ماذا وراء انهيار النظام العراقي؟
على عكس ما كان متوقعا، جاء دخول الدبابات الأمريكية إلى بغداد صباح التاسع من أبريل دون معركة تذكر.
وبينما كان المتوقع أن تصمد بغداد، باعتبارها العاصمة والرمز الأكبر للبلاد عدة أيام أخرى، إن لم نقل أسابيع، فإذا بها تتحول إلى أسهل خطوة في الحملة العسكرية البريطانية الأمريكية
بينما كان الجزء الشرقي من بغداد، بما فيه مطار صدام الذي صار بحكم الأمر الواقع مطار بغداد الدولي، قد شهد معارك مختلفة على مدى أربعة أيام سابقة، دلت على قدر من المقاومة العراقية، بعضها منظم نسبيا، والآخر عشوائي إلى حد ما.
والمقارنة وحدها بين صمود البصرة ثاني أكبر مدن العراق ذات المليون ونصف نسمة، الذي استمر ثمانية عشر يوما، ناهيك عن صمود مدن أقل كثافة كالحلة التي ما زالت المقاومة مستمرة فيها، إضافة إلى قرى نائية لأيام طويلة أمام جحافل القوات الأمريكية والبريطانية، مقارنة مع انهيار وسط بغداد شرقها وغربها في أقل من أربعة أيام توضح أمورا عدة، كما تثير أسئلة وألغازا عدة يصعب الإجابة على بعضها، في انتظار ما تحويه الأيام المقبلة من تفاصيل وخبايا.
انهيار سريع .. لماذا؟
الانهيار السريع له أسباب كثيرة، عسكرية ونفسية وسياسية. فالدفاعات حول بغداد، وكما دلت وقائع معركة المطار، لم تكن دفاعات عسكرية تقليدية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإنما كانت مجرد نطاقات غير محددة المعالم اعتمدت على ردود الفعل أكثر منها على عملية دفاع محكم ومنظم ومرتب سلفا، فيما ظهر أن التفكير العسكري العراقي لم يكن واعيا بما فيه الكفاية لاحتمالات حصار العاصمة، والسبل المحتمل أن تسلكها القوات الغازية، وبالتالي، لم يكن مستعدا للدفاع المناسب بما في ذلك السيطرة على المحاور الرئيسية للطرق أو السيطرة على الجسور أو حتى تفجير بعضها مسبقا، الأمر الذي أتاح حرية حركة غير مسبوقة للقوات الأمريكية من غرب وجنوب ووسط العاصمة بغداد على نحو لم يكن متصورا.
وفى السياق نفسه، لا يمكن تجاهل الفجوة الهائلة في الإمكانات التسليحية وقدرات الاتصال الحديث، ونظرة بسيطة على الجندي العراقي من حيث لباسه العسكري وما يحمله من سلاح بائس، مقارنة بملابس الميدان والتسليح الذي يحمله الجندي الأمريكي والبريطاني، تكشف بدورها عن الفارق الهائل لإمكانات الطرفين المتحاربين. إضافة إلى السيطرة الجوية الكاملة للقوات الغازية، وما أتاح لها دك مواقع الدفاعات العراقية حول بغداد، وشل حركتها.
جاء ذلك على خلفية البلبلة وانهيار المعنويات الشعبية الذي ساد العاصمة على نحو هائل، وساهم اختفاء الرئيس صدام فعليا عن الساحة ومعه كبار رموز النظام في تأكيد أن قدرات الحكم باتت في حكم المنتهية، خاصة وأن آلة الحرب النفسية الهائلة التي حركتها الولايات المتحدة وبريطانيا، كانت قد هيمنت على الذهنية الجماعية للعراقيين، مدنيين وعسكريين معا، ولم يكن لمؤسسات النظام المنهارة إعلاميا وسياسيا القدرة على تحييد تلك التأثيرات، بل أن الأداء الإعلامي في الأسبوع الأخير، كما أظهرته تصريحات وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف وانقطاع البث الإذاعي والتليفزيوني العادي والفضائي، أثبت انفلات الأمور من أصابع النظام وكل مؤسساته السياسية والأمنية على نحو هائل.
هل هناك خدعة؟
هذه الأسباب العامة لسيطرة القوات الأمريكية على وسط العاصمة شرقها وغربها، ومن ثم قلب كافة الموازين والحسابات السياسية، لا تجيب على بعض الأمور التي تفرض نفسها على الذهن، لاسيما ما تعلق بالاختفاء شبه المنظم لكافة مظاهر المقاومة العراقية مساء الثامن من أبريل، سواء ما قيل عن وحدات الحرس الجمهوري أو القوات شبه النظامية أو تلك التابعة لحزب البعث، وأيضا اختفاء رموز النظام أنفسهم على نحو مريب وفي صورة تبدو مرتبة إلى حد كبير، وكذلك اختفاء كل ما له صلة بضبط حركة الشارع العادية في بغداد. كما لم يثبت وجود بقايا من آليات وأسلحة يمكن أن يستدل بها على حدوث معركة ما سبقت هذا الاختفاء المريب، والذي يعكس وجود دائرة معينة من مؤسسات النظام ما زالت تعمل بكفاءة فيما بينها.
وهنا تتوارد على الذهن ألغاز كبرى. فهل تم تسليم وسط العاصمة مثلا، أم أن هناك خدعة ما؟ أم أن الوضع في وسط بغداد يختلف عنه في أماكن أخرى، كشمالها مثلا الذي ظلت تُسمع فيه طلقات وتبادل متقطع للنار طوال اليوم نفسه؟ أم تلك الحركة التي قام بها الرئيس صدام والمقربين منه هدفت إلى إغراق بغداد في حال من الفوضى المتعمدة، لعلها تساعده على فتح جبهة لتوريط القوات الأمريكية، أم هناك احتمال استخدام أسلحة غير تقليدية؟ أسئلة كثيرة يصعب إيراد إجابات مرضية عنها. وإن كان يمكن سرد بعض الافتراضات النظرية أكثر منها حقائق مؤكدة.
الصفقة .. من مع من؟
التفسير الأول قوامه وجود صفقة ما. وهذه لها شكلان، إما صفقة مع صدام نفسه بفرض وجوده على قيد الحياة، حيث تضمن له ملجأ آمنا له وللمقربين منه بعيدا عن المحاكمة الجنائية، على أن يتم دخول بغداد بدون معركة أو أي نوع من المقاومة، وبما يحفظ حياة ما بقي من القوات والمواطنين العاديين.
أما الشكل الآخر للصفقة، أنها تمت بدون صدام نفسه، على فرض تعرضه للقتل بفعل الصواريخ الموجهة وفق معلومات تم تسريبها بدقة شديدة، أو بفرض اغتياله على يد مقربين منه، رأوا أن حياة صدام لم تعد تساوي شيئا، وأنها تمثل عبئا بات ثقيلا على البلاد والعباد معا.
ويذكر هنا أن مصادر استخباراتية روسية أشارت إلى وجود صفقة معينة، لكن المتحدث الأمريكي للبيت الأبيض نفى ذلك، واعتبرها إشاعة، بما في ذلك إشاعة أن يكون صدام في السفارة الروسية في بغداد.
إن أهمية تفسير افتراض الصفقة في كونها تستقطب بعض عناصر سنية بارزة من تلك المحيطة بالنظام المنهار، ويمكنها أن تجعل معركة بغداد بدون ثمن عسكري ولكن بعائد سياسي ورمزي هائل، على أن يُسمح لها بالتعبير الرمزي والتمثيل السياسي في إدارة انتقالية مؤقتة، الأمر الذي يوفر نوعا من الشرعية ما زالت مفتقدة بكل المقاييس لعملية الحرب ذاتها ولنتائجها.
اختفاء قسري ومقاومة مؤجلة؟
التفسير الثاني يقوم على افتراض الهروب والاختفاء، وهذا أيضا له شقان. أولهما، الهروب من أجل المقاومة لاحقا مع من بقى من القوات المناصرة للقائد أو المؤمنة به أو المرتبطة به مصيريا، على أمل إعادة تنظيمهم والشروع في معركة ما في المستقبل ضد قوات الاحتلال.
أما الثاني، فهو الهروب من أجل الاختفاء الشخصي لحماية النفس وإبقاء الأسطورة القيادية حية على نحو أو آخر.
افتراض الهروب بشقيه يتطلب من الناحية الجغرافية والسكانية والقرابية والعشائرية عمقا جغرافيا يقدر على توفير متطلبات الحماية والالتفاف، والقدرة لاحقا على الحركة المضادة ضد القوات المحتلة. وهذا العمق متوفر نظريا في وسط العراق السني بقبائله وعشائره التي استند إليها النظام “الصدامي البعثي”، لاسيما في السنوات العشر الماضية. لكنه من الناحية العملية، يصطدم بالكثير من الصعوبات، خاصة وأن فارق الإمكانات يبدو عاملا حيويا، ولا مجال لرأبه بسرعة مناسبة.
وتبدو هنا مدينة تكريت الأكثر تأهلا على أن تكون مقرا للمقاومة الجديدة وأن تصبح ملجأ للاختفاء القسري، لكن معرفة الجميع بهذا الاحتمال تجعل منها هدفا سهلا ومباشرا للضربات الجوية الأمريكية والبريطانية، وهو ما حدث بالفعل في التاسع من أبريل، وأشار إليه المتحدث باسم القيادة المركزية الأمريكية في قاعدة السيلية بقطر، بقوله إن تكريت سوف تتعرض لطريقة مشابهة لما تعرضت له المدن العراقية الأخرى.
لكن الاختفاء وقيادة مقاومة ما، لا تتعلق وحدها بالتمركز في داخل العراق، وتحديدا وسطه السني، وإنما تتطلب عمقا جغرافيا إقليميا يكون بمثابة قناة توصيل وتجهيز أولى للإمدادات من الأسلحة والبشر معا، وهو ما يتوفر نظريا في سوريا وحسب من بين دول الجوار الجغرافي الأخرى. وتعكس تصريحات وزير الدفاع الأمريكي رامسفيلد التي اتهم فيها سوريا بتسهيل عبور بعض أفراد القيادة العراقية إليها وإمدادات الأسلحة مثل هذا التصور، أو ربما تعكس القلق من مثل الاحتمال، لاسيما وأن العسكريين الأمريكيين في الميدان ما زالوا يتحدثون عن مخاطر كبرى يجب مواجهتها، ويرون أن الحرب لم تكتمل فصولها بعد. وتظل الأيام المقبلة وحدها القادرة على نفي أو تأكيد مثل هذا الافتراض.
د. حسن أبو طالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.