ماذا بعد انتخاب عبد الله غُـل رئيسا لتركيا؟
انتخبت تركيا يوم الثلاثاء 28 أغسطس 2007 عبد الله غل رئيسا جديدا للجمهورية، بعد تعثر ذلك في الربيع الماضي. غير أن لهذا الحدث طعْـما مُـختلفا جدا هذه المرة.
فالرئيس الجديد ليس كأي رئيس آخر، فهو في جذوره إسلامي بامتياز ولا ينتمي إلى الخط العِـلماني بمَـعناه التقليدي في تركيا.
إنه عبدالله غُـل، ابن العائلة المحافظة في مدينة قيصري، وسليل الخط الإسلامي الذي أسسه نجم الدين أربكان.
وإذا كان غُـل قد اكتسب أو تعلَّـم من التجربة المُرّة للحركة الإسلامية مع النظام العِـلماني، تماما مثل زعيم حزبه رجب طيب اردوغان، واعتمد نهجا مُـعتدلا جدا مع مراكز القوى العِـلمانية، وأعلن أنه متمسك بثوابت الدستور، إلا أنه سيبقى ذلك الإسلامي الذي ترتدي زوجته الحجاب، والذي سيسعى لمنح المجتمع المزيد من الحريات الدِّينية.
وصل غُـل إلى رئاسة الجمهورية في تصديق للانتصار التاريخي لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية يوم 22 يوليو الماضي.
مُـجرد أن يكون التصويت لحزب العدالة والتنمية انتقاما من عرقلة الجيش لوصول غُـل إلى الرئاسة في 27 أبريل الماضي كافٍ لتوقع طبيعة المرحلة المقبلة من العلاقة بين غُـل ومؤسسات النظام، والتي عبَّـرت عن نفسها بوضوح بعدم مشاركة قادة الجيش في حفل تنصيب رئيسهم الأعلى، حسب الدستور الذي هو رئيس الجمهورية.
بعدما أصبح انتخاب غُـل واقعا رسميا، فإن السؤال الأساسي هو: ماذا بعد انتخاب غُـل؟
الإجابة مُـعقَّـدة ومُـتشعِّـبة، ولكن يُـمكن البدء من النقطة الأكثر حساسية، وهي العلاقة مع المؤسسة العسكرية.
الجيش التركي و”الخطر الإسلامي”
فبإسم الصلاحيات التي يمنحها له الدستور والقوانين، سيما قانون المهام الداخلية للعسكر، يتمسَّـك الجيش التركي بدوره في مراقبة النظام وحماية العِـلمانية من أي خطر. وقد صنّـف الجيش دائما “الرِّجعية” الإسلامية الخطر الأول على النظام.
وتدخَّـل الجيش مرّتين في الآونة الأخيرة، مرة في 27 أبريل الماضي، عندما أشار في بيان له على قلقه الشديد من الظروف المُـحيطة بانتخابات الرئاسة والمهدّدة للعلمانية، ومرة ثانية قبل يوم واحد من انتخاب غُـل للرئاسة، في بيان صدر مساء 27 أغسطس، وكرّر العبارات نفسها مع إضافة وجود مخططات سرية لهدم العِـلمانية والديمقراطية.
من هنا، يُـتوقَّـع أن تكون العلاقة بين غُـل وحزب العدالة والتنمية عموما، ممتلئة بالشكوك، إذا لم يستوعب الجيش الحقائق الجديدة وبقي عند “ثوابته” المستمرة منذ عقود، والتي لم تجلب لتركيا إلا التوترات الأيديولوجية والعرقية. وقد لا يتردد الجيش في القيام بما تمليه عليه القوانين في حماية العِـلمانية في وجه “الخطر” الإسلامي.
وإذا كانت نتائج انتخابات يوليو الماضي كابحا للجيش لعدم القيام بانقلاب عسكري فوري، فإن بيان 27 أبريل، ثم بيان 27 أغسطس كافِـيان للقول إن دم الجيش يَـغلي في انتظار اللَّـحظة المناسبة، ولن يتردّد في قلب الأوضاع، ولو وصل التأييد لحزب العدالة والتنمية إلى ذِروته.
مشروع دستور جديد يفكك “الدولة العميقة”
تحمِـل المرحلة الجديدة في تركيا عنوانا أساسيا، وهو إعداد دستور جديد عصري، وقد ورَد ذلك في برنامج حزب العدالة والتنمية الانتخابي.
وبالفعل، ما أن انتهت الانتخابات حتى شكّـل الحزب لجنة من كِـبار الحقوقيين من الحزب ومن خارجه، برئاسة الحقوقي البارز ارغون اوزبودن، الاستاذ بجامعة بيلكنت، لإعداد مشروع الدستور الجديد المتوقّـع أن ينتهي إعداده وعرضه للنقاش على مختلف فئات المجتمع في نهاية شهر سبتمبر 2007، على أن يناقش ويُـصوَّت عليه في البرلمان، قبل أن يُـطرح على استفتاء شعبي غير مُـلزم. ولكن حزب العدالة والتنمية يريد أن يُـكسِـبه مشروعية شعبية ليكون بذلك أول دستور يُـعدّه مدنيون وليس العسكر، كما حدث مع دستوري 1961 و1982، اللذين جاءا إثر انقلابين عسكريين، عامي 1960 و1980.
مشروع الدستور الجديد بمثابة ثورة ثانية قد تطيح بمُـعظم معالم الدساتير السابقة، وتضع تركيا على سكَّـة التطور والنُّـظم المعاصرة والمُـنسجمة، تحديدا مع معايير الاتحاد الأوروبي.
ومن أبرز عناوين الدستور الجديد، إلغاء مجلس الأمن القومي كمؤسسة دستورية وتحويله إلى هيئة ينتظم عملها وصلاحياتها بموجب قانون يصدُر لاحقا، وليس كمادة في الدستور، وهذه خطوة مهمَّـة جدا على صعيد تقليص دور الجيش في السياسة والتذرع بالدستور، غير أن أي إشارة لم تَـرد بعدُ بالنِّـسبة للمادة 35 من نظام المَـهام الداخلية للجيش.
صحيح أن هذه المادة ليست موجودة في الدستور، لكنها تشكِّـل أساس التدخُّـل العسكري في السياسة. ويبدو من تسريبات مشروع الدستور الجديد، أن حزب العدالة والتنمية مصمِّـم على تفكيك هيكل “الدولة العميقة” من خلال:
• إلغاء مجلس التعليم العالي الذي يُـسيطر على كل الجامعات، وتشكيل هيئة من رؤساء الجامعات تتولَّـى الأمر.
• تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، مثل إلغاء حقه في تعيين موظفين في مواقع مختلفة من قُـضاة المحكمة الدستورية ومجلس التعليم العالي، والاكتفاء بتعيينه للمُـحافظين والسفراء.
• مضاعفة قُـضاة المحكمة الدستورية وتعيين قسم منهم من قِـبل البرلمان (الآن رئيس الجمهورية يُـعيِّـن الجميع)، واتخاذ القرارات بأكثرية الثلثين، وليس بالغالبية المطلقة، كما هو الآن.
• حق الضبَّـاط المفصولين من الجيش استئناف الحُـكم الصادر بحقِّـهم أمام محاكم أخرى، وهذا ممنوع حاليا بصورة حوّلت الجيش إلى دولة داخل الدولة، وغالبا ما أثار ذلك خِـلافات بين رئيس الحكومة ورئاسة أركان الجيش.
• انتخاب الرئيس من الشعب، وهذا يُـخرج البرلمان من أن يكون أداة طيعة لضغوطات العسكر التي لن يكون بإمكانها فعل أي شيء تُـجاه عشرات الملايين من الناخبين.
الثنائي “أوردوغان – غُـل” وتحديات التغيير
وتتباين المعلومات عمَّـا إذا كان الدستور الجديد سيتضمَّـن نصًّـا ما حول قضية الحِـجاب، يُـتيح دخول المحجَّـبات إلى الجامعات. والبعض يقول، إن ذلك تفصيل لا يُـمكن لدستور أن يتضمنه، بل سيتحدّد بقانون، عِـلما أن المؤكد أن منع ارتداء الحجاب لموظفي الدولة، سيستمر ولن يخضع لأي تعديل.
والأهم من تعديل هيكليات بعض المؤسسات الصلاحيات التي ستملكها والمرجعيات التي ستحكم عملها. وفي هذا الإطار، علم أن مرجعية المحكمة الدستورية وكل المؤسسات القضائية الأخرى ستكون الاتفاقية الأوروبية لحقوق الانسان.
وقد تتحوّل النقطة المتعلقة بالهويات الثقافية إلى تفجير للدستور الجديد، حيث أن مشروع الدستور الجديد يلحَـظ إمكانية التعلُّـم بلغة أخرى غير التركية عند الضرورة، ووِفق قانون يُـعدّ لذلك، مع الإبقاء على اللغة التركية، اللغة الرسمية الوحيدة للدولة. ويستفاد من هذه التعديلات، أن الطريق ستكون مفتوحة أمام التعلُّـم باللغة الكردية.
وبمُـوازاة ذلك، قد يتم إلغاء مُـصطلحات واردة في مقدمة الدستور اعتبرها مُـعِـدّو الدستور الجديد “مُـبهمة”، مثل “الوجود التركي” و”مصالح الأمَّـة التركية”.
ويلحظ مشروع الدستور الجديد منح رئيس الجمهورية حصانة تُـجاه أية تهم شخصية، وهو ما لم يكُـن يلحظه دستورا 1961 و1982، واعتُـبِـر ثغرة دستورية، بينما كان دستور 1924 يلحظ ذلك. وقد فسّر البعض هذه النقطة بأنها خاصة بعبدالله غُـل شخصيا، المتهم مع آخرين باختلاس أموال، عندما كان في حزب الرَّفاه. وقد أعلن غُـل قبل أيام، عندما أثيرت هذه النقطة، بأنه ليس عنده ما يخشاه، وهو مستعد لمواجهة القضاء، حتى لو كان الدستور، في حال ما عُـدّل، يحمِـيه من ذلك.
دستور جديد مُـختصر ومنسجِـم مع معايير الاتحاد الأوروبي، وينقل تركيا من مرحلة “الدولة العميقة” إلى مرحلة دولة أكثر حرية وديمقراطية وعدلا واحتراما لحقوق الانسان.
هذا هو جوهر الصِّـراع الذي بدأ في عام 2002 بين مشروع الدولة العميقة، ومشروع حزب العدالة والتنمية. وانتخاب عبدالله غُـل لرئاسة الجمهورية، خطوة نوعية لترجيح المشروع الثاني. فهل ينجح الثنائي اردوغان – غُـل في هذا التحدي؟
د. محمد نور الدين – بيروت
أنقرة (رويترز) – أدّى وزير الخارجية عبد الله غُـل اليمين رئيسا لتركيا يوم الثلاثاء 28 أغسطس، على الرغم من اعتراضات الجيش، الذي يخشى من خراب النظام العِـلماني في البلاد على يد الإسلامي السابق.
وغُـل، الذي يتمتع بدعم شعبي، هو أول سياسي له خلفية سياسية إسلامية، يفوز بهذا المنصب المهم في تاريخ تركيا الحديث.وبالمقارنة مع حفلات تنصيب أخرى، لم يحضر كبار قادة الجيش وبعض أفراد النُّـخبة العِـلمانية وحزب الشعب الجمهوري، حفل تنصيب غُـل.
وقال قائد القوات المسلحة يشار بويوكانيت يوم الاثنين 27 أغسطس، إنه يرى “مراكز الشر” تسعى لتقويض الجمهورية العِـلمانية، وذلك تصريح مفاده أن الجيش لن يقف على الهامش، إذا رأى تهديدا لمبدإ الفصل بين الدولة والدِّين. وتعهَّـد عبد الله غُـل بالمحافظة على النظام العِـلماني، الذي قال إنه يكفَـل أيضا حُـرية الدِّين.
وفاز غُـل في جولة التصويت الثالثة في البرلمان يوم الثلاثاء 28 أغسطس 2007. وقال في كلمة تنصيبه، بعدما أدى اليمين ليكون الرئيس الحادي عشر لتركيا، “ما دمت في المنصب.. سأتعامل مع جميع المواطنين دُونما أي تمييز”. وتوجَّـه عدّة مئات من العِـلمانيين إلى قصر الرئاسة للاحتجاج على تنصيب غُـل. وأثبت غُـل أنه دبلوماسي، له احترامه منذ انتخاب حزب العدالة والتنمية لأول مرة في عام 2002 وتمكَّـن من تدشين محادثات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
ويرتاب الجيش في أن غُـل وحزب العدالة والتنمية، لديه أجندة إسلامية سرية.
وفوز غُـل انتصار لحزب العدالة والتنمية الحاكم، بعد جهود من جانب النخبة العلمانية دعمها الجيش لعرقلة فوزه في الرئاسة. وأدت تلك الجهود لانتخابات برلمانية في يوليو الماضي، حقق فيها حزب العدالة والتنمية فوزا كبيرا. ويَـتوقَّـع كثير من المراقبين أن يحاول غُـل، الذي انشقَّ عن حزب إسلامي في عام 1999، تجنُّـب أي مواجهة.
وقال جنكيز جندار، الأكاديمي والخبير في شؤون الشرق الأوسط “يجب ألا تتوقع خطوات راديكالية حين يصبح غُـل رئيسا. معارضوه الذين يخشون أن يفعل سيدهشون، وأيضا مؤيِّـدوه الذين يأملون في خطوات راديكالية سيُـخيِّـب أملهم”.
وتأثرت أسواق المال التركية جرّاء تراجع الأسواق العالمية، وتضررت بسبب بيان الجيش، ولم تظهر اللِّـيرة تأثرا يُـذكر عقِـب التصويت، ولكنها تراجعت إلى 1.3290 أمام الدولار.
وقال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يوم الثلاثاء 28 أغسطس، إنه يتوقع أن يقدم حكومته الإصلاحية الجديدة يوم الأربعاء 29 أغسطس إلى حليفه الوثيق غُـل للمُـصادقة عليها.
وترتاب النخبة العلمانية والجيش، الذي أطاح بأربع حكومات منذ عام 1960 في غُـل لماضيه الإسلامي، ومعارضتهما له لا تزال قوية، فيما يعود جُـزئيا إلى ارتداء زوجته للحِـجاب، الذي يعتبره العِـلمانيون رمزا دينيا استفزازيا، ويخشون من ظهوره في الاحتفالات الرسمية في قصر الرئاسة التركي، والحجاب محظور في المصالح العامة التركية. والحجاب، هو لكثيرين رمز لهيمنة الدِّين، التي قضى عليها مصطفى كمال أتاتورك، الزعيم العِـلماني ومؤسس تركيا الحديثة.
ونسبت وكالة أنباء الأناضول إلى محمد عمر ابن غُـل قوله “أمِّـي لن تحضر” إلى البرلمان، في إشارة إلى أن زوجة غُـل، خير النساء، تسعى لتجنب وقوع إشكال.
وأجرت صحيفة ميليت مسحا، أظهر أن 72.6% ممَّـن شاركوا فيه، يعتبرون أن من “العادي” أن تقف زوجة الرئيس مُـرتدية حِـجابا، ورأى 19،8%، أنهم لن يكونوا مُـرتاحين لذلك.
وواجهت تركيا فوضى سياسية منذ شهر أبريل، حينما رشح حزب العدالة والتنمية غُـل لمنصب الرئيس لأول مرة.وقال توم كيسي، المتحدث باسم الخارجية الأمريكية “نرحب بهذه الممارسة ضمن الديمقراطية التركية، إن ذلك استمرار لنهج التطور الديمقراطي في ذلك البلد”.
وتحرك حزب العدالة والتنمية تدريجيا إلى موقع الوسط في السياسة التركية، وبانتخاب غُـل يكون الحزب قد سيطَـر على جميع مناصب الدولة الكبرى. وفي تركيا، تسيطر الحكومة على معظم السلطات، ولكن بمقدور الرئيس أن ينقض القوانين وينقض تعيين المسؤولين ويُـرشح القضاة.
وقال غُـل واردوغان، اللذان انشقا عن الإسلام السياسي، انهنا مُـواليان للعِـلمانية، وأن فوز حزبهما الكاسح في يوليو الماضي، يُـعطي غُـل سلطات رئاسية قوية.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 28 أغسطس 2007)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.