لماذا الاهتمام الكبير بلبنان الصغير؟
سؤالان كبيران يطلاّن برأسيهما هذه الأيام في خِـضم الأزمة اللبنانية الراهنة، والتي تمخّـضت يوم الجمعة 23 نوفمبر عن فقدان بلاد الأرز لـ "رأسها" مع تعَثر انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
الأول: ما سِـر هذا الاهتمام الدولي والإقليمي الكبير بهذا البلد الصغير وبمشاكله وأزماته، أما الثاني، إلى أين تسير الأمور بعد شغور منصب الرئاسة؟
للإجابة على السؤال الأول، سنستعين ببعض النصوص التاريخية. فالمؤرخ اللبناني الكبير كمال الصليبي يقول (في كتابه ” تاريخ لبنان الحديث”): “.. والحق أن نهج التدخل الدولي القنصلي في لبنان لم يصبح واضحاً إلا مع تعاقب الأحداث التي أدّت إلى سقوط الشهابيين. فمع أن الصِّـلة الحميمة بين الموارنة وفرنسا تعود إلى أوائل العهد الشهابي، إلا أن الموارنة لم يقتصروا في طلب المشورة والتأييد من قناصل فرنسا إلا بعد 1841. لم ينظر الدروز إلى فرنسا نظرة عداء قبل ذلك الوقت، كما كان القناصل الفرنسيون وعملاؤهم في السابق، الذين عيَّـنوا أنفسهم حرساً على مصالح الموارنة، يبذلون منتهى الجُـهد للحفاظ على نفوذ فرنسا بين الدروز، وكان جهدهم هذا موّجهاً أكثر ما يكون إلى إبقاء الدروز والموارنة معاً بمنجى من تأثير البريطانيين والنمساويين والفرنسيين..”.
ويقول (في موقع آخر): “.. وحين فشل البريطانيون في تعزيز علاقاتهم بالموارنة، حوّلوا اهتمامهم نحو الدروز، وهكذا كان أول تحالف بين الدروز والبريطانيين يخرج إلى الوجود. ففي 24 سبتمبر 1841، صعد خمسة من كبار زعماء الدروز إلى ظهر بارجة بريطانية راسية قُـبالة صيدا وأقسموا على أن تقف طائفتهم صفاً واحداً مع بريطانيا. ولقاء ذلك، قطع البريطانيون وعداً للدروز بحمايتهم والدفاع عن مصالحهم، وكان من نتائج هذا التفاهم البريطاني – الدرزي أن قضى على أمل الوحدة بين الموارنة والدروز”.
ولماذا هذا الاهتمام الفرنسي والبريطاني والدولي بطوائف لبنان؟
المفكر والوزير السابق د. جورج قرم، يعتقد أنه يمتلك الجواب: “من نتائج النظام الطائفي أنه أوجد في نُـخبتنا الحاكمة ثقافة سياسية مُـسيطرة، أطلقنا عليها تسمية “ثقافة القناصل”، التي تتألف بشكل أساسي من ثرثرة الدبلوماسيين الأجانب في بيروت وسمومهم. فالمطّـلع على الأرشيف الدبلوماسي الأوروبي المُـتعلق بلبنان، يُـدرك أن ما يحصل الآن في لبنان، ليس مختلفاً في جوهره ولا في شكله عمّـا حصل في أزمات القرن التاسع عشر، حين كان سفراء الدول الكبرى يكَـوِّنون دوماً محور الحياة السياسية في البلد، تماماً كما كان القناصل في القرن التاسع عشر”.
ويتابع: “وبالمثل، رجال السياسة اللبنانيين يستمدّون الآن جزءاً من سلطتهم من علاقاتهم الوثيقة مع هذه السفارة أو تلك أو رئيس هذه الدولة الأجنبية أو تلك، عربياً كان أو أجنبيا. وقد أصبحت “ثقافة القناصل” هذه قوية إلى درجة أن قلة من اللبنانيين يُـدركون مدى عدم تجانُـسها مع صفة الدولة ذات السيادة”.
“الدولة – الحاجز”
ومن النصوص التاريخية نأتي إلى الوقائع. التدخلات الدولية في لبنان تجري، لأن هذا البلد تنطبق عليه مقولة “الدولة – الحاجز” (buffer state)، والتي تعرف بأنها “دولة تقع وسط منطقة مواجهات إستراتيجية بين قوى إقليمية أو دولية، وتتميز بوجود سلطة هشة يرافقها تشرذم اجتماعي، مما يدفع الدول الكبرى لتحويلها إلى منطقة حروب بالواسطة”.
لبنان كان دوماً في تاريخه الحديث دولة – حاجز، منذ أن علق في النظام الطائفي للمرة الأولى عام 1840: من نظام القائمقاميتين ( 1842-1860)، إلى نظام المتصرفية ( 1861-1914) مروراً بالانتداب الفرنسي ( 1919-1943)، وصولاً إلى عهد الميثاق الوطني – الطائفي، وبعده ميثاق الطائف الأكثر طائفية.
والآن، تدخل هذه “الدولة – الحاجز” في عين إعصار إقليمي – دولي جديد يجعلها مرتعاً للصراعات الآتية:
1- ساحة دولية – إقليمية لإسقاط أو تغيير سلوك النظام السوري. صحيح، أن الشعار لبناني، وهو معرفة حقيقة من اتخذ قرار قتل رفيق الحريري في دمشق، لكن الهدف لا علاقة له لا بالحريري ولا بلبنان ولا باللبنانيين، إنه صراع بين حلفاء الأمس في دمشق وواشنطن حول لوحة إقليمية إستراتيجية تغيّـرت بحدّة بعد غزو العراق، فبات ضرورياً تغيير السياسات والشخصيات، وربما الأنظمة فيها.
2- ساحة دولية – إقليمية تتجابه فيها إيران وأمريكا بالواسطة، بدل أن تتناطحا مباشرة. صحيح، أن الشعار لبناني، وهو سلاح المقاومة أو حزب الله، إلا أن واقع الأمر أن طهران تدافع عن حليفتها دمشق في بيروت وعن نفسها في الجنوب عبر تهديد إسرائيل بالرد عليها بصواريخ “فجر- 3” و”فجر- 5″، التي يُـقال إنها في عُـهدة الحرس الثوري الإيراني.
3- ساحة إقليمية لبعض الفصائل المتصارعة الفلسطينية، التي رأت في خروج سوريا من لبنان ودخول إيران إليه، فرصة ذهبية للانغماس طرفاً في لعبة الصراع الشرق أوسطي مجدداً.
4- أن لبنان، ربما يكون أيضاً الساحة التي قد ينقل إليها أرباب النظام العراقي الجديد صراعاتهم الطائفية والمذهبية، إما لإرضاء بعض الأطراف الإقليمية أو لتعزيز مواقعهم في الصراعات المحلية العراقية عبر توسيعها إقليمياً.
5- ثم أن لبنان بات، بعد الانسحاب السوري، ساحة ومرتعاً لنفوذ دولي أمريكي – فرنسي تصطفّ وراءه العديد من الدول العربية النافذة، وتصطفّ ضِـده سوريا وإيران وحلفاؤهما الفلسطينيون واللبنانيون وغيرهم.
إلى أين؟
هذا عن السؤال التاريخي الأول، ماذا الآن عن السؤال السياسي الراهن: لبنان إلى أين بعد أن وقع المحظور وباتت بلاد الأرز بلا رأس أو رئيس؟
يمكن القول إذن إن الكثير سيعتمِـد على مصير المبادرة الفرنسية، التي بذل خلالها الرئيس ساركوزي ووزير خارجيته كوشنير جهوداً مُـضنية، وأحياناً دقيقة وخطرة لإخراجها من فم الأسد. فإذا ما بقيت هذه المبادرة على قيد الحياة، على الأقل حتى الموعد الجديد لانتخاب رئيس الجمهورية في 30 نوفمبر الحالي، سيكون لبنان على موعد مع ظروف أفضل لإدارة أزمته، أما إذا ما تبيّـن أن الأمريكيين قرروا سحب “تفويضهم” من الفرنسيين وأعادوا الإمساك بالملف اللبناني بأنفسهم، فسيكون الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام احتمالين اثنين:
الأول، إبرام صفقة سورية – أميركية مباشرة هذه المرة، (أي بدون المعبر الإجباري الفرنسي)، تُـقايض بمقتضاها واشنطن “حسن السلوك” الإقليمي السوري وِفق الرؤية الأمريكية بإعادة قدر من نفوذ دمشق في بيروت.
مثل هذه الصفقة باتت مُـمكنة بفعل جملة ظروف متشابكة، مثل الإشادة الأمريكية مؤخراً بالدور الإيجابي لسوريا في العراق ومشاركة دمشق في مؤتمر أنابوليس الدولي.
الاحتمال الثاني، هو تعثَر مثل هذه الصفقة وعودة العلاقات السورية – الأمريكية إلى التدهور مجدداً، وهذا أيضاً أمر وارد، بفعل الصراعات التي لا تزال مستعرة بين الصقور الأمريكيين في مجلس الأمن القومي وموقع نائب الرئيس، الذين يرفضون أي تطبيع مع دمشق وبين الحمائم في وزارة الخارجية، الذين يحبِّـذون استخدام الجزرة معها.
أي الاحتمالين الأقرب إلى التحقق؟
الأمور مرهونة بما سيجري، ليس فقط في أنابوليس، بل أيضاً في طبيعة المسار الذي ستدخله خلال الشهور القليلة المقبلة كل من الأزمة العراقية والعلاقات الإيرانية – الأمريكية والتوترات اللبنانية – الإسرائيلية والصراعات الفلسطينية – الفلسطينية، إضافة بالطبع، إلى مستقبل العلائق السورية – الأمريكية.
بكلمات أوضح: أزمة لبنان خرجت نهائياً من بوتقتها اللبنانية وارتبطت مجدداً بكل أزمات الشرق الأوسط، تماماً كما كان الحال في الحقبة الفاصلة بين عامي 1975 – 1989.
لا حل بعد في لبنان يمكن أن يولد، قبل أن تتمخض أزمات المنطقة، إما عن سلام شامل أو حروب شاملة. أجل، الهدنات ممكنة ومعها التسويات المؤقتة، بما في ذلك احتمال انتخاب رئيس جديد للجمهورية في الأسابيع أو الشهور المقبلة، لكن هذا لن يخرج عن كونه “إدارة للأزمة”، لا حلاًُ جذرياً لها، كما أن الانفجارات الأمنية ممكنة أيضاً.
صحيح أن كل الأطراف في لبنان وخارجه تقول إنه لا مصلحة لها في تفجير الوضع، إلا أن الصحيح أيضاً أن بعض هذه الأطراف أقل صدقاً بكثير من غيرها حيال هذه المسألة.
من نقصد هنا؟ المحافظون الجدد الأمريكيون. فهؤلاء لا زالوا موجودين بقوة في الإدارة الأمريكية، برغم النكسات التي حلًـت بهم، ولا زالوا أيضاً يعملون على إعادة رسم الخرائط في الشرق الأوسط عبر لعبة “الفوضى الخلاقة”.
العراق المقسَم، كان ضحيتهم الأولى، لكنه لم يكن الأخير. فقد لحقته سريعاً فلسطين، التي أصبحت الآن “فلسطينين”، وقد يلحقه الأردن المهدّد الآن بحرب أردنية – فلسطينية، ولا شيء سيمنع المحافظين من وضع لبنان، ومن بعده أو قبله سوريا، على لائحة الطعام.
هل تدرك الأطراف العربية المتصارعة فوق بلاد الأرز هذه الحقيقة؟ حتماً، لكن مع عمى ألوان مميز، يجعلها لا تفرق بين مكاسبها التكتيكية المحتملة وبين خسائرها الإستراتيجية الأكثر احتمالا، ولو لم يكن الأمر على هذا النحو، لمَـا كُـنا نتحدث الآن عن المحظور الذي وقع في لبنان.. وعمّـا سيجري بعدُ في هذا الوطن المعذَب، الذي كان منذ القرن التاسع عشر، ولا يزال، الدولة – الحاجز الأبرز في منطقة الشرق الأوسط.
سعد محيو – بيروت
بيروت (رويترز) – قال رئيس الوزراء اللبناني يوم الاثنين 26 نوفمبر إن حكومته لن تقدم على أي خطوة “استفزازية” في مؤشر على أنه سيحاول احتواء أزمة سياسية في البلاد التي أصابها الانقسام.
وتسلمت حكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة السلطات من الرئيس اميل لحود الذي انتهت فترة ولايته من دون الاتفاق على من يخلفه.
وتشكك المعارضة المدعومة من سوريا بقيادة حزب الله في شرعية الحكومة المناهضة لسوريا وتقول انها لا تملك الحق في تولي صلاحيات الرئيس.
وقال السنيورة للقيادات الدينية إن الحكومة ستعمل بحيث تكون قراراتها مدروسة وغير مستفزة وتركز على الوفاق السياسي.
ودعا السنيورة القيادات الدينية للعمل من أجل الهدوء لان التوتر والتصعيد لن يساعدا ولكن سيفاقمان الازمة الحالية. وقال ان الهدف المنشود هو انتخاب رئيس جديد.
ومن المقرر أن يجتمع البرلمان يوم الجمعة في محاولة أخرى لانتخاب الرئيس. وكان التصويت قد تأجل خمس مرات بسبب فشل القيادات الرئيسية في الوصول الى مرشح متفق عليه.
وعلى الرغم من عدم الاتفاق على من يخلف لحود فان الطرفين لم يوجها أي تهديدات باتخاذ خطوات من جانب واحد. وبدلا من ذلك فضلا احتواء أسوأ أزمة تلحق بالبلاد منذ الحرب الاهلية التي وقعت بين عامي 1975 و1990.
وظل مقعد الرئاسة شاغرا في عامي 1988 و1989. وأدت تلك الازمة لواحدة من أكثر المراحل الدامية في الحرب الاهلية.
وقالت حركة أمل وجماعة حزب الله الشيعيتان انه لا يتعين ترك الموقع شاغرا لوقت طويل.
وأضافت الجماعتان اللتان تشككان في شرعية السنيورة بسبب استقالة جميع الوزراء الشيعة من الحكومة قبل عام ان الاجماع وحده هو الطريق لحل الازمة وتبديد غمام الفوضى المطبق على لبنان.
وأشارتا في بيان الى أن استمرار الفراغ في الموقع سيقود الى اضعاف التعايش الوطني.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 26 نوفمبر 2007)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.