لبنان على مفترق طريق خطر
لبنان يندفع بقوة وثبات نحو بناء تاريخ ديموقراطي ووطني جديد، لكنه يفعل ذلك وهو يسير وسط حقول تعّج بشتى أنواع الألغام والمفاجآت.
ما هو هذا التاريخ؟ ما طبيعة هذه الحقول؟
للتاريخ قصتين:
الأولى، تبدأ مع الزواج الفرنسي- الأميركي في أوائل صيف 2004 الذي كان ثمرته مولود إسمه قرار مجلس الأمن الرقم 1559 في أواخر هذا الصيف. هذا القرار ألغى بشطحة قلم واحدة الإنفاق السوري – الأميركي في لبنان، المتجّسد باتفاق الطائف العام 1989، وبدأ يجهز الساحة اللبنانية لـ”طائف” جديد تلعب فيه فرنسا (بإشراف أمريكا) لا سوريا الدور الرئيس في لبنان، بالتعاون مع قوى إقليمية فاعلة أخرى.
والثانية، ولادة ما يمكن أن يكون البذور الأولى للهوية الوطنية اللبنانية. وهذه تجلّت في التظاهرات- الظاهرة المفاجئة التي حدثت مباشرة بعد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، والتي شاركت فيها كل الطوائف اللبنانية تقريباً.
هذه التظاهرات كانت ظاهرة، لأنها كانت المرة الأولى منذ استقلال لبنان عام 1943 التي يرتفع فيها القرآن والإنجيل، والهلال والصليب، جنباً إلى جنب، وينشد فيها النشيد الوطني اللبناني من الجميع لا من فئة دون أخرى كما كان يحدث في السابق، ويرفع علم واحد هو العلم اللبناني.
لا بل هذه كانت المرة الأولى في تاريخ لبنان منذ 1400 سنة، التي يقوم فيها مسيحيون بالصلاة على ضريح رجل مسلم، جنناً إلى جنب مع مسلمين يتلون أمامه الفاتحة والآيات القرآنية.
وإلى شعائر الهوية هذه، برزت شعارات المعارضة التي كانت ذكية إلى حد كبير، حين تبنّت قضايا عدة تضرب على عصب مهم هذه الأيام في الشارع اللبناني: رفض قاطع لتجديد الحرب الأهلية الطائفية؛ رفض قاطع آخر لإعادة إنتاج هيمنة طائفة على طائفة أخرى؛ وتطوير الامتعاض الشعبي اللبناني الواسع من الممارسات السورية الإستخبارية والعسكرية، إلى برنامج سياسي يركز على ثلاثية “الحرية والسيادة والإستقلال”.
التقاطع
لحظة الهوية الوطنية الإستقلالية هذه تقاطعت مع اللحظة الدولية الدافعة باتجاه إنهاء الوجود العسكري السوري في لبنان، لتنتج المرحلة التاريخية الجديدة. بيد أن هذا ليس سوى النصف الأعلى الجميل من المشهد اللبناني هذه الأيام. تحته، هناك نصف آخر بشع ومقلق: حقل الألغام والمفاجآت. هذه بعض عيناّت الألغام:
كيف ستتصرف سوريا خلال انسحابها الحتمي من لبنان، وعلى أي أساس ستنسحب؟
السوريون يتمنّون الآن تنفيذ الطائف بعد أن رفضوا ذلك طيلة 15 عاماً، لأنه يحفظ لهم وجودهم السياسي في التركيبة اللبنانية. وهم لذلك يسابقون الزمن لجعل هذا الاتفاق، وليس 1559، أساس العلاقة الناظمة لانسحابهم ولعلاقتهم اللاحقة من لبنان.
هم لذلك يستنفرون كل القوى السياسية المؤيدة لهم لخوض معركة الطائف، ويستخدمون سياسة تخويف اللبنانيين من كوارث قد تلحق بهم ما لم يحدث ذلك. وكان هذا، على أي حال، واضحاً كل الوضوح في بيان وليد المعلم، نائب وزير الخارجية السوري، الذي توّج إعلانه أمس الأول حول الانسحاب العسكري السوري إلى البقاع بالقول: “إن استمرار تعامل البعض داخل لبنان وخارجه باستفزاز وتحريض ضد سوريا، من شأنه أن يؤدي إلى تطورات سلبية كان الطرف اللبناني يدفع دائماً ثمنها”.
رهان دمشق هنا هو الآتي: سحب كل قواتها وأجهزة استخباراتها إلى منطقة سهل البقاع المحاذية لها قبل أبريل نيسان المقبل، موعد تقديم كوفي عنان تقريره إلى مجلس الأمن حول تطبيق 1559، ثم الرهان على أن الانتخابات العامة اللبنانية المقبلة في أبريل أيضاً ستنتج أغلبية موالية لها لا تطالب بانسحابها من لبنان، أو على الأقل تبرمج هذا الانسحاب لمدة سنوات لا أشهر.
أما لماذا تتمسك سوريا على هذا النحو بنفوذها في لبنان، فلائحة المبررات تبدأ ولا تكاد تنتهي. وقد لخصّتها “نيويورك تايمز” يوم الجمعة 25 فبراير بالآتي:
1-هناك أكثر من 600 ألف عامل سوري يعملون في لبنان (خرج منهم 100 ألف بعد اغتيال الحريري)، تلعب تحويلاتهم المالية إلى سوريا دوراً حاسماً في اقتصادها.
2-يعتقد ستيفن كوك، خبير الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، أنه خلال السنوات الـ15 الأخيرة، استخدمت سوريا لبنان كمنفذ لها على بقية العالم، وكطوق نجاة لاقتصادها، وبالتالي من غير المتوقع أن تتخلى عنه بسهولة.
3-يخشى المسؤولون السوريون من أن الانسحاب من لبنان سيؤدي إلى سقوط النظام، ويصّرون على أن تحصل دمشق على شكل ضمانات ما مقابل هذا الانسحاب، مثل (كما يقول الكاتب السوري ميشال كيلو) تقديم وعد بأن حكومة الرئيس بشار الأسد ستبقى على قيد الحياة”.
ألغام أخرى
هل يمكن للغرب تقديم مثل هذه الضمانات لسوريا؟
سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. لكن قبل ذلك، لنستكمل استعراض باقي أنواع الألغام في لبنان.
هناك “حزب الله” اللبناني، الذي يمتلك ميليشات قوية وأكثر من 10 آلاف صاروخ موجّه نحو قلب المجمع الصناعي الإسرائيلي في الجليل الأعلى وصولاً إلى تل أبيب. هذا إضافة إلى كونه القيادة الفعلية لغالبية الطائفة الشيعية اللبنانية.
الحزب متنازع بشدة الآن بين دوره الإقليمي ضد إسرائيل ومع إيران وسوريا، وبين نفوذه وقوته في اللعبة الداخلية اللبنانية: إذا ما غلّب الأولى على الثانية، سيخسر سريعاً دعم الشعب اللبناني له كحركة مقاومة، وقد تنقلب عليه حتى قاعدته الشيعية الواسعة إذا ما بدأت إسرائيل (وأمريكا) توجيه ضربات عسكرية له وللمنشآت الاقتصادية اللبنانية.
وإذا ما غلّب الثانية على الأولى، سيكون عليه القيام بعمليات تأقلم مؤلمة قد تسفر في النهاية عن تفككه، إلا إذا ما قررت راعيته إيران تسهيل انتقاله من قوة مقاومة إلى قوة سياسية تقود الشيعة في التركيبة السياسية اللبنانية الجديدة.
وإضافة إلى هذا التنازع المحلي- الإقليمي على الحزب، هنالك التنازع الدولي. إذ تضغط أميركا، ومعها إسرائيل، لوضع الحزب على لائحة الإرهاب في أوروبا، فيما تصّر فرنسا على تسهيل انتقاله إلى حزب سياسي والاعتراف به كقوة لها تمثيل شعبي ديموقراطي. ومن غير المعروف بعد في أي اتجاه سيتحرك الحزب.
وثمة لغم ثالث، يتمثل في تنافس القوى الإقليمية على وراثة “التركة” السورية في لبنان، تحت سقف “الكوندومينيوم” (الحكم المشترك) الفرنسي- الأمريكي الجديد. هذه القوى هي السعودية التي تتحرك بقوة لإعادة إحكام قبضتها على الطائفة السنّية، وإيران من خلال نفوذها على الطائفة الشيعية، وإسرائيل التي قد تحاول وصل ما انقطع من صلات مع بعض المسيحيين والدروز، ومصر التي يمكن أن تتطلع إلى مشاركة السعودية في بعض الحصة السنيّة والسورية.
ثم هناك اللغم الرابع والأخطر، المتمثل في رغبة المحافظين الجدد الأمريكيين وإسرائيل في تقسيم سوريا ولبنان على أسس طائفية ومذهبية. وهكذا يجري الحديث في لبنان حالياً عن مخاطر قيام دولة درزية تمتد من حاصبيا في جنوب لبنان إلى جبل العرب في سوريا مرورا بالشوف والمتن، ودولة مسيحية في نصف الجبل اللبناني، ودولة علوية في سوريا، و”هلال شيعي” يمتد من إيران إلى لبنان، وكنفدرالية دويلات سنّية متحالفة في سوريا ولبنان والعراق!
مصير سوريا
كما هو واضح، الألغام أمام الولادة اللبنانية الجديدة تبدو ضخمة وخطيرة. لكن أهمها (حتى الآن على الأقل) هو اللغم السوري الذي سيتوقف على طبيعة سلوكياته مصير المرحلة الانتقالية اللبنانية الراهنة، إما باتجاه الانقلاب الديموقراطي الهادئ، أو نحو الاضطرابات الأمنية التي قد لا تصل إلى مرحلة الحرب الأهلية، ولكنها قد تحمل بعض سمات الفوضى العراقية، مثل بروز جماعات إسلامية سنّية متطرفة تمارس عمليات إرهابية ضد الشيعة وغيرهم، أو احتكاكات درزية- شيعية وسنيّة- شيعية، أو بذل جهود لتفكيك الجيش اللبناني على أسس طائفية … الخ.
إذا ما حصل السوريون على ضمانات لبقاء نظامهم، قد يدعمون الانقلاب الهادئ ويحاولون من خلاله حصر خسائرهم الإستراتيجية في لبنان.
لكن، ماذا يمكن أن يحدث إذا لم يحصلوا على أي من هذه الضمانات؟ ماذا إذا تلكئوا في الانسحاب من لبنان وتعرضوا إلى ضغوط دولية جديدة تشمل، من ضمن ما تشمل، “استخدام الورقتين السنّية والمسيحية “لنشر عدم الاستقرار في الداخل السوري، كما دعا قبل أيام يوسي أولمرت،مستشار إسحق رابين وموشي أرينز، أو دفع المعارضة السورية والكردية السورية إلى إعلان العصيان المدني، كما ألمحت “واشنطن تايمز” الناطقة باسم المحافظين الجدد الأميركيين يوم الخميس 24 فبراير الجاري؟
هل يقرر السوريون حينها قلب الطاولة على رؤوس الجميع (وعلى رؤوسهم) وممارسة ما أسماه باتريك سيل “الانتحار السياسي”؟
فلننتظر قليلاً لنر طبيعة التمخضات في أوساط النخبة الحاكمة السورية، حيث لا يستبعد انفجار صراعات سياسية حادة في صفوفها، تسببها الضغوط الدولية واللبنانية الحادة. وفي مرحلة الانتظار هذه، سيواصل لبنان السير نحو مصيره التاريخي الجديد، وهو يتحسس في كل حين موطئ قدمه في غابة الألغام الكثيفة المفروشة على طريقه.
سعد محيو- بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.