لعبة البحث عن الدلالات!
إطلاق سراح زعيم الحزب الشيوعي العمالي التونسي والتحوير الحكومي كانا أبرز الأحداث التونسية في الأيام الأخيرة.
وفيما يرى البعض أن التطورين قد يؤشران لديناميكية جديدة، إلا أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة ستكون في رأي آخرين عائقا أمام أي تطور حقيقي.
حدثان ميزا الأسبوع الأول من شهر سبتمبر في تونس. أولهما إطلاق سراح المسؤول الأول في “الحزب الشيوعي العمالي التونسي” المحظور، الذي تمتع بسراح شرطي بعد يومين فقط من قرار محكمة التعقيب رفض الاعتراض الذي تقدم به محاموه ضد الحكم الاستئنافي الذي أقر سجنه بثلاث سنوات.
أما الحدث الثاني فقد تمثل في التحوير الوزاري الذي أدخله الرئيس بن علي على التشكيلة الحكومية، وهو التحوير الذي كثر الحديث عنه منذ الاستفتاء الشعبي حول تحوير الدستور الذي تم تنظيمه يوم 26 مايو الماضي.
ورغم أن الإجراءين غير مترابطين، إذ لكل منهما طبيعته وسياقه الخاص به، غير أن التونسيين المتشوفين لديناميكية جديدة انطلقوا في عملية البحث عن دلالاتهما السياسية، وهل يمكن اعتبارهما مؤشرين كافيين لاستشراف ما ستحمله السنة السياسية الجديدة من تطورات محتملة.
استجابة لضغوط أم رغبة في الانفراج؟
أثار إطلاق سراح حمّة الهمامي ارتياحا في الأوساط الديمقراطية، التي اعتبرته قرارا إيجابيا يأتي في ظرف اتسم بالاحتقان الشديد في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان، وبعد التطورات السلبية وأحيانا الدرامية التي مر بها هذا الملف، خاصة منذ أن قرر الهمامي ورفاقه الخروج من حالة السرية وتسليم أنفسهم إلى القضاء.
ويتساءل المراقبون: هل أن هذا الإجراء جاء نتيجة الضغوط والضجة الإعلامية التي صاحبت ذلك حسب اعتقاد البعض؟ أم أنه يتنزل ضمن رغبة رسمية في تفريج الوضع السياسي العام بعد “الاشتباك” الأول من نوعه الذي حصل بين السلطة والأطراف التي رفضت التصويت بنعم للتعديلات الدستورية الأخيرة؟
هناك من يعتقد بأن العفو الرئاسي على محمد مواعدة (الأمين العام السابق لحركة الديموقراطيين الاشتراكيين)، والاتفاق الذي تم مع رئيس الوزراء الأسبق محمد مزالي بعد خلاف دام أكثر من 14 عاما، وإطلاق سراح الهمامي، والأخبار الرائجة وغير المؤكدة حول وجود قنوات اتصال مع أكثر من شخصية أو طرف سياسي مغضوب عليه، ليست إجراءات معزولة عن بعضها البعض، وإنما تندرج ضمن توجه تدريجي على الطريقة المعهودة للنظام نحو ما يطلق عليه عادة بـ “تنقية المناخ العام”.
لهذا، لا يخفي أصحاب هذا الرأي تفاؤلهم باحتمال اتخاذ إجراءات أخرى خلال الأسابيع القادمة تكون أكثر دلالة على وجود هذه الإرادة، ولا يستبعدون أن يشمل ذلك عددا واسعا من المساجين الإسلاميين.
في المقابل، يلازم آخرون الحذر، ويشيرون إلى الوجه الآخر من الصورة، مثل الإبقاء على رفيقي الهمامي في السجن، وسلسلة الانتهاكات التي تعرضت لها البلاغات الأخيرة الصادرة عن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمجلس الوطني للحريات (محظور).
ويلفت هؤلاء النظر إلى التشدد الذي أظهرته السلطة فيما يتعلق بالتعامل مع عدد من كوادر حركة النهضة المحظورة، مثل إعادة محاكمة السجين السياسي السابق عبد الله الزواري، التي بدت وكأنها إشعار للجميع بأن ملف الإسلاميين لا يزال مؤجلا وغير مطروح على مكتب الرئيس.
كما يتساءل هؤلاء عن أهمية إخراج شخص معارض من السجن إذا مُنع فيما بعد من ممارسة نشاطه السياسي أو لم يتمكن من التعبير عن آرائه، في إشارة منهم إلى ضرورة الاعتراف بحزب العمال وبقية التنظيمات السياسية الممنوعة مثل “التكتل من أجل العمل والحريات” الذي يقوده الدكتور مصطفى بن جعفر، و”المؤتمر من أجل الجمهورية” الذي يتزعمه الدكتور منصف المرزوقي.
أزمة زراعية وركود اقتصادي وسخونة اجتماعية
وبغض النظر عن هذا الاختلاف في قراءة الحالة السياسية، فمن المؤكد أن طموحات النخبة تتجاوز بكثير تسوية بعض الملفات الفردية، تضاف إلى ذلك التخوفات التي بدأ يشير إليها عدد من المطلعين على الوضع الاقتصادي الصعب، والذين ينصحون بانتهاج المرونة السياسية كشكل من أشكال “الوقاية” لامتصاص أي ردود فعل غير متوقعة.
فبالرغم من الخطاب الرسمي المُطمئِن، تلتقي تقارير بعض الهيئات الدولية مع ما يؤكده عدد من الخبراء بأن الحالة الاقتصادية، وإن كانت أفضل مما تواجهه الدول المجاورة، إلا أن ذلك لا يقلل من مخاطر الأزمة الزراعية في ظل استمرار الجفاف للعام الرابع على التوالي والركود الاقتصادي وتوسع السوق السوداء أو الموازية وتقلص مدخرات البلاد من العملة الصعبة وازدياد نسبة البطالة.
في هذا السياق، تأتي أهمية المفاوضات الاجتماعية المتعثرة مع الاتحاد العام التونسي للشغل بعد أن اتسعت الشقة بينه وبين الحكومة حول نسبة الزيادات في الرواتب، حيث هددت عديد القطاعات النقابية الهامة بشن سلسلة من الإضرابات في الفترة القادمة.
فالنقابيون، رغم كل الاعتبارات السياسية، غير قادرين على القبول بأن “يتحمل الشغالون وحدهم أعباء الأزمة”. لهذا تكثفت في المدة الأخير الاتصالات على أعلى مستوى، لتجنب حصول قطيعة بين الطرفين، حيث تعمل السلطة جاهدة على عدم تعريض تحالفها مع المركزية النقابية للخطر.
البوصلة.. اقتصادية!
أما بالنسبة للتحوير الوزاري، فقد شكل مفاجأة للكثيرين، لأنه جاء مغايرا لكل التوقعات والسيناريوهات التي راجت منذ أشهر، مما جعل البعض يعتبره مقدمة لتحوير حقيقي لم يقع بعد. حتى أن الصحف المحلية تناولته باعتباره “إعادة هيكلة للحكومة”، أكثر منه تعديلا وزاريا بالمعنى التقليدي. فقد تقلصت هياكل الحكومة بعد أن تضخمت في المرحلة السابقة، حيث تم حذف ست وزارات والتخلي عن خدمات تسع وزراء.
ومن الأمثلة على ذلك، وزارة “حقوق الإنسان والاتصال والعلاقة بمجلس النواب”، التي تعاقب عليها في ظرف وجيز عدد من المسؤولين السياسيين دون أن يتمكنوا من تحديد دورها وإكسابها هوية واضحة أو ينجحوا في جعلها تتمتع بمهام وصلاحيات فعلية.
من هذه الزاوية، يتفق المحللون على القول بأن التعديل الذي تم ليس له صبغة سياسية، بقدر ما حددته الاعتبارات العملية، إضافة إلى تغليب الأولويات الاقتصادية، وأحيانا المؤهلات الشخصية لبعض الوزراء.
فتكليف السيد مُنصر الرويسي بقطاع التكوين المهني، إضافة إلى ملف التربية يعود أساسا إلى خبرته ونجاحه السابق في هذا المجال، وهو ما ينطبق أيضا على السيد منذر الزنايدي الذي جمع بين حقيبتي السياحة والتجارة.
كما أن تخصيص وزارة كاملة لمسألة التشغيل، وإبراز مسألة الموارد المائية في مقدمة اهتمامات وزارة الفلاحة وبعث كتابة دولة متفرغة لمواجهة أزمة متفاقمة في هذا المجال وربط وزارة الداخلية بالتنمية المحلية، أمثلة إضافية تعكس الهواجس الاقتصادية والاجتماعية للمرحلة القادمة.
في انتظار 2004..
وفي الوقت الذي توقع فيه الكثيرون تغييرا واسعا في أشخاص الوزراء (بما في ذلك الوزير الأول السيد محمد الغنوشي)، جاء التعديل ليبين تمسك الرئيس بن علي بمعظم أعضاء فريقه الحكومي، وبالأخص الوزير الأول الذي يتطلب الوضع الاقتصادي بقاءه أكثر من أي وقت مضى.
المؤكد، هو أن السنة السياسية الجديدة تكتسب أهميتها باعتبارها السنة التمهيدية للانتخابات الرئاسية التي ستجري عام 2004، وهي محطة إضافية إلى دلالاتها بالنسبة للنظام وتعتبر حاسمة بالنسبة لأحزاب المعارضة على اختلاف أنواعها.
فالأحزاب المتعاونة مع الحكم، تتهيأ هذه الأيام لعقد مؤتمرات تحاول من خلالها استقطاب شخصيات جديدة تضمها إلى صفوفها لمحاولة تعزيز حضورها في البرلمان القادم.
أما التنظيمات السياسية الأخرى (غير الممثلة في البرلمان او غير المتحصّلة على الاعتراف القانوني)، فهي تعتقد أن لعبة التحالف مع السلطة لا تساعد مطلقا على بناء أحزاب حقيقية، وأن تطوير أشكال التنسيق فيما بينها ورفع خطابها الاحتجاجي هما الكفيلان بدرجة أساسية “لكسب ثقة الجماهير واستقطاب مناضلين لا طالبي وجاهة أو باحثين عن مناصب مهداة” حسب قول معارض تونسي طلب عدم ذكر هويته.
لكن، هل ستقدر هذه الأحزاب على إضفاء مصداقية على مبادراتها في مرحلة تشهد منذ سنوات عزوفا واسعا عن السياسة وشكا متزايدا في مصداقية السياسيين؟ سؤال آخر يضاف إلى أسئلة عديدة تطرحها تحديات مرحلة ما بعد استفتاء 26 مايو في تونس!
صلاح الدين الجورشي – تونس
حدثان ميزا انطلاق السنة السياسية في تونس
الافراج عن قياديين في الحزب الشيوعي العمالي التونسي المحظور
تحوير جزئي للحكومة تميز باهتمام خاص بالتشغيل والاقتصاد والزراعة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.