كــلام عن الديمقراطية
فجأة هبّـت ريح الديمقراطية على العالم العربي، وباتت حاضرة بكثافة في خطابه الرسمي في عبارات مثل التعددية، والآخر، والحرية، وحقوق الإنسان، والمساواة، وحقوق المرأة.
وصحا العالم العربي، حكومات ومنظمات غير حكومية على هذه المفردات، ليكتشف أنها ذات رنين جميل، لا تُـتعِـب اللّـسان، ولا تُـؤذي الآذان.
خلال الأسبوع الثاني من العام الجديد، كانت ثلاثة عواصم عربية، هي صنعاء، والدوحة، وأبو ظبي، ومدن عربية مثل، طنجة، ووهران، والاسكندرية، تحتضن مؤتمرات وندوات وموائد مستديرة للبحث عن وفي الديمقراطية والعلاقة مع الآخر، ومن خلال ذلك عن استقرار، ومستقبل، ومكانة العرب في عالم يتحرك بسرعة لم تعُـد تسمح بالتخلّـف، وحتى التوقّـف لالتقاط الأنفاس، وأضحت “الديمقراطية وحقوق الإنسان” شعار الجميع. وكما قال الرئيس اليمني علي عبد الله صالح “علينا حلق رؤوسنا، قبل أن يحلق لنا الآخرون”.
مؤتمر صنعاء، الذي حمل عنوان “المؤتمر الإقليمي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية”، كان الأكثر صراحة في تعاطيه مع الموضوع “القضية-الصرعة” (الموضة)، وهي الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكنه تميّـز بسبب إشراف لاتحاد الأوروبي على تنظيمه وإعداده وتمويله، ولاستضافته المنظمات والهيئات غير الحكومية.
وأصحاب الدعوة لمؤتمر صنعاء هم، بالإضافة إلى الحكومة اليمنية، الاتحاد الأوروبي والمنظمة الأوروبية “لا سلام بدون عدالة” غير الحكومية. فالحكومة اليمنية وجّـهت الدعوات لوزراء العدل والخارجية، ورؤساء مجالس النواب والشورى في الدول العربية ودول الجوار، مثل تركيا، وإيران، وأثيوبيا، وإرتريا، فيما تولّـت منظمة “لا سلام بدون عدالة” توجيه الدعوات للمنظمات غير الحكومية.
رســـائـــل لأكـثـر من جهـة
نوعية الحضور في مؤتمر صنعاء حمِـل في طياته إشارات أعمق من الخطابات التي ألقِـيت على المنبر الذي احتضنته قاعة 14 أكتوبر في القصر الجمهوري، وأبلغ من البيانات التي صدرت رغم أهميتها، قياسا مع ظروف إصدارها، وطبيعة المشاركين في التّـوقيع عليها. والحضور هو، وفود دول الجوار اليمني، في وقت تعرف فيه علاقات صنعاء مع هذه الدول عدم استقرار أعاد المنطقة إلى أجواء منتصف تسعينيات القرن الماضي وما كان يسودها من فتور وجفاء، وأحيانا توتر.
وقد بعثت صنعاء، باحتضانها لمؤتمر أوروبي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، رسائل متعددة لأكثر من جهة، وليس شرطا أن تكون رسائل إنذار أو تهديد أو موجهة لخصوم. فصانع القرار اليمني أراد أن يلعب، من خلال المؤتمر الذي عُـقد بالقرب من مكتبه، ورقة شكّـلت منذ منتصف الثمانينات إحدى دعائم حكمه، وهي ورقة الانفتاح، والثقة المتبادلة مع شعبه.
أولى الرسائل وُجّـهت إلى دول الجوار، التي تتعاطى معه ومع قضاياه باستعلاء، ومضمونها أن الديمقراطية والحوار التي يسير عليهما في صناعة قراره، هي الضمان الوحيد للاستقرار بداية، ثم التنمية والتقدم لاحقا، وأن هذا يمنحه امتيازا لا يملكونه ويُـفقدهم ورقة مقنعة لتبرير عدم تلبيتهم رغبته في إلحاق بلاده بمحفلهم “مجلس التعاون الخليجي”، لأن الديمقراطية هي المقياس العالمي لأهلية الدول وحكوماتها في القرن الحادي والعشرين، وليس القوة المالية غير المنتجة التي أصبحت، بعد حروب المنطقة، أضعف بكثير مما كانت عليه في سبعينيات القرن الماضي.
والرسالة بُـعثت بتحدٍّ قبل انعقاد المؤتمر، ووضعت دول الجوار في حرج بين الغياب والحضور المصحوب بالانزعاج. وفيما بعد، فضلت الانزعاج على الحرج، وأرسلت وفودا ضخمة وعلى مستويات عالية: وزير الخارجية لكل من عُـمان، والكويت، ووزير العدل القطري، ومع أن المملكة العربية السعودية كانت المعنية الأولى بالرسالة، إلا أنها اكتفت بضخامة الوفد دون المستوى الوزاري.
البوابـــة الأوروبيــة بديلا عن الأمريكية!
أما الرسالة الثانية فقد وُجّـهت للولايات المتحدة، التي تسعى تحت يافطة الديمقراطية، إلى الهيمنة على العالم والإبقاء على نظام القطب الواحد. فالعلاقات بين صنعاء وواشنطن، أصبحت تتسم بطابع خاص منذ أحداث 11 سبتمبر تحديدا، حيث تنظر واشنطن إلى اليمن باعتباره قاعدة خلفية لتنظيم القاعدة والأصوليين المتشددين الذين تُـلاحقهم بعد أن حمّـلتهم مسؤولية الهجمات التي تعرضت إليها في عُـقر دارها.
وتبعا لذلك، لم يكن مُـحرجا لواشنطن أن تمارس حق الملاحقة لأعدائها الجدد في أي مكان في العالم دون الأخذ بعين الاعتبار “سيادة الدول”. من هنا، عمل صانع القرار في صنعاء على تجنيب بلاده اجتياحا دون مواجهة مع واشنطن وأيضا دون مذبحة أو حرب أهلية، لو اختار اللجوء إلى خوض مواجهة مسلحة مع خصوم واشنطن المرابطين في بلاده.
في نفس الوقت تواصل الحوار بين واشنطن وصنعاء عبر مختلف القنوات، وحول مختلف القضايا المرتبطة بـ “الإرهاب”، وكان حوارا يعرف كل طرف فيه نِـقاط ضعف الطرف الآخر واحتياجاته، دون أن يضغط عليه كثيرا.
ومع أن صانع القرار اليمني يعرف أن الديمقراطية وحقوق الإنسان باتت المدخل الأمريكي للتغيير في العالم، إلا أنه أراد في مؤتمر صنعاء أن يقول لواشنطن إن لِـجنّـة الديمقراطية وحقوق الإنسان بوابة غير البوابة الأمريكية، وأن البوابة الأوروبية قد تكون أكثر اتساعا ولا تُـكرِه الداخلين عبرها على أن يخفضوا أو يُـطأطئوا رؤوسهم أو يقطعوا أجزاءً من أجسادهم.
مجــرّد كــلام
على صعيد آخر، وجّـه مؤتمر صنعاء رسالة ثالثةإلى القوى السياسية اليمنية، بعد أن عثر صانع القرار اليمني على ورقة دعم جديدة يُـشهرها في وجوه المعارضين له والمشككين في “ديمقراطيته”. فليس بمستطاع يمني، أيا كان، أن يزايد ديمقراطيا على أوروبا، حكومات ومنظمات غير حكومية، التي جاءت إليه تطالبه باحتضان مؤتمر حول الديمقراطية.
لكن الرسائل التي اختار صانع القرار اليمني توجيهها من خلال مؤتمر صنعاء قد يكون ثمنها باهظا في نهاية المطاف.
فدول الجوار لن تقبل أن يفرض عليها جارها الفقير أجندته الديمقراطية، وواشنطن لا تسمح باللّـعب معها على ملعب واسع يُـمكن للاعب الخصم أو المنافس أن يهرب من قبضتها ويحقق في مرماها أهدافا أكثر من رغبتها، والقوى السياسية اليمنية قد تجد في مؤتمر صنعاء ضالتها، وترفع بالتالي من سقف مطالبها.
استمر المؤتمر يومان.. قضاهما مسؤولون كبار، وممثلو منظمات حقوقية وإعلامية ونسائية في العاصمة اليمنية.. على المنبر وقفوا يخطبون، وفي الكواليس التقوا وتحدثوا همسا أو بأصوات مرتفعة، وفي نهاية اليومين، أصدروا “بيان صنعاء” يدعو دول الإقليم للتسريع في الإصلاحات الديمقراطية، والمشاركة السياسية، وهم يُـدركون أن كلامهم، ثم بيانهم، لن يتحوّل إلى فعل سياسي!
محمود معروف – صنعاء
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.