قاعدة تعليمية أيضا!
تستقطب دولة قطر عددا كبيرا من المؤسسات التعليمية الأجنبية بهدف تحسين مستوى التعليم الجامعي وتشجيع المنافسة مع القطاع التربوي العمومي.
وقد تم مؤخرا تدشين مدينة تعليمية تضم عددا من المؤسسات الجامعية الأمريكية والكندية
بتدشين أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني “أضخم مدينة تعليمية في العالم”، كما يصفها المسؤولون عنها، تحوّلت قطر، البلد الخليجي الصغير، إلى قُـطب تعليمي متقدم وملفت للاهتمام في منطقة الشرق الأوسط.
وقبل ذلك، لم يكن خافيا على أحد أن قطر تحولت إلى حليف استراتيجي عسكري أصبح الأقرب إلى مصالح واشنطن بتمركز القيادة الأمريكية الوسطى في قاعدة العيديد، وبنقل القيادة الجوية الأمريكية في المنطقة من قاعدة الأمير سلطان في الرياض بالمملكة العربية السعودية إلى قاعدة السيلية قرب الدوحة.
لكن القيادة القطرية، التي يعتقد البعض أنها كرّست أجندة عسكرية أمريكية في المنطقة، تمكّـنت من إنجاز أجندتها الخاصة في العلاقة مع الولايات المتحدة، واستطاعت أن تستفيد من شراكتها مع واشنطن عبر تطوير تعليمي لافت جعلها تتحوّل أيضا إلى القاعدة التعليمية الأولى في الشرق الأوسط، متطلعة إلى أن تُـصبح أيضا قاعدة إعلامية وطبية متقدمة.
ولئن كانت هذه التحولات العميقة قد بدأت في الإطلال برأسها شيئا فشيئا، فإن المدينة التعليمية، التي تم الاحتفال بتدشينها وسط احتفالات ضخمة حضرها قرابة 500 مدعوا من رجال سياسة، وحاملي جائزة نوبل، وأكاديميين، وإعلاميين، تظل الحدث الأبرز الذي وصفه الشيخ حمد بن خليفة بأنه “أهم من افتتاح مصنع للطاقة”.
وتقول الدكتورة شيخة المسند، التي تشغل في نفس الوقت منصب مدير جامعة قطر وعضو مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، التي تُـشرف على المدينة التعليمية الجديدة، إن “قطر تتّـجه نحو تغييرات كبرى على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويأتي إنشاء المدينة التعليمية في هذا الإطار”.
ويُـمكن القول إن الإنجاز التعليمي الجديد قد حاز على انبهار الزائرين، ووصفه حامل جائزة نوبل في الفيزياء، المصري الأمريكي الدكتور أحمد زويل، وهو أيضا عضو بمجلس إدارة مؤسسة قطر، بأنه “طلائعي”.
ففي منطقة “اللقطة” المحاذية للدوحة، تمتـد المدينة التعليمية الضخمة التي تَـقَـرّر أن تُـصبح منطقة حرة، على مساحة 6 ملايين متر مربع تم استغلال 10% منها فقط إلى حد الآن و”نسعى لأن نراها مكتملة ومتكاملة خلال العشر سنوات المقبلة”، كما يقول نائب رئيس مجلس إدارتها، الدكتور سيف االحجري الذي امتنع عن تحديد تكلفتها مكتفيا بالقول إنها “المشروع التعليمي الأعلى تكلفة في العالم”، مضيفا أن “المستثمر يُـفضِّـل عدم الخوض في الأرقام المالية، انطلاقا من إيمانه بأن الاستثمار في التعليم وفي الإنسان، لا يُـقـدَّر بثمن”.
إرادة سياسية صلبة وإمكانيات مالية كبيرة
وتقف خلف هذا المشروع التعليمي حرم الأمير الشيخة موزة بنت ناصر المسند، التي ترأس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع منذ إنشائها عام 1995، وهي التي وقّـعت في السنوات الماضية عدة عقود توطين مع جامعات أمريكية وكندية مثل “تكساس اي آند ام»‚ للعلوم الهندسية و”وايل كورنيل” للطب، و”فرجينيا كومنولث”، ومعهد “راند” للدراسات السياسية والاستراتيجية.
غير أن الانبهار بمشاريع مؤسسة قطر لا يضمن لها الحصانة من نقد من يتهمونها بأنها تتنزل في إطار الضغوط الأمريكية الهادفة إلى تغيير مناهج التعليم في الدول العربية. وينفي نائب رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر، سيف الحجري “وجود أبعاد أخرى للمدينة التعليمية، عدا أن تحتل قطر مكانة علمية وتكنولوجية متقدمة في المستقبل”.
وتسانده الدكتورة شيخة المسند بنفي أي ضغوط من أطراف خارجية قائلة إن “المشروع رأى النور منذ عام 1995، أي في وقت سبق بكثير الحديث عن تغيير المناهج في المؤسسات التعليمية العربية”، وشددت على أن المدينة التعليمية جاءت “برغبة قطرية متزامنة مع حركة إصلاح شاملة في الدولة”.
ومع أن هيمنة الجامعات الأمريكية على أغلب أنشطة المدينة يفسح المجال واسعا أمام فرضية “أمركة” الحياة في قطر والخليج، فإن الدكتور الحجري يرد على ذلك بالقول “نحن ننظر إلى التميّـز وإلى صفوة الصروح التعليمية في العالم، ونختار من بينها”. ويستطرد قائلا “سنرى أيضا في المستقبل مؤسسات جامعية لامعة من أوروبا”، مضيفا أن “العقول النيرة وصفوة الطلبة والأساتذة من العالمين العربي والإسلامي سوف تتم دعوتهم للمشاركة في هذا الجهد”.
وتردف الدكتورة المسند أن “هناك برنامجَ مساعدات ومنح للطلبة المتفوقين الذين يأتون من كل مكان لمواصلة دراساتهم العليا في المدينة التعليمية العالمية في قطر”.
وفي مقابل هذا السعي الدؤوب للارتقاء بالتعليم الخاص عاليا، يوجه القطريون سهام الانتقادات إلى مستوى التعليم العمومي في قطر. فقد كشفت دراسة على حلقات نشرتها مجلة (التربية) التي تصدر عن اللجنة الوطنية القطرية للتربية والثقافة والعلوم أن “هناك تسابقا بين القطريين علي إلحاق أبنائهم بالمدارس الأجنبية والخاصة، مقابل عزوف عن الالتحاق بالتعليم العام”.
وتضيف الدراسة أن المدارس الخاصة والأجنبية في قطر شهدت إقبالا شديدا من الطلاب والطالبات القطريين والمقيمين إلى درجة بلغ فيها العدد حوالي 51 ألفا يدرسون في 113 مدرسة أهلية، بنسبة بلغت حوالي 72% من طلبة المدارس الحكومية، حسب إحصائيات العام الدراسي الماضي. لكن هذه الحقائق لا تبدو غائبة عن المسؤولين، وهم يبشرون بـ “نهضة تعليمية عامة” ستشمل القطاع العام كما الخاص.
ازدواجية المعايير بين العام والخاص؟
ويعتقد المراقبون أن هذه المهمة التي أوكلت إلى سيدتين هما وزيرة التربية والتعليم الشيخة آل محمود، ومديرة الجامعة الشيخة المسند لن تكون سهلة مع تراكم السلبيات، ومقابل المنافسة الحادة من قطاع التعليم الخاص.
لكن أخبارا مثل انتداب عشرات الأساتذة من بريطانيا للتدريس في المعاهد الحكومية، وإعلان الجامعة عن برنامج واسع لتحديث عملها وتنويع إطاراتها، أمر يجد امتداده عبر سياسة تعليمية تجري على المدينة التعليمية الجديدة أيضا، والتي بدأت تشهد تنازعا لافتا بين الثقافتين الانجلوسكسونية، ونظيرتها الفرنكوفونية.
فإلى جانب المؤسسات الأمريكية ذات الصيت العالمي، تجتهد مؤسسات فرنسية لتحصيل مكان لها تحت الشمس القطرية، ومن ذلك توقيع اتفاقيتين مبدئيتين مع كل من شركتي “توتال”Total النفطية، و Eads التي تُـنتج طائرات إير باص للتّـمركز في واحة العلوم والتكنولوجيا بالمدينة التعليمية الجديدة، إلى جانب “مايكروسوفت” الأمريكية و”شال” الانغلو- هولندية”.
كما تُـبدي مؤسسة “تالاس” Thalesالفرنسية اهتماما بالحضور في المدينة.
وتُـضيف مصادر مُـطّـلعة أن “المفاوضات قطعت شوطا متقدما مع المعهد الوطني الفرنسي للاقتصاد والإدارة Insead لافتتاح فرع له هناك”، إضافة إلى المدينة التكنولوجية الفرنسية العريقة في أوروبا “صوفيا انتيبوليس” La Technopole Sofia Antipolis التي تسعى إلى توثيق علاقاتها وهيكلتها مع مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع”.
ومن خلال ذلك، يتبيّـن أن إطلاق المدينة التعليمية في قطر ليس سوى نقطة البداية في تنافس فرنكوفوني – انغلو سكسوني لنقل المعرفة من الشمال إلى الجنوب عبر هذا البلد الخليجي الصغير، الذي يُـصر على التحول إلى رأس جسر معرفي في زمن تحتـد فيه المواجهة بين الشرق والغرب.
فيصل البعطوط – الدوحة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.