الذين يرتكِـبون هذه الأعمال، عادة ما يكونون عاطلين عن العمل ومهمّـشين، وفي غياب روابط قوية تربطهم بالعائلة وبمؤسّـسات المجتمع الأخرى، يحتاجون إلى بعضهم البعض، فيشكِّـلون مجموعات هي خليط من البطالة والمخدّرات وشعور عميق بمرارة الإقصاء والتهميش، وكل ذلك ينتهي بهِـم إلى الانحراف والدّخول في المَـتاهات.
سويس انفو: ما مسؤولية المجتمع السياسي فيما يحدث؟
مهدي المسعدي: المشرّعون والمسؤولون بصِـفة عامة، لهم دور كبير في هذا المجال، لماذا يسمحون بتداول وبيع ألعاب الفيديو التي تصوّر مشاهِـد قتل لأعوان الأمن ولأعداء مفترضين لشباب تتراوح أعمارهم بين 12 سنة و14 سنة، شباب عندما يلتقون لا يفكِّـرون إلا في حاضرهم، حتى إذا ما ارتكبوا حماقة أو وقع أحدهم في إحدى المطبّات، عندئذ فقط ينتبهون، لكن بعد فوات الأوان.
سويس انفو: لكن نحن نعيش في مجتمع حُـر، الإنسان مسؤول عن أفعاله والعائلة مسؤولة عن أبنائها؟
مهدي المسعدي: المجتمع الاستهلاكي المتحكّـم برقاب الناس، يَـفرض اليوم على الشاب أن يكون غنيا وقويا وحسن الهندام، وليس أمام الشاب، مَـهما كان وضعه الاجتماعي، إلا أن يتدارك ما يفصله عن تلك الصورة النمطية.
وشباب اليوم لا يريدون المرور بمراحل منطقية، للحصول على المال ولا يريدون أن ينهكوا قِـواهم في الحصول على لُـقمة العيش، مثلما كان يفعل آباؤهم من قبل، وهذا ما يدفعهم إلى مُـحاولة الحصول على المال بطُـرق، بعضها مشروعة وبعضها غير مشروع وتغيير هذه القناعة، يتطلّـب جُـهدا كبيرا وتدخّـلا من عدّة جهات ومؤسسات تربوية وغيرها.
سويس انفو: كيف يمكن مواجهة النّـزعة العدوانية عند هؤلاء الشباب؟
مهدي المسعدي: الحوار وعدم قطع الاتِّـصال بهم، وعلينا أن نتوجّـه أولا إلى النّـواة الصّـلبة فيهم، وغالبا ما يكون بينهم شخص ينصِـتون إليه، ومعه يجب التفاوض والحوار، وهذا الحوار ليس سهلا ويتطلب رباطة جأش وصبر وعاملان أساسيان يساهمان في إنجاحه، الثقة والاحترام.
وبالإضافة إلى السّـعي إلى إيجاد حلول واقعية للمشكلات، كتوفير فرص للعمل والتكوين، لابد أن ينصبّ الجُـهد أيضا على تعزيز علاقة الشاب بمحيطه العائلي، حتى لو اقتضى الأمر تدخّـل وسيط يساعد على استعادة الثقة بين الطرفين، وأن يلتزما بحد أدنى من المعايير، ليس أقلها الاحترام والاستفادة من دروس التجربة الماضية.
سويس انفو: تشديد الإجراءات القانونية، وتعزيز الأمن، هل يمكن أن يكون عِـلاجا لهذه الظاهرة؟
مهدي المسعدي: مَـن ارتكب فعلا مُـخالفا للقانون، لابد أن يعاقب، لكن لا يمكن معالجة ظاهرة اجتماعية معالجة أمنية، وبالتالي، لا أعتقد أن الحلّ في تشديد القوانين أو في طرد الشاب المذنب وعائلته خارج البلاد، فمعالجة هذه المسألة تقتضي تدخّـلا عاجلا من العديد من الأطراف، بما في ذلك القطاع الخاص والدوائر الاقتصادية.
المربّون هم أكثر الجهات قُـدرة على التعامل مع هذه الظاهرة، ولابد من متابعة هؤلاء الشباب والأخذ بأيديهم إلى أن يصلوا إلى الاندماج الناجح في المجتمع، ومن شروط نجاح هذا المربّـي أو الوسيط أن يكون مُـحايدا في علاقته بالسلطات وبالشباب في نفس الوقت.
سويس انفو: تحدّثتم عن الاندماج كحل، هل نسبة الإجرام لدى الشباب الأجنبي أكثر منها لدى أقرانهم من السويسريين؟
مهدي المسعدي: ربّـما تكون وضعية الشباب ذوي الأصول الأجنبية في سويسرا أكثر تعقيدا من غيرها من الوضعيات، لكن من الواضح أن البعض يسعى إلى البحث عن مشذب يعلق عليه كل مشكلات المجتمع، أؤكِّـد ومن وحيِ التجربة الميدانية، أن المعاناة واحدة لدى الأجانب والسويسريين، وما قصدته بالاندماج، هو القبول المتبادل Acceptation réciproque، إنها قضية عِـقد اجتماعي تضمن في نفس الوقت احترام القانون وتكافؤ الفُـرص أمام الجميع، بغضّ النظر عن اللّـون أو الجنس أو الدِّين.
نعم، هناك بعض الشباب من الأجانب مَـن يرتكبون جرائم يجب أن يُـترك أمرهم إلى القضاء، ولكن منهم أيضا المتفوّقين والمبدعين والنافعين للمجتمع، فلماذا نركّـز على الفِـئة الأولى ونغفل الفِـئة الثانية؟ الاندماج كما أفهمه، ليس عملا استعراضيا، التقاطا للصور التذكارية، إنه عمل ميداني وتواصل مُـباشر مع الأجانب.
سويس انفو: هناك حوار دائر على أكثر من صعيد من أجل مساعدة الأجانب على الاندماج، ما حظوظ نجاح هذا الحوار؟
مهدي المسعدي: لنجاح هذا الحوار، من الضروري أن يتِـم مع المعنيين مباشرة بهذا الواقع، والمشكلة اليوم، أن السلطات تتخيّـر محاوريها وبحسب معاييرها هي وليس بحسب صِـدقية الطّـرف لدى من يدّعي تمثيله. وثانيا، أن ينصَـب الحوار على القضايا الأساسية، وبالتحديد عن المطالب الاجتماعية للأجانب.
المشكلة ليست مشكلة ثقافية أو دِينية، بل تتعلق في الأساس بالعدالة الاجتماعية وبتكافؤ الفرص وبالمساواة أمام القانون والحق في التعليم والتكوين ومكافحة التمييز والعنصرية.
أجرى الحوار عبد الحفيظ العبدلي
وُلِـد في فرنسا سنة 1959، حاصل على دبلوم جامعي كوسيط اجتماعي.
عُـيّن مستشارا لدى المجلس الأوروبي لشؤون شباب الضواحي بالبلدان الأوروبية.
مختص، يُـشرف على دورات تدريبية في الوقاية الحضرية.
مستشار ومحاضر في قضايا الأمن والوقاية من الانحراف.
محاضر بالمدرسة العليا للشؤون الأمنية بلوزان في قضايا السكان والسلوكيات الاجتماعية.
شارك في تأليف كِـتاب حول قضايا الشباب والانحراف، صدر سنة 2006 عن المجلس الأوروبي.
عضو مؤسس لجمعية الأنشطة الثقافية والشبابية من أجل الاندماج الاجتماعي.
أشرف على العديد من الدورات التدريبية في مدرسة الشرطة بجنيف ومدرسة العلوم الاجتماعية بكانتونات فالي ولوزان وفريبورغ، وبقسم القانون الجنائي بجامعة فريبورغ.
يعمل مستشارا بالعديد من الجماعات المحلية بالكانتونات الناطقة بالفرنسية.
مؤسس خدمة “les Grands frères” (أو الأشقاء الكبار) العاملة على خطوط السِّـكك الحديدية السويسرية.
شهدت سويسرا خلال أسبوع واحد، ثلاثة أحداث عُـنف، شاركت فيها مجموعات مُـختلفة من الشباب، أغلبهم من الأجانب، وهي على التوالي:
تم الاعتداء يوم الجمعة الفاتح من فبراير على شاب سويسري يبلغ من العمر 22 سنة في لوكارنو بكانتون تيتشينو، وقد تُـوفي الشاب متأثرا بجراحه في اليوم الموالي، وذكرت وسائل الإعلام أن المعتدين الثلاثة من أصول أجنبية وأنهم يخضعون إلى التحقيق لمعرفة أسباب الحادثة. وقد أثارت الواقعة مشاعِـر عداء ضد بعض المجموعات العِـرقية، لكن أقارب الضحية ناشدوا أهل المدينة التحلِّـي بالهدوء، وأن لا يجعلوا من وفاة إبنهم سببا لإثارة الكراهية ضد الأجانب.
في نفس اليوم، أي الجمعة الفاتح من فبراير، شهدت كذلك مدينة بروغ بكانتون أرغوفي، معركة شرسة بين ما يزيد عن ثلاثين شابا أغلبهم من أصول بلقانية، واعتقلت الشرطة أربعة أشخاص على ذمة التحقيق، في حين أخِـذ عشرة أشخاص لتلقي العلاج في مستشفيات المدينة، وخلال اليومين الذين تلِـيا الحادثة، تمّ التعرف على أسماء جميع الذين شاركوا في النِّـزاع والذين تتراوح أعمارهم ما بين 17 سنة و24 سنة، وتنوي الشرطة استدعاءهم للاستماع إلى أقوالهم.
وفي مدينة سيون (كانتون فالي) خلال أيام الكرنافال السنوي للمدينة وبحضور آلاف من الجمهور، اندلعت أعمال عُـنف بين مجموعتين من الشباب كانوا مثمُـولين وتحت تأثير المشروبات الكحولية، وأضطرت هذه الأحداث المنظمين للكرنافال إلى وضع حد للتظاهرة، ويقول فانسان فافر، الناطق بإسم الشرطة في المدينة: “بسبب العنف الذي يمارسه الشباب، أصبح من الصعب أكثر فأكثر ضمان أمن تظاهرات ثقافية كبرى”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.