مبادرة بيكر: انقلاب في الأولويات؟
هل يكون جيمس بيكر ولجنته لـ "دراسة وضع العراق"، نجم السياسة الخارجية الأمريكية (والعالم) في العام الجديد 2007؟
وهل سيؤدي تبنَـي كل أو معظم توصيات هذه اللجنة إلى قلب المشهد العراقي والشرق أوسطي رأساً على عقب؟
يجب الإشارة أولا، إلى أنه قبل وقت غير قصير من بدء عمل لجنة بيكر، كان ثمة إجماع لدى المحللين الأمريكيين بأن التغييرات الجذرية في الإستراتيجية الأمريكية باتت حتمية. وعلى سبيل المثال، قال روبرت ساتلوف، مدير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، في دراسة أخيرة: “لا أستطيع القول إن الأجندة الأمريكية في الشرق الأوسط ماتت، لكنها في غرفة العناية الفائقة. أعتقد أنها (الأجندة) لا زالت تمثّل توجّـهاً استراتيجياً للولايات المتحدة، لكن علينا إعادة التفكير في طريقة تطبيقها”.
وبدوره رأى ناثان براون، كبير الباحثين في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، أن الولايات المتحدة “لم تضع أصلاً أجندة واضحة المعالِـم في الشرق الأوسط، إذا كان المعني بالأجندة: الإستراتيجية وتطبيق البرامج، فالإدارة الحالية، بدلا من تضع إستراتيجية واضحة المعالم فإنها طوّرت التزاما بلاغياً قوياً، وهذا الالتزام البلاغي – الذي يعتمد على ادّعاءات الرئيس بوش، أنه لا يوجد تَـعارض بين قِـيمنا ومصالحنا – لم يكن أبدا خطأً واضحاً للسياسة الخارجية”.
وكما هو واضح، تُـشير كل هذه الآراء إلى أن الإدارة الأمريكية غيّـرت بالفعل توجّـهاتها حيال الشرق الأوسط، ومثل هذا التغيير سيكون أوضح بكثير، إذا ما جاء الديمقراطيون إلى السلطة عام 2008، بعد أن سيطروا في خريف 2006 على مجلسي النواب والشيوخ، فحينذاك، يتوقّـع أن تطبق الإدارة الجديدة مبادرة مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، المسماة “دعماً للديمقراطية العربية”، والتي كانت غاية في الشمول، لأنها حدّدت بدقةٍ شديدة الهدفَ الأبعد والأعمق للولايات المتحدة، وهو إدماج الشرق الأوسط بالكامل في العولمة، ودعت إلى تغيير شامل وكاسح في كل مناحي الحياة العربية:
– الاقتصادية، عبر الخصخصة واللامركزية.
– السياسية، عبر الحريات.
– التعليمية، من خلال إشراف دولي على المناهج وبرامج التدريب.
– الإستراتيجية، عبر مواكبة الديمقراطية بالسلام والعكس بالعكس.
– تحديد شروط القبول الأمريكي لوصول الحركات الإسلامية العربية إلى السلطة.
– إستراتيجية إعلامية ودبلوماسية أمريكية جديدة لكسب قلوب العرب وعقولهم.
والأهم، أن المبادرة أسندت كل “ثورة التغيير” الأمريكية إلى المصالح لا الأيديولوجية. فواشنطن تريد الديمقراطية العربية لأهداف الأمن القومي العليا، لا لأهداف القيم والمُـثل العليا، ورسمت خريطة طريق لتنفيذ هذه الإستراتيجية الشاملة “تستغرق كل جيلنا الحالي وحتى ما بعده”، وهذا ما يضفي على المبادرة أهمية مضاعفة.
مبدأ الإدمـاج
هذه التوجهات الشرق أوسطية الجديدة المحتملة، سترتكز إذن على دعامتين رئيسيتين اثنتين: استبعاد الديمقراطية بمبدأ وحيد في السياسة الخارجية الأمريكية واستبدالها بمبدأ وحيد آخر، (ولكن أكثر شمولية بكثير): مواجهة مستلزمات العولمة وتحدياتها، هذا المبدأ هو “الإدماج” integration، الذي يُـفترض أن يحُـل مكان مبدأ الاحتواء
(containment)، نجم السياسة الخارجية الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ريتشارد هاس، الباحث الإستراتيجي البارز والمسؤول الحكومي السابق، كان أول من تقدّم بفكرة المبدأ الجديد في دراسة نشرها في دورية “ناشيونال إنترست” (خريف 2005)، لكن سرعان ما كرت السبحة بعده ليتبلور المبدأ كالآتي: الإدماج هو الوريث الطبيعي للاحتواء الذي كان ضرورياً وسياسة صحيحة إبّـان الحرب الباردة، بيد أن المبدأ المناسب للحقبة الراهنة، يجب أن يعثر على طريقة لجلب الآخرين إلى النظام العالمي، وليس إبقاءهم خارجه، إضافة إلى ذلك، الإدماج يقدم أفضل الردود المتناسقة على العولمة وعلى التهديدات الأخرى العابرة للقوميات المحددة لتحديات عصرنا، وهو يعكس الحقيقة بأن التهديد الرئيسي للأمن القومي الأمريكي والازدهار اليومي، يأتي ليس من قوة كبرى أخرى منافسة (لأن الفجوة بين أمريكا والآخرين هائلة)، بل ممّـا يمكن وصفه بشكل أفضل بـ “الجانب المظلم من العولمة”: الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية والأمراض المعدية والحماية التجارية وتغيير المناخ العالمي).
الطريقة الأضمن لمكافحة الإرهاب، هي عبر الإدماج، وإدماج الدول الأخرى وحده في الصراع ضد الإرهابيين الحاليين، يجعل الولايات المتحدة تربح هذه الحرب.
الأطراف الفقيرة المدمجة، سواء أكانت أفراداً أم دولا، يمكنها أن تحرم الإرهابيين من الأرض الخصبة لتجنيد المقاتلين أو شن العمليات، إضافة، للاندماج مضاعفات على الجهود الأمريكية لوقف انتشار الأسلحة النووية، فهذا المبدأ سيحاول دمج كل من كوريا الشمالية وإيران في نظام منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وبالتالي، العقوبات والعزل ومحاولات تغيير النظام، ستحل مكانها الحوافز السياسية والاقتصادية، بدعم كامل من الصين وأوروبا ودول أخرى.
إن مبدأ الإدماج له القُـدرة على أن يكون إستراتيجية شجاعة وتغييرية تمكّـن الولايات المتحدة من تشكيل الحقبة المقبلة من التاريخ، وهو يستند إلى تفاهمات إيجابية بين الولايات المتحدة والدول لكبرى تشبه تلك التي صاغها “وفاق أوروبا” في القرن التاسع عشر.
كيف يمكن أن يبدو العالم الاندماجي؟
كحد أدنى، سيكون عالماً، حيث الحكومات لن تكون حرّة لارتكاب الإبادة الجماعية (أو السماح بحدوثها)، وفي الوقت ذاته، كل أو معظم الحكومات ستنضم إلى قاعدة تقول إن القوة لن تستخدم بشكل مقصود ضد المدنيين أو لأهداف سياسية.
الدول الكبرى (الصين وروسيا واليابان والهند والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى الولايات المتحدة)، توافق على السماح للدول الأخرى بالحصول على اليورانيوم المخصّـب لأغراض نووية سلمية، لكنها ستمنعها من الحصول على الأسلحة النووية.
مجلس الأمن، برغم كل قصوره، هو أحد الأمكنة الممكنة لتحقيق الإجماع، لكن هناك منابر أخرى، مثل الحلف الأطلسي والمنظمات الإقليمية الأخرى ومجموعة الثماني الكبار (أو من الأفضل العشرة الكبار بعد ضم الصين والهند). الحصول على الدعم الدولي، سيتطلب أيضاً من الولايات المتحدة أخذ مصالح واهتمامات الدول الكبرى بعين الاعتبار، خاصة الصين واليابان والهند والاتحاد الأوروبي.
ويلخّـص هاس هذا المبدأ كالآتي: التاريخ يوحي بأن مثل هذه الأحاديث عن التعاون الدولي المستدام غير واقعية، وأن الأمر مسألة وقت قبل أن تبدأ الدول الكبرى بتحدي الزعامة العالمية (خاصة الصين أو حتى الاتحاد الأوروبي)، بيد أن هذا ليس حتميا بالضرورة. ثم، أمريكا ليست في موقع يمكِّـنها من منع بروز قوى أخرى، مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، أكثر مما كان بإمكان أوروبا منع الولايات المتحدة من الصعود في القرن التاسع عشر، ثم إنها في حاجة إلى دول أخرى قوية لمواجهة تحدِّيات العولمة، والقضية التي يجب أن تطرحها أمريكا على نفسها، ليس ما إذا كانت الصين ستصبح قوية، بل كيف ستستخدم الصين قوتها المتزايدة.
انتصار بيكر
ربما بات واضحاً الآن أن التغييرات المحتملة في الإستراتيجية الأمريكية تنطلق حقا من الشرق الأوسط، لكنها سرعان ما تتمدد لتَـطال مُـجمل التوجهات الأمريكية في العالم.
في هذا الإطار بالتحديد، تسبح مبادرة بيكر، وهو إطار يعني بوضوح أن الأمور بدأت تخرج من قبضة المحافظين الجُـدد الجمهوريين، الداعين إلى فرض سُـلطة الإمبراطورية الأمريكية الانفرادية بالقوة على العالم، لتستقر في حِـصن الواقعين البراغماتيين، المطالبين بالاعتراف بحدود القوة الأمريكية، والساعيين إلى عالم تعددي، ولو شكلاً، في إطار الزعامة الأمريكية.
معروف أن الكونغرس الأمريكي شكّـل لجنة بيكر (مجموعة دراسة العراق) عام 2005، وأناط بها مهمة وضع “إستراتيجية جديدة في بلاد الرافدين، لكن سرعان ما تبيّـن أن هذه اللجنة تحظى بدعم كامل من الرئيس جورج بوش الإبن وأن بيكر ومُـعظم أعضائها ينتمون إلى إدارة جورج بوش الأب، بمن فيهم وزير الدفاع الجديد روبرت غيتس، الذي خرج من صفوفها إلى قمرة قيادة البنتاغون بتوصية خاصة ومباشرة من بيكر.
لجنة بيكر كانت تطوراً له أبعاد كثيرة، فهو عنى أن بوش الإبن لم يعد يعتمد على “الأب الأعلى” (أي الله تعالى)، بدلاً من “الأب الأدنى” (أي والده)، كما اعتاد أن يقول.
عراقياً، سيُـؤدي ذلك إلى انسحابات عسكرية أمريكية تدريجية من البلاد بموافقة كلا الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، برغم أن أحدا لا يعرف بعدُ مدى وطبيعة ومدّة هذه الإنسحابات.
وشرق أوسطياً، يُـمكن أن يقود ذلك إلى تراجع حدّة الصِّـراع بين المحورين، الأمريكي – الإسرائيلي والإيراني – السوري، وإلى تقدم فرص الالتقاء بينهما حيال العراق، وربما لبنان.
بالطبع، لم يسلَم المحافظون الجدد الجمهوريين أسلحتهم إلى بيكر بسهولة، وهم نجحوا خلال اليومين الماضيين، وفي خِـضم مناقشات الكونغرس والإدارة لخطة عمل بيكر، في حمل بوش على طلب زيادة عدد القوات الأمريكية بنحو 20 ألفاً بدل إنقاصها، كمحاولة أخيرة لفرض السيطرة الأمنية الأمريكية على بغداد على الأقل.
بيد أن ذلك سيكون، على الأرجُـح، جُـهداً لا طائل من تحته، هذا إذا لم تكن فكرة زيادة القوات أصلاً مجرّد محاولة للقول بأن أمريكا “ستنسحب جُـزئياً من العراق، وهي في موقع القوة”.
ثم أن مبادرة بيكر الدّاعية إلى الانسحاب التدريجي وعقد مؤتمر دولي – إقليمي حول العراق، وجدت لتبقى بإجماع الجمهوريين والديمقراطيين معاً، من الآن وحتى الانتخابات الرئاسية عام 2008، وربما حتى إلى ما بعدها.
وللتذكير، فإن هذه المبادرة التي ستكون على الأرجح، نجم عام 2007، كان لها من البداية هدف يتيم: “ترتيب إستراتيجية خروج من العراق، تمهيداً لإستراتيجية دخول أمريكي جديدة إلى العالم”. والعد العكسي لخطة الخروج بدأت.
سعد محيو – بيروت
يحظي وزير الخارجية الامريكي الاسبق جيمس بيكر الذي عاد الي ساحة السياسة الدولية ليشارك في رئاسة مجموعة الدراسات حول العراق، بثقة عائلة الرئيس جورج بوش التي استعانت به مرارا لتخطي اوضاع صعبة ودقيقة.
وهذا الثري الكبير الذي يبلغ من العمر 76 عاما، القليل الكلام والمتحدر من تكساس، درس المحاماة واكتسب خبرة في المالية العالمية. وقد عمل في عهد اربعة رؤساء جمهوريين في مناصب متنوعة منذ ثلاثين عاما.
عين بيكر مساعدا لوزير التجارة في عهد جيرالد فورد عام 1975 ورئيسا لمكتب رونالد ريغان في 1981 ثم وزيرا للدفاع في عهده ايضا العام 1985.
وبعد ان نظم بنجاح الحملة الانتخابية لجورج بوش الاب الذي خلف ريغان عام 1989 عين بيكر وزيرا للدفاع في ادارته حتي 1992.
وتعاطي بيكر في منصبه الاخير هذا مع تقلبات دولية كبري من انهيار الاتحاد السوفياتي الي سقوط جدار برلين واعادة توحيد المانيا وحرب الخليج ومؤتمر السلام في مدريد الذي ارسي قواعد خطة للسلام في الشرق الاوسط.
واستعان به جورج بوش عام 1992 لادارة حملته الانتخابية للفوز بولاية رئاسية ثانية فعينه مجددا امينا عاما للبيت الابيض، غير ان بوش هزم وفاز بيل كلينتون.
وعاد جيمس بيكر عندها الي مجال عمله المفضل وان لم يتخل تماما عن النشاط الدبلوماسي، فعين في 1997 موفدا خاصا للامم المتحدة لنزاع الصحراء الغربية بين المغرب وجبهة بوليساريو المدعومة من الجزائر.
واستقال عام 2004 بعد ان رفض المغرب خطته التي نصت علي فترة من الحكم الذاتي في الصحراء الغربية لمدة خمس سنوات يليها استفتاء يقرر الوضع النهائي لهذه المنطقة التي ضمها المغرب عام 1975.
وفي هذه الاثناء عاد الي الحياة السياسية الامريكية لحساب بوش الابن هذه المرة فترأس عام 2000 الفريق القانوني المكلف الاشراف علي تعداد الاصوات في فلوريدا بعد ان حصل جدل محتدم حول نتيجة الانتخابات الرئاسية في هذه الولاية، ما حسم الفوز لجورج بوش علي حساب الديموقراطي آل غور.
غير ان تأييد جيمس بيكر لعائلة بوش لم يمنعه من توجيه انتقادات احيانا الي الابن.
فقد حذره في مقالة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز في آب (اغسطس) 2002 من مخاطر التدخل عسكريا في العراق لاطاحة صدام حسين بدون الحصول علي دعم الاسرة الدولية.
وكتب في هذه المقالة مع ان الولايات المتحدة تحظي بفرص نجاح كبيرة، يتحتم علينا بذل كل ما في وسعنا لتجنب القيام بهذا التحرك وحيدين وعلي الرئيس (بوش) ان يرفض نصائح الذين يقولون له ان يتحرك بهذه الطريقة .
ولم يأخذ بوش برأي بيكر وشن الحرب التي لم تدعمها سوي بريطانيا عمليا.
وبعد ثلاث سنوات توجه اليه الرئيس الامريكي مجددا لمعالجة الدين العراقي الكبير البالغ 120 مليار دولار والذي كان يهدد باحباط الجهود لتقويم وضع البلاد الاقتصادي.
وجاب جيمس بيكر العالم مجددا مستخدما اتصالاته الواسعة في اوروبا والشرق الاوسط فحصل علي التزام دول كثيرة بينها دول عربية بمعالجة مسألة الدين العراقي، غير ان النتائج التي حققها لم تكن كافية لضمان الاستقرار في العراق حيث واجه الجيش الاميركي مأزقا.
وفي اذار (مارس) 2006 استنجد بوش مجددا به بحثا عن وسيلة للخروج من المستنقع العراقي. وعين جيمس بيكر رئيسا لمجموعة الدراسات حول العراق المؤلفة من عشرة اعضاء يتوزعون بالتساوي بين جمهوريين وديمقراطيين وهدفها تحديد السياسة الواجب اعتمادها في العراق.
ومن المقرر ان تقدم هذه المجموعة تقريرها في نهاية السنة الجارية وهو موضع ترقب كبير ولا سيما بعدما اعلن بوش الذي اضعفه فوز الديمقراطيين في انتخابات السابع من تشرين الثاني (نوفمبر) انه سيأخذ توصياتها بعين الاعتبار.
(نقلا بتصرف عن تقرير لوكالة رويترز للأنباء بتاريخ 14 نوفمبر 2006)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.