مُـسـلّـمـات السياسة و.. توازناتها!
أثارت استقالة محمد العماري، قائد هيئة أركان الجيش الجزائري، موجة تساؤلات خطيرة، تراوحت بين عدة احتمالات.
فهل تحول الجيش الجزائري إلى “آلة” في يد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، أم أن مطبخ صناعة القرار السياسي والعسكري انتقل الآن إلى قصر المرادية؟ الجواب ليس سهلا بالمرة.
هذه التساؤلات لم تجد لها الجواب الشافي في التغييرات الأخرى التي أجراها الرئيس الجزائري داخل المؤسسة العسكرية بعد يومين من استقالة العماري، والتي لا يمكن تسميتها بالانقلاب بأي حال من الأحوال.
هناك من وصف رحيل الفريق محمد العماري بأنه نهاية مرحلة، وهذا صحيح بكل ما تحمله الكلمة من معان، لأن الرجل وقف رفقة وزير الدفاع الأسبق خالد نزار في وجه الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي كادت أن تفوز بالانتخابات البرلمانية لعام 1991.
ومعروف أن قرار إلغاء المسار الانتخابي، تبعه تدهور أمني خطير، وحرب شعواء لا رحمة فيها بين تيار إسلامي منقسم على نفسه وفوضوي شعاره الرغبة في إقامة دولة إسلامية، وبين جيش منظم نسبيا يقوده العماري وزملاءه الذين لا يريدون أن تُحكم البلاد بالشريعة الإسلامية مهما كانت الظروف.
معروف أيضا أن الحرب، على ما وُصف بالإرهاب قبل اتخاذ الولايات المتحدة لهذا المسمى، كانت حربا من دون رحمة ولا أخلاق، هلك فيها الكثير بذنب أو من دون ذنب، مدنيين وعسكر، رجال ونساء، شيوخ ورضع.
ومنذ إلغاء الانتخابات البرلمانية في يناير 1992، ارتبط اسم العماري بأسماء جنرالات آخرين، وصِفوا حسب عاطفة المؤيدين والمعارضين، إما بمنقذي الجمهورية، أو جنرالات الموت سفاكي الدماء.
لعبة التوازنات الجزائرية
الواقع أن العماري هو ورفاقه قاتلوا بكل شراسة ضد الإسلاميين المسلحين، ما بين أعوام 91 و 99 وهو موعد عودة عبد العزيز بوتفليقة إلى الساحة السياسية، بعد إبعاده عام 1980 بعد فترة قصيرة من رحيل هواري بومدين الرئيس الجزائري الأسبق.
غير أن الصورة المبسطة لجنرالات أقوياء يحكمون البلاد، بقبضة من حديد لا يمكنها أن تصمد أمام حقيقة أن الجزائر، “بلاد-أجهزة” و “نفوذ-سلطة”، يتأرجح بين هذا الطرف أو ذاك حسب الحاجات الظرفية.
لذلك لا يوجد فرق كبير بين إقالة العماري أو استقالته لأسباب مرضية حسب ما جاء في البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية، لأنه لو سلمنا جدلا بأن بوتفليقة أقال العماري، فإن الرئيس يكون قد استلم بعض الصلاحيات من الجيش، التي لا تجعل منه بالضرورة صاحب الكلمة المطلقة، لكنها تمكنه من كسب بعض النقاط لفائدته.
هذا هو الواقع السياسي الجزائري منذ استقلال البلاد عام 1962، بل إن الرئيس القوي الراحل، هواري بومدين، اضطر إلى اللعب على التوازنات جميعها دون استثناء. فبومدين أستاذ بوتفليقة السياسي والعسكري، اضطر إلى الاعتماد على التوازنات الجهوية والإقليمية داخل الجيش ليحكم قبضته عليه، عبر إقناعه بأنه رجل إجماع، وسلّح هذا الوضع، بجهاز أمني استخبارتي قوي جدا.
غير أن هذا التوازن لم يكتمل إلا بعد أن أصبحت الحكومة التي قادها بومدين، مزيجا من المتعلمين والأميين والموالين لفرنسا والكارهين لها، بالإضافة إلى إسلاميين وبعثيين وشيوعيين.
لا يمكن بأي حال من الأحول، وصف الجيش الجزائري بأنه الحاكم بأمره، لمجرد أنه يمثل أقوى الأطراف والأجهزة في إدارة الشؤون السياسية للبلاد.
وحتى الفريق محمد العماري، عندما أعلن الحرب على عباسي مدني و علي بن حاج، لم تكن حربه عليهما وعلى حزبهما، من قبيل أوامر الرئيس العراقي السابق صدام حسين، عندما شن الحرب على إيران، أي من قبيل “أقاتل ضد من أريد” أو “سأقطع رأسك”.
العماري رجل الحروب الداخلية
لقد اضطر العماري وزملاؤه إلى الاستعانة بجزء من الإدارة المؤيدة لهم، وحتى قرار إلغاء المسار الانتخابي، احتاج حينها إلى التئام مؤتمر غير رسمي ضم قيادات الجيش والدرك والشرطة، ومن تبقى من كبار موظفي الرئاسة بعد إقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، بالإضافة إلى شخصيات سياسية بارزة من المجتمع المدني الجزائري.
لم يكن قرار الحرب على الجبهة الإسلامية للإنقاذ شبيها بالحرب التي شنها الرئيس السوري السابق حافظ الأسد في الثمانينات على الإخوان المسلمين في سوريا، فعدا الخوف من انتفاضة سنية في بلاد الشام، لم تكن الإدارة السورية ومؤسسات الدولة الأخرى قادرة على إيقاف خطة الرئيس السوري السابق.
وبعد كل الأهوال الأمنية التي عاشتها الجزائر، خلال السنوات العشر الماضية، يقف العماري وجها لوجه مع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لأن مهمة العماري حسب أبجديات أجهزة الدولة الجزائرية قد انتهت.
فالحرب التي تم خوضها للحفاظ على الدولة العلمانية قد تحققت، وجيء بالرئيس بوتفليقة عام 99 لتحقيق مصالحة وطنية واستقرار سياسي لا يمكن للجيش إنجازه بمفرده.
أما الآن فبوتفليقة قوي بنتيجة انتخابات رئاسية فاز فيها، بنسبة تتعدى الثمانين في المائة، وعلى هذا الأساس يجب أن يمنح صلاحيات أوسع لتسيير شؤون البيت، تبعا لتقليد سياسي ترسخ مفهومه مع مر الأيام.
“خلاف داخل العائلة الواحدة”
عوض العماري في منصبه، بعد الإقالة أو الاستقالة، الجنرال صالح محمد قايد، قائد الناحية العسكرية الأولى، وهو جنرال أثبت ولاء مطلقا للرئيس الجزائري، وولاء آخر لقائد هيئة الأركان الفريق محمد العماري.
شاعت قبل الانتخابات الرئاسية وبعدها أن العماري يعارض سياسة الوئام المدني التي انتهجها بوتفليقة، والتي تقضي بالعفو عن الإسلاميين المسلحين، إذا ما عادوا إلى الحياة الطبيعية.
لا يبدو هذا الكلام دقيقا، إذا ما سجلنا أن جنرالات كثيرين ممن يأتمرون بأوامر العماري، أشرفوا على عملية التفاوض مع الإسلاميين المسلحين، ولا يمكن لهم أن يتحركوا من دون رغبة أو علم القائد الأول.
ما تسرب من داخل سرايا القصور الجزائرية المختلفة، أن العماري لم يكن راضيا على الطريقة التي تُسير بها شؤون الدولة، وأنها بدت له فوضوية بعد تسلم بوتفليقة زمام الحكم عام تسعة وتسعين.
يمكن وصف هذا الخلاف، بأنه حديث “داخل العائلة الواحدة”، التي تضم الجيش ورئاسة الجمهورية، والجمارك والبنك المركزي ووزارة الخارجية والشرطة وولاة الأقاليم، بالإضافة إلى قادة النواحي العسكرية.
هناك من يضيف إلى هذه القائمة الطويلة من الأجهزة، “أقمارا” أخرى بعضها قوي وبعضها ضعيف، وقد تصل إلى حد ضم الزوايا الصوفية وشيوخ القبائل، ورجال الأعمال الموالين لفرنسا، بفسيفسائهم القبائلية والشرقية والغربية، بالإضافة إلى رجال الأعمال المعربين المؤيدين لتعزيز التبادل التجاري مع الدول العربية.
وما من شك في أن اتخاذ القرار السياسي، يحتاج إلى الأخذ برأي أصحاب اللسان الفرنسي داخل أجهزة الدولة، وهؤلاء يساريون في معظمهم، الأمر الذي يعطي وزنا للتيار اليساري الذي يضم في ما يُشبه الدراما التاريخية، مجموعة من أغنى رجال الأعمال في البلاد.
أما إذا احتاج الأمر إلى تجنب غضب الشارع المتدين، يستدعى المعربون ومن شابههم، ليتخاصموا أمام الملأ مع العلمانيين حول موضوع عدم حاجة المرأة للولي عند الزواج والسفر على سبيل المثال.
أبجديات جزائرية
هناك مسلمة في أبجديات الحكم والسياسة في الجزائر، وتتمثل في أن من يدخل العائلة الكبيرة لن يخرج منها إلى أن يأتيه ملك الموت، غير أن الاستفادة من مصالح الحكم والجاه، ليست متماثلة بين الجميع، لأن الحصول على أقوى نسب الحكم، تأتي دوريا وفي وقت متقطع غير معروف، وهذا هو السبب الرئيسي للرشوة وعمليات الاختلاس التي يشهدها الاقتصاد الجزائري، فـ “المسؤول-اللص” إن صح التعبير، يعتمد على فكرة أن الفرصة قد لا تعود إلا بعد أن يشيخ…
تعتبر رئاسة الجمهورية الآن، أقوى أجهزة الدولة الجزائرية، تليها وزارة الدفاع، ثم مؤسسات الدولة الأخرى، ويتوقع لهذا الوضع أن يستمر ما دام الأمن مستقرا، أما إذا أراد الإسلاميون الخروج مرة أخرى إلى الجبال، فسيتصدر الجيش الواجهة.
من الناحية النظرية، تعتبر قوة رئاسة الجمهورية اليوم، حالة صحية جيدة، لأنها تفيد الإدارة والاقتصاد بفكر مدني واقعي، غير أن المشكلة المطروحة، تتمثل في أن قوة الدولة مردها إلى التوازن القائم بين أجهزتها، لا إلى مجتمع مدني وحزبي قوي.
معنى ذلك أن الجزائر الجمهورية، تحمل من الكلمة، معنى التجمهر لا معنى نظام حكم السيادة فيه للشعب. صحيح أن الحكم في الجزائر مفتوح لكل من يملك مؤهلات اللعب القاسي، ولو كان ابن فقير معدم، غير أن هذا الأسلوب لا يختلف عما شهده التاريخ في دولة المماليك أو في عهد دايات الجزائر في الفترة العثمانية.
الخبز والقراءة والكتابة أمور مضمونة ” نسبيا”، داخل جهاز حكم كهذا، غير أن هذا الواقع هو المفسر الوحيد، للتناقض الذي يُلاحظ في شخصية المواطن الجزائري عندما يملك جواز سفر فرنسي وآخر جزائري. فهو في الأول مواطن نشط يدفع الضرائب، وفي الثاني، يمثل شخصية الرجل المصفق علنا الكاره ضمنا للسلطة المركزية، وهو في نفس الوقت، لا يدفع الضرائب، لكنه يؤكد في السر والعلن، أنه “يدفع الزكاة”!؟
هيثم ربـاني – الجزائر
ولد الفريق محمد العماري في الجزائر العاصمة في عام 1939
التحق بالجيش الفرنسي كضابط ثم تركه في بداية عام 1960 والتحق بصفوف جيش “جبهة التحرير الوطني الجزائرية”.
واصل تكوينه العسكري كضابط مدفعية في اكاديمية فرونزي العسكرية السوفياتية.
شارك في اتخاذ قرار إلغاء انتخابات ديسمبر 1991 تحت حجة “حماية النظام الجمهوري من الاسلاميين”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.