ماذا ستفعل القوات الأمريكية فى العراق؟
لم يكن مفاجئا أن يعلن الجنرال ريتشارد مايرز رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة "أن 145 ألف جندي سيبقون في العراق لمدة خمس سنوات من الآن على الأقل"، فقد كان معروفا أن القوات ستبقى، وأن ذلك سيستمر لمدة طويلة.
لكن يظل السؤال هو: ما الذي ستفعله هذه القوات خلال تلك الفترة في العراق؟
إن أهمية هذا السؤال تأتى من ارتباطه بمسألة “السيادة”، فمن المؤكد أن عملية نقل سلطة قد جرت في العراق، لكن الدور الذي ستمارسه هذه القوات بشكل مباشر أو غير مباشر هو الذي سيحدد إلى أي مدى حصل العراق على سيادته عمليا.
إن القاعدة الأساسية هي أن تواجد القوات الدولية داخل الدول لا يعني بالضرورة فقدان السيادة، فالقوات الأمريكية تحديدا تتواجد – بأعداد تتجاوز 35 ألف جندي أحيانا – استنادا على معاهدات دفاعية، داخل دول مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية واليابان وبريطانيا وإيطاليا وتركيا، دون أن يؤثر ذلك على سياساتها الداخلية أو الخارجية، بما في ذلك مواقف محددة تجاه السياسة الأمريكية ذاتها.
وتنتشر قواعد وتسهيلات “القيادة المركزية” داخل ما يزيد عن 63 موقعا عسكريا في 11 دولة من دول الشرق الأوسط “الكبير”، دون أن تتدخل بشكل محدد في الشئون الداخلية للدول، بل أنه في حالة السعودية، تم الاتفاق على خروج تلك القوات من المملكة بهدوء، على الرغم مما يفترض من أن الأمريكيين لم يكونوا راغبين في ذلك.
لكن العراق يظل “حالة خاصة “، فقد تم استهدافه – حسب تعبيرات القانون الجنائي – مع سبق الإصرار والترصد، وتم غزوه وإسقاط نظامه واحتلاله وإدارته في ظل أهداف لا يزال ثمة جدل حولها، لكنها يقينا لم تكن مجرد إفرازا آليا لفائض قوة أمريكية تبحث عن هدف.
حالة خاصة
ولذلك فإن استمرار مستوى من السيطرة عليه يمثل سمة أساسية في تلك الحالة، لكن هناك أيضا حكومة عراقية جديدة لديها توجهاتها وتقديراتها ومشاكلها الخاصة. وبالتالي فإن أوضاع ما بعد نقل السلطة لن تكون مجرد استمرار لما كانت عليه قبلها، إلا أنها لن تشكل مرحلة جديدة تماما بالصورة التي يتم الحديث عنها، فهناك عاملين أساسيين :
الأول، النفوذ السياسي للولايات المتحدة في العراق، فعلى الرغم من رحيل الحاكم المدني، بقى هناك جيش من المدنيين الأمريكيين، يشكلون ما أصبح يعتبر أكبر سفارة أمريكية في العالم، ويشار هنا إلى رقم 4000 شخص، يعملون كدبلوماسيين أو مستشارين في الوزارات، ومن الممكن أن يشهد العراق وضعا يشبه ما حدث في مصر بعد استقلالها عام 1923 عندما ظلت ” السفارة البريطانية” لاعبا رئيسيا في الحياة السياسية.
لكن ظروف العراق الداخلية تتسم بتعقيدات غير مسبوقة، وتحتاج أي حكومة فيه إلى مستوى من حرية التصرف، خاصة في ظل وجود أزمة شرعية حادة، وبالتالي لن تصبح مجرد ” دمية أمريكية”.
إلا أن ثمن الاستقلالية سيكون كبيرا، في ظل تحكم السفارة في 18.6 مليار من ميزانية الدولة، لذا سوف يسود غالبا منطق الحل الوسط في حالة حدوث خلافات، فكل طرف يحتاج الآخر بقدر حاجة الآخر إليه.
الثاني، الوجود العسكري للولايات المتحدة في العراق، فهناك جيش أمريكي كامل يتمركز داخل العراق، في ظل سياسة معلنة بأن تلك القوات “ستبقى في العراق ما دام ذلك مطلوبا”، مع قبول من جانب الحكومة العراقية المؤقتة لذلك.
فحسب تعبيرات رئيس الدولة غازى الياور – في إشارته إلى تلك القوات – إن “السيادة الكاملة لا تعني أن نكون متهورين أو انتحاريين، علينا أن نكون عمليين”، مع عدم اهتمام عراقي حقيقي بما يثار في القنوات الفضائية العربية بشأن تلك القوات، بل ونزعة حادة تجاه ما سيعتبر فيما بعد أي تدخل في شئون العراق من جانب الدول العربية، كما توضح تصريحات رئيس الوزراء إياد علاوى.
قواعد الاشتباك
وفى الواقع، يبدو أن محاولات جادة قد تمت لترتيب الأوضاع العملياتية لتلك القوات، فعلى الرغم من أن الحكومة المؤقتة لا تمتلك صلاحيات توقيع معاهدة تعاون دفاعي طويلة المدى، إلا أن قواعد محددة قد وضعت في نص قرار مجلس الأمن رقم 1546 وفى التوافقات الأمريكية – العراقية التي رافقت تسليم السلطة، تتيح للحكومة حق تجديد بقاء أو طلب خروج تلك القوات من العراق.
كما تتيح لها حق الفيتو (الاعتراض) في مجلس الأمن القومي، الذي سيرأسه عراقي، ويشارك فيه جنرالات أمريكيون وبريطانيون، وهو المجلس الذي يمثل القيادة التي يفترض أن يتم من خلالها اتخاذ القرارات الرئيسية المتعلقة بعمليات القوات “متعددة الجنسيات”، عبر آلية تركز عليها تصريحات الطرفين كثيرا وهى “التشاور والتنسيق” اليوميين.
إن ما يبدو ظاهريا هو أن هناك “قيادة مشتركة” تم تشكيلها على غرار قيادات الأحلاف الدفاعية كحلف الناتو أو الائتلافات العسكرية كما حدث في حرب الخليج الثانية (1991)، لكن ثمة تعقيدات عملية لن يتضح كيف سيتم التعامل معها إلا بمرور الوقت.
فتقاليد عمل القوات الأمريكية تقتضي أن لا تخضع لقيادة غير أمريكية، وبالتالي فإن القيادات العسكرية الأمريكية هي التي ستحدد مهام قواتها، لكن سيظل للقيادة العراقية حق الاعتراض على بعض المهام التي تم تعريفها بأنها “العمليات العسكرية واسعة النطاق”، التي يمكن أن تؤدى إلى تداعيات سياسية، وعادة ما يشار هنا إلى نموذج “ضرب الفلوجة”، والمسألة لا تتعلق هنا بالاعتراض على العمليات وإنما بضرورة الموافقة عليها قبل شنها، بافتراض أن القيادات العراقية ذاتها هي التي لم تبادر بطلب القيام بها، أما المهام الأخرى، فإنه سيتم التفاهم حولها يوما بيوم.
في هذا الإطار، يفترض أن تبدأ القوات الأمريكية عملية إعادة انتشار واسعة النطاق خارج المدن والشوارع العراقية، لتقليص الاحتكاكات مع السكان، وذلك بإقامة مناطق تمركز أشبه بقواعد عسكرية صغيرة في قطاعات العراق المختلفة في إطار مهام أمنية، أو بالقرب من الحدود في إطار مهام دفاعية، وسوف تحل محلها تدريجيا قوات عراقية.
ويفترض أن القوات الأمريكية ستكون راغبة في ذلك، فمتابعة التقارير الخاصة باستدعاء جنود الاحتياط بشكل إلزامي توضح حجم الإرهاق الذي لحق بالقوات العاملة في العراق، كما أن تصريحات الجنرال كيسى القائد الجديد لها توحي بأنه يتفهم الاعتبارات السياسية، فهو يقرر “أن القوة العسكرية لا تكفي للقضاء على عمليات المقاومة في العراق، وأن على الحكومة الانتقالية أن تعمل على كسب تأييد الشعب العراقي للحد من عمليات المقاومة، وهو على أي حال ما تمت تجربته “أمريكيا” في الفلوجة والنجف.
العراق .. “حالة خاصة”..
لكن المشكلات قد تأتي من أبواب أخرى. فمن الواضح أن عملية تشكيل الجيش العراقي تقترب بشدة من إعادة إدماج عناصر من ” قوات صدام” في الجيش الجديد، كما أن سياسات استمالة السنة العرب قد تصل إلى حدود تثير قلق الأمريكيين، وأحيانا تصدر تصريحات أمريكية تطالب الحكومة العراقية بالتعامل بصرامة مع ما يسمى التهديدات الإرهابية.
كما أن أخطاء عملياتية كبرى قد تحدث مسببة حرجا شديدا للطرفين، وهى كلها من نوعية القضايا التي ستتطلب – كما تمت الإشارة – حلول وسط حقيقية، لن تكون الحكومة العراقية بدون أوراق قوة في إطارها. إذ تكفى تصريحات معلنة تشير إلى وجود ضغط أمريكي أو تهديدات بالاستقالة لكي تسبب حرجا للإدارة الأمريكية، فالطرفان يدركان أنهما يواجهان مشكلة واحدة و أن التهديد الحقيقي لهما لا يأتي من داخل “القيادة المشتركة”.
تظل هناك بعض القضايا المتعلقة بما يسمى دور الجيش في السياسة، وليس في الأمن أو الدفاع، فليس واضحا حتى الآن، كيف سيكون تأثير وجود القوات الأمريكية في حالة اتجاه القيادة العراقية إلى اتخاذ قرارات كبرى غير عسكرية، كإلغاء بعض القرارات أو القوانين التي ُسنت في ظل حكم بول بريمر بشأن المستثمرين أو المتعاقدين أو الحصانات القضائية، أو اتجاه حكومة علاوى ذاتها إلى ممارسة مستوى استثنائي من العنف داخل العراق، فهل سيفكر أيا من الطرفين في القوات المسلحة إذا نشبت خلافات سياسية؟
إن المسألة كلها لا تزال في بدايتها، خاصة وأن الوضع العسكري على الأرض سوف يتغير مع الوقت، مع تزايد عدد القوات العراقية المتوقع له أن يصل إلى 125 ألف جندي، وربما وصول قوات دولية أو عربية أخرى إلى العراق، لكن ما قد يوضح المسار الذي ستتخذه الأمور أكثر من كل ذلك هو مستقبل الوضع الأمني في العراق.
فهناك سيناريوهات معقدة تتعلق بأوضاع القوات الأمريكية قد تظهر إذا تصاعد العنف، وسيناريوهات قد لا تقل تعقيدا قد تظهر أيضا إذا توقف العنف، فالتجربة غالبا سوف تختلف عما حدث في ألمانيا أو اليابان أو البوسنة أو الكوسوفو أو أفغانستان، إذ أن العراق قد أثبت حتى الآن أنه “حالة خاصة”، و قد يستمر كذلك.
د. محمد عبد السلام – واشنطن.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.