ما بعد القرار الأمريكى الكبير
لا تُوحي ردود الأفعال الأولية التى أعقبت قرار إدارة بوش بإعادة نشر القوات الأمريكية حول العالم بأن آثاره ستكون استراتيجية إنقلابية كما كان متصورا خلال السنوات الثلاث الماضية التى شهدت مداولات مكثفة حوله.
ومع أن لهذا التصور ما يبرره، إلا أن ثمة – رغم ذلك – ما يشير إلى تغيرات محتملة ذات طابع جاد فى خريطة العالم العسكرية.
لا تتسم البيانات الكمية الخاصة بما سيحدث على الأرض بأية تعقيدات، فهناك ما يقرب من 365 ألف جندى أمريكى يتمركزون فى حوالى 68 قاعدة عسكرية رئيسية داخل حوالى 25 دولة فيما يعرف بما وراء البحار، بينهم 150 ألف جندى فى العراق وأفغانستان، وحوالى 116 ألف جندى فى مسرح أوروبا، ثم حوالى 87 ألف جندى فى منطقة أسيا – المحيط الهادى.
وعلى الرغم من أن مسئولين أمريكيين مثل دوجلاس فيث مساعد وزير الدفاع يؤكدون أن الولايات المتحدة تقوم حاليا “بأكبر عملية إعادة هيكلة للقوات المسلحة الأمريكية في الخارج منذ عام 1953″، فإن تلك العملية تتم بطريقة لا تترك المجال عمليا لانقلابات عسكرية حادة، أو فراغات استراتيجية واسعة، بفعل مايلى:
أولا، أن قرار إعادة انتشار القوات الأمريكية يرتبط فقط بما بين 60 إلى 70 ألف جندى من القوات المتمركزة فى ألمانيا بالأساس، وعدد محدد من قوات كوريا الجنوبية.
ثانيا، أن خطة إعادة الانتشار لا تتضمن مساسا قريبا بالقوات الأكثر أهمية التى تتواجد داخل العراق أو أفغانستان ( 150 ألف تقريبا) والتى يمكن أن يؤدى سحبها إلى تأثيرات فورية.
ثالثا، أن تنفيذ عملية إعادة نشر القوات سوف يتم عبر مدى زمنى طويل، يستغرق ما بين 4 إلى 6 سنوات حسب تصريحات رامسفيلد، وقد يصل إلى 10 سنوات كما ألمح الرئيس بوش.
معادلة الأمن
وبداية، فإنه على الرغم من أن المنطق السائد لدى بعض التيارات السياسية فى أقاليم كالشرق الأوسط يعتبر أن مثل تلك “القوات الأجنبية” تمثل مصدر تهديد وعامل عدم استقرار، وعلى الرغم من وجود اتجاهات معادية لتواجد تلك القوات فى بعض الدول ككوريا الجنوبية، فإن حكومات معظم الدول المعنية تنظر للقوات الأمريكية كعامل رئيسى فى معادلة الأمن المحيطة بها، على نحو يمكن أن يؤدى معه انسحابها إلى اختلالات حادة داخلها أو من حولها.
من جهة أخرى، هناك سيناريوهات محددة بشأن “الحالة الأسوأ”، تشير إلى ما يمكن أن يؤدى إليه انسحاب القوات الأمريكية من منطقة الخليج، أو من العراق أو أفغانستان، أو كوريا الجنوبية، أو اليابان، أو حتى الانسحاب السريع من دول مثل ألمانيا أو تركيا أو بريطانيا أو إيطاليا، أو من سيناء بين مصر وإسرائيل، فيما يعلق بالسلوكيات المحتملة لعواصم مثل طهران أو بيونج يانج، أو توجهات داخل الدول المشار إليها نفسها، أو بين بعضها البعض.
وقد أدت تلك السيناريوهات “السيئة” إلى إدخال تعديلات على خطة رامسفيلد – وولفوفيتز الأصلية الخاصة بسياسة أمريكا الدفاعية، لتصل إلى ما أعلن عنه الرئيس بوش قبل فترة قصيرة، والذى يتضمن فقط – إضافة إلى ماكان مفهوما بشأن قوات كوريا الجنوبية – مساسا حقيقيا بالقوات المتواجدة منذ حوالى 60 سنة داخل القواعد الألمانية، بعد مرور 15 عاما على نهاية الحرب الباردة، ومع ذلك أعربت ألمانيا عن قلقها، فهى لا تريد “مشاكل” مع نفسها أو مع الآخرين.
يضاف لذلك، أن المسألة برمتها لا تتضمن إنسحابا حقيقيا من مسرح العمليات الدولى، كما كان يطالب بذلك المحافظون الجدد خلال النصف الأول من عام 2001، قبل هجمات 11 سبتمبر، وإنما إعادة نشر للقوات، فى عدة دول داخل أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، مع الدفع ببعض العناصر إلى الشرق الأوسط، فى ظل تأكيدات رسمية أمريكية بأن العملية كلها لاترتبط بتوجه “إنعزالى” أو بالتخلى عن الالتزامات القائمة تجاه الحلفاء، وإنما بـ “عمل نشط لمواجهة مايسمى حروب القرن 21 بشكل مرن وسريع”.
إن إحدى النقاط المثيرة هنا هى أن عددا من قادة الحزب الديمقراطى قد عارضوا قرار إعادة انتشار القوات الأمريكية لأسباب – حسبما قالوا – إستراتيجية، وأن من رأوا أن القرار الأمريكى يتسم بطابع إيجابى، هم المسؤولون اليابانيون الذين أكدوا أن القرار لن يمس القوات المتواجدة فى أراضيهم بشكل جوهرى، في الوقت الذي يتوجسون فيه من تفاعلات مشكلة كوريا الشمالية، ووزير الدفاع الاسترالي (روبرت هيل) الذى يرى أن تلك الخطوة ستمكن الولايات المتحدة من التدخل بشكل أكثر فعالية في النزاعات الإقليمية، لمواجهة التهديدات الحقيقية، كالإرهاب وأسلحة التدمير الشامل، فالمسألة فى الحقيقة هى أشبه شيء بـ “تنشيط أكبر لقدرات التدخل الأمريكى”.
من بون إلى سول
يؤكد التيار السائد فى واشنطن على وجود ترتيبات محددة ترتبط بإعادة انتشار القوات، بما يضمن استمرار الالتزام الحفاظ على أمن الحلفاء فى أوروبا وآسيا، فالقواعد التى سيتم نشر القوات بها فى أوروبا الشرقية، (فى رومانيا وبلغاريا تحديدا) تضمن سرعة تحرك القوات نحو مناطق القتال المحتملة بأسلحة ذات تقنيات عالية، بما فيها المناطق التقليدية المحيطة بالقواعد التى سيتم الانسحاب منها فى ألمانيا، على نحو يترك احتمالات مفتوحة بشأن استمرار محتمل لدور عسكرى أمريكى فى أوروبا، لكن لم تطرح رغم ذلك أفكار حقيقية عما يجب أن تفعله ألمانيا، بما قد يثير مشكلة الأمن الأوروبى مرة أخرى، فلن تمر فترة قصيرة على الأرجح حتى تطرح مسألة السياسة الدفاعية الأوروبية، والقوة الأوروبية الموحدة، بما يحمله ذلك من احتمالات عسكرة الاتحاد الأوروبى بأكثر مما يحدث عمليا، أو مما كان بعض أطرافه يرغبون فيه.
لكن ما يبدو بوضوح هو أنه تتم ترتيبات محددة لأمن شرق آسيا، بعكس أوروبا، فهناك تأكيدات أمريكية على أن خفض ثلث قوات كوريا الجنوبية لن يتم بصورة تؤثر فى الردع الأمريكى، وأنه إعادة تنظيم أكثر منه إعادة انتشار، وقد تم ربط الخفض الحقيقى لتلك القوات بحل المشكلة القائمة مع بيونج يانج، كما تم اعتماد ما يبدو أنه خطط متطورة للتعامل مع كوريا الشمالية عسكريا فى حالة تدهور الأمور، مع إشارة إلى ضرورة أن يبدأ “الأصدقاء” فى تعزيز قدراتهم العسكرية الخاصة للدفاع عن أنفسهم، وهو ما أكدت سول أنها تفكر فيه، لكنها – حسب تصريحات مسؤوليها – ترغب فى اعتماد جدول زمنى طويل المدى لانسحاب القوات الأمريكية.
ثلاث نطاقات أمنية
لذلك يمكن القول أن الاتجاهات العامة لليوم التالى قد أصبحت واضحة نسبيا، فعلى الرغم من أن الاهتزازات الحادة أو الفراغات الواسعة ليست محتملة إلا أن هناك تغيرات قد تحدث، على المستويات التالية:
1 – “أمن الشرق الأوسط الكبير” الذى يشهد تهديدات. فسوف تبدأ القوات الأمريكية فى التمركز داخل مناطق آمنة على حدود الشرق الأوسط، فى إقليمى وسط آسيا وشرق أوروبا المجاورين والذين تبدو دولهما راغبة بشدة فى استضافة القوات الأمريكية، مع دفع القوات إلى مناطق القتال، كما حدث عمليا بنقل 12 ألف جندى تقريبا من كوريا الجنوبية إلى العراق، دون حاجة إلى توسيع القواعد الحالية داخل أراضي الدول العربية، وهو ما سيحول المنطقة شيئا فشيئا إلى مجرد “هدف” لا تشارك دوله كثيرا فى إدارة العمليات الجارية على مسرحه.
2 – “أمن شرق آسيا” الذى سيشهد فراغا جزئيا. وتبدو واشنطن مستعدة للحفاظ عليه على نحو ما تشير عملية تحريك سرب مقاتلات من طراز “أف-16 أى” من شبه جزيرة ألاسكا إلى كوريا الجنوبية، و نقل مقر فيلق الجيش الأميركي من مدينة فورت لويس إلى قاعدة زاما فى اليابان، وخطة التحرك السريع نحو الحدود مع كوريا الشمالية. لكن ثمة شروط بشأن المستقبل تتعلق بزيادة النفقات العسكرية الكورية الجنوبية، والمشاركة فى تمويل “التسوية” المحتملة مع بيونج يانج من جانب سول وطوكيو، وتعامل اليابان بجدية مع مسألة المشاركة فى مشروع الدرع الصاروخى الأمريكى.
3 – “أمن أوروبا” الذى سيشهد فراغا ما. فعلى الرغم من أن ألمانيا ستظل تستضيف، حتى بعد الانسحابات الأمريكية، أكبر قسم من القوات الأمريكية في أوروبا، واستمرار وجود القوات المنسحبة فى الجوار، مع بقائها دون تعديل فى بريطانيا وأيرلندا وهولندا وبلجيكا واسبانيا والبرتغال واليونان وإيطاليا وتركيا، سوف تبدأ “نفسية الفراغ” فى التفاعل على الساحة الأوروبية، لتعيد كافة الأفكار الخاصة، بالمصادر المحتملة لتهديد أمن القارة الأوروبية، وتحديات مابعد الوجود الأمريكى، وتشكيل القوة الأوروبية الموحدة، والنقاش حول دور الناتو، وكيفية صياغة العلاقة مع روسيا الاتحادية التى لاتبدو منزعجة من عملية إعادة الانتشار الامريكى، كما قد تبدأ ملاحظة عن قرب لردود فعل ألمانيا.
وفي المحصلة، يمكن القول أنه، على الرغم مما يبدو من أن القرار الأمريكى بإعادة نشر القوات حول العالم، لن يؤدى إلى تأثيرات جوهرية، إلا أنه سيفتح الطريق بوجه احتمالات مختلفة، لن تترك خريطة العالم العسكرية – كما تمت الإشارة فى البداية – على ما كانت عليه من قبل، فالمشكلة أعقد مما تبدو عليه، وسوف تتضح أبعادها مع الوقت.
د. محمد عبد السلام – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.