“كــلّ غـنّــى على ليــلاه”..
كانت اجتماعات الدورة الأولى لـ "منتدى المستقبل" التي استضافها المغرب يومي 10 و11 ديسمبر الجاري بمثابة كعكة، أخذ منها كل حصّـته وغادر الحفلة راضيا هنيئا.
ومع أن واشنطن حققت بعض أهدافها، إلا أن الحكومات العربية أبدت قدرة فائقة على المناورة وامتصاص الضغوط.
كان الأمريكيون يسعون لإيجاد آلية تضع مشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي أعلنه الرئيس بوش في أبريل الماضي، ثم جدّده في مناسبة قمة الدول الصناعية الثمانية في شهر يونيو الموالي، في “سي ايلاند” بولاية جورجيا على سكّـة التنفيذ.
وفعلا، تم الاتفاق، رغم معارضة الأوروبيين وبخاصة فرنسا، على وضع سكرتارية للمنتدى، وحدّدت دورية شبه ثابتة لاجتماعاته، تنطلق من الرباط، وتستمر العام المقبل في المنامة، على أن يستضيفه الأردن عام 2006.
أكثر من ذلك، اتفق وزراء الخارجية ورؤساء الوفود الذين مثلوا أكثر من ثلاثين بلدا على أهمية وضع الديمقراطية والإصلاح على أجندتهم، لكن اجتهد كل طرف لإعطائها المضمون الذي لا يُـزعزع توازناته الداخلية، ويلبِـس قامة مفهومه الخصوصي “للإصلاح”.
ولذلك، كانت أكثر عُـملة متداولة في “المنتدى”، هي الخصوصية التي احتاج كل طرف لكمية منها تُـناسب حاجته للابتعاد عن “النماذج الجاهزة”.
ويمكن اعتبار ما جاء على لسان الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي في هذا الصدد، تلخيصا مكثفا لمواقف العرب عندما قال “إن التحديث عبر الإصلاحات التدريجية التراكمية، من شأنه فعلا تحسين فُـرص الاستقرار والأمن لدينا، في حين أن استيراد حلول مُـعدة سلفا من الخارج، دون اكتراث للظروف الخاصة بكل دولة، قد يُـهدّد نفس هذا الاستقرار والأمن اللذين نرغب في الحفاظ عليهما”.
بين الاستفادة والتوجّـس
في المقابل، شعر الأوروبيون أنهم استفادوا من الضغط الأمريكي في اتجاه الإصلاح لتحريك الأوضاع لدى شركائهم التقليديين، نحو إيجاد أنظمة تكون مقبولة بمقاييس الحداثة الغربية، ولا يُـشكّـل انغلاقها خطرا على الاستقرار الإقليمي والدولي في الأمدين، المتوسط والبعيد.
ومن هذه الزاوية، يمكن القول أن “المنتدى” استجاب للأجندة الأوروبية، ولكن إلى حد. فالانفعال كان ظاهرا في كلام كل من مسؤول السياسة الدولية في الاتحاد خافيير سولانا، ومفوضة الشؤون الخارجية فريرو فالدنر، وخاصة في خطاب وزير الخارجية الفرنسي ميشال بارنيي، حيث كرّروا جميعا فكرة محورية مؤداها سحب قصبة السبق من الأمريكيين في الدعوة للإصلاح والتحديث، والتذكير بأن أوروبا هي التي ينبغي أن يُـعقد لها لواء الريادة في هذا المضمار لكونها أطلقت منذ عشر سنوات على الأقل مسار برشلونة.
وأدى هذا التنازع على الشرعية إلى محاولة أوروبية صريحة لعرقلة الأجندة الأمريكية على لسان بارنيي، الذي أبدى في الجلسة المقفلة رفضا لوضع آلية للمنتدى، مستدلا بتجارب “البقرطة” (نسبة إلى البيروقراطية) السابقة، التي قال إنها قَـتلت مبادرات حيوية في مناسبات كثيرة.
وربما كان على وزير الخارجية الفرنسي أن يتذكّـر أن مسار برشلونة نفسه تلقّـى ضربة قاصمة بعد صعود نتانياهو إلى السلطة في إسرائيل عام 1997، وتعطّـل مسار التسوية السلمية في الشرق الأوسط، حتى باتت الاجتماعات الأورو- متوسطية مُـجرّد طقوس دورية.
هجوم عـربي معاكس ..
وعلى خلفية هذا التجاذب الأوروبي- الأمريكي، استطاعت الدول العربية الحاضرة في “المنتدى” أن تدفع بعيدا حربة الاتهام الموجهة لرقابها. فقد وجدت في نافذة الصراع داخل المعسكر الغربي، مساحة لالتقاط الأنفاس، بل وعكست الهجوم مُـدافعة عن أدائها في مجال التحديث السياسي.
كما لوحظ أن دفاع الأوروبيين عن الخصوصية وحملتهم على “العولمة الأحادية” شكّـلا الأرضية التي انطلق منها كل المتحدثين العرب في “المنتدى”، بمن فيهم الأقرب للموقف الأمريكي مثل المغرب، كي يدفعوا عن أنفسهم تُـهمة التّـقاعس والتردّد، ويعكسوا الهجوم.
هكذا ارتفع صوت الأمير سعود الفيصل، الذي بدا كما لو أنه يستعد للمنازلة عندما طلب مازحا من رئيس “المنتدى” السيد محمد بن عيسى، وزير الخارجية المغربي، أن يعتمد ساعة عربية بدل الساعة السويسرية لاحتساب الوقت، وانطلق في مرافعة طويلة عن إسهام الحضارة العربية في الحضارة الكونية لينتهي إلى “بيع” الحاضرين النموذج السعودي في الانتخابات البلدية، وقرار الرياض الأخير السماح بتشكيل جمعيات لحقوق الإنسان.
ونسج على منواله نظيره الجزائري عبد العزيز بلخادم الذي تكلّـم في الجلسة الافتتاحية، ثم عاد للدفاع عن “إنجازات” بلده في مجال الإصلاحات في مداخلة ثانية خلال الجلسة المقفلة.
وشجع الخطابان الوزيرين اليمني أبو بكر القربي، والليبي عبد الرحمن شلقم للانتقال بدورهما للهجوم المعاكس واستعراض ما حققه بلداهما على صعيد التحديث والإصلاح، مع الحرص على وضع بضاعتهما في غلاف عصري يتناسب مع المعايير الأمريكية.
هكذا انتقلت البلدان العربية من موقع المُـتهم في خطاب بوش الشهير، الذي ألقاه في السادس من نوفمبر 2003، وفي محاضر قمة سي أيلاند للبلدان الصناعية الثمانية في يونيو الماضي، إلى محام يحذق الترافع عن ملفه لدفع التهمة وتبرير كل ما فعله. فيما بدا الطرف الأمريكي مغلوبا على أمره، مضطرا لتعديل عقارب خطة “الشرق الأوسط الكبير” على ساعة الأجندة العربية.
وربما لو حضرت إيران، التي قاطعت “المنتدى”، والسودان الذي أصر الأمريكيون على استبعاده، لما وجدا نفسهما في موقع الاتهام الذي كان واردا ومتوقعا في ظل الموازين السابقة، بعدما انكفأ الوفد الأمريكي إلى خط الدفاع.
المجتمع المدني “يفرض” أجندته
أما الطرف الذي تشبّـث بموقع الهجوم واستطاع تمرير أجندته، ولو جزئيا، فهو المجتمع المدني العربي الذي أعَـد ذخيرته للهجوم طيلة يومين في اجتماعات سبقت “المنتدى”، وضمّـت منظمات أهلية من 13 بلدا، وبمشاركة تسع منظمات دولية مدافعة عن حقوق الإنسان والنشطاء.
وطغى على العمل التحضيري لهذه الشبكة منظوران. بشّـر الأول بحلول الديمقراطية على الطريقة العراقية، بذريعة أن الأنظمة القائمة لن تغير ما بنفسها، ولن تقبل تجرّع الإصلاحات، التي تعتبرها في مثابة السم البطيء القاتل. أما الثاني، فراهن على حيوية المجتمعات المدنية وقدرتها على توسيع رقعة الإصلاح، إذا ما قبلت تقديم التضحيات اللازمة.
ويمكن القول أن الوثيقة التي سُـلّـمت من طرف ممثلي المجتمع المدني العربي إلى المنتدى في هذا الصدد، أتت أقرب للرؤية الثانية. فقد طرحت عشرة مطالب، في مقدمتها إطلاق حرية امتلاك وسائل الإعلام وتدفق المعلومات، وإطلاق حرية إنشاء الأحزاب والنقابات والمنظمات غير الحكومية، ورفع حالة الطوارئ والقوانين والمحاكم الاستثنائية.
لكن اللافت للنظر، هو أن المجتمع المدني فرض أجندته على المنتدى في الشكل والمضمون على السواء، إذ أُعطِـيت الكلمة بين الكلمات الرسمية لوزراء الخارجية، لكل من مراد علال، منسق شبكة المجتمع المدني الأورو – متوسطية، وبهي الدين حسن، رئيس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، وآمنة أبو عياش، القيادية في المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وشارلز عدوان، من منظمة “الشفافية” اللبنانية.
وبذلك، تكرّست سابقة أدمجت المجتمع المدني العربي في هيكلية “المنتدى”، إضافة لقطاع رجال الأعمال الذي كان ممثلا أيضا في الجلسات الرسمية، وهذا ربما أهم جديد أتى به منتدى الرباط، فضلا عن الحضور الطاغي لمقولات المجتمع المدني العربي التي لم يخل منها أي خطاب رسمي بهذا القدر أو ذاك.
امتصاص مؤقت للضغوط
لكن هذا المتغير المهم لا ينبغي أن يحجُـب عن الأنظار القدرة الفائقة للحكومات على التكيف مع الأوضاع والمناورة لاحتواء الضغط المسلط عليها بامتصاصه في التقنيات الجاهزة، التي استحدثتها في الفترة الأخيرة تحسبا لمرحلة “الهجوم” الإصلاحي، سواء أكانت مجالس استشارية لحقوق الإنسان، أم منظمات أهلية سُـمح لها أخيرا بالعمل تحت مجهر الرقابة اليقظة.
وعلى رغم أن التركيز على الجوانب الاقتصادية بدا مهربا للوفود العربية للتخلص من استحقاق الإصلاح السياسي، إلا أن الأمريكيين شجّـعوا على هذا الهروب بدافع القناعة التي عبّـر عنها باول أكثر من مرة بأن الحرية الاقتصادية تُـؤدّي، آجلا أم عاجلا، إلى الحرية السياسية.
وفي هذا السياق، تم تقاسم كعكة المشاريع الإقليمية، فنال الأردن مركز تدريب أصحاب المشاريع الإنتاجية الصغيرة، فيما كانت حصّـة اليمن إطلاق أول تجربة نموذجية لهذا النوع من المشاريع، واشتركت الجزائر مع إيطاليا وتركيا في مشروع لدعم المجتمع المدني.
قصارى القول، أن الجميع دخل إلى القاعة الكبرى في وزارة الخارجية المغربية لأخذ مقعده، وفي اليد ملف واحد كُـتبت عليه عبارة “الإصلاح”، لكن احتفظ كل طرف بأجندته ورؤيته الخاصة داخل الملف، ولم يحاول أن يعدل منها شيئا جوهريا.
وربما، هذا ما حمل الولايات المتحدة على فرض دورية اجتماعات “المنتدى”، على رغم معارضة الأوروبيين الغيورين على آلية برشلونة، أملا منها تحقيق تقدم في المستقبل على أساس أن “ما لا يُـدرك كلّـه لا يُـترك جلّـه”.
رشيد خشانة – الرباط
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.