مجلس الحكم العراقي .. من أجل ماذا؟
يثير الإعلان عن تشكيلة مجلس الحكم المؤقت في العراق ردود فعل متباينة في صفوف المواطنين العراقيين.
وعلى الرغم من الترحيب العربي الحذر، يظل الغموض محيطا بصلاحيات المجلس الحقيقية وبقدرته على إنجاز توقعات العراقيين.
استنكر أحد القادة العراقيون الجدد اعتراضات الكثيرين من أبناء الشعب العراقي على تركيبة مجلس الحكم العراقي وطبيعته والصلاحيات التي سيعمل من خلالها، وكأن هذا الرجل، الذي قضى سحابة عمره بعيدا عن الواقع العراقي ومفرداته، أراد أن يخرج العراقيون عن بكرة أبيهم فرحين مستبشرين بولادة هذا المجلس الذي لا يمكن أن يكون ممثلا لآمالهم وتطلعاتهم ولا ينسجم مع رغباتهم، حتى وإن كان الأمر على قاعدة “الخطوة خطوة” الشهيرة من أيام سالف الذكر هنري كيسنجر.
وقد حظي إعلان المجلس بردود أفعال متباينة. فقوى المعارضة العراقية السابقة كانت المتحمس الوحيد لقيامه، حتى أن احمد الجلبي، رئيس المؤتمر الوطني العراقي، وهو أكثر التنظيمات العراقية إثارة للجدل، أكّـد أن ما حصل يُـعَـد إنجازا وطنيا كبيرا، مقدما على ذلك أسمى آيات العرفان والولاء للرئيس الأمريكي جورج بوش وشعب الولايات المتحدة ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير.
واعتبر محمد بحر العلوم، وهو رجل دين شيعي يترأس منظمة آل البيت في لندن، هذا المجلس “تجسيدا للإرادة الوطنية الحرة من خلال أفضل صيغة ممكنة”!. فيما قال عنه جلال الطالباني، زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، إنه يتمتع بصلاحيات الحكومة.
غير أن المواطن العراقي كان له رأي آخر، حيث حاز هذا المجلس اعتراضات بالجملة، ولا يدري أحد في الحقيقة كيف سيتمكن المسوقون من تسويغ هذا المجلس للمواطن، بعد أن قُـوبل بالرفض ابتداءً لتمزيقه للعراق وتوزيعه حصصا طائفية وقومية، ولتكريسه الاحتلال وهيمنته، وهو ما يأباه العراقيون بشدة.
وأيا تكن الاعتراضات والردود والتسويغات، فقد قُـضي الأمر وأصدر السيد بول بريمر مشيئته التي لا رادّ لها، وأعلن قراره بتشكيل مجلس حكم عراقي مؤلف من 25 شخصية عراقية، معظمها مجهول بالنسبة للشعب العراقي. وهنا يبدو أول الأسئلة وأول الاعتراضات: لماذا وقعت عين السيد بريمر على هؤلاء الخمس وعشرين من بين كل العراقيين الذين يربو عددهم على 25 مليون نسمة؟
واللافت، أن الإجابة على هذا السؤال قد تكون غامضة ومحاطة بطلاسم لا يمكن حلها، ولكنها يمكن أن تكون لدى آخرين واضحة تماما باعتبار أن هؤلاء الخمسة والعشرين يمثلون “ألوان الطيف العراقي”!
نظام الحصص!
بدءً، لابد من القول، إن تركيبة هذا المجلس ساهمت في أن يتلقى العراقيون نبأ الإعلان عن تشكيله ببرود، بل ورفض أيضا. فالمجلس المشكَّل من 14 شخصية شيعية عربية، و4 شخصيات سنية عربية، و5 شخصيات كردية سنية، وسيدة تركمانية وشخصية مسيحية، هذه التركيبة عزَّزت ورسَّخت نموذجا طائفيا وعرقيا بغيضا، يسعى معظم العراقيون من شتى الأصول والمنابت إلى عدم الرضوخ له أو الالتجاء إليه.
وقد باتت هذه التركيبة القسرية سابقة خطيرة لا يمكن الفكاك منها في أي ترتيبات مستقبلية ذات صفة تتسم بقدر من الاستقرار والثبات، إذ من المؤكد أن أيا من التنظيمات السياسية أو التكوينات الطائفية والعرقية التي يزخر بها المجتمع العراقي سوف لن يتنازل عن نسبته التي يرى أنها “حق مقدس انتزعه نضالا”، عندما يتم التقدم لانتخابات عامة تسفر عن تشكيل حكومة وطنية كما هو مرجو.
ويقول عراقيون، ولئن قبلنا بمبدأ “المحاصصة” الطائفية والعرقية، فإن هناك اعتراضا حول نسب التمثيل المتاحة أمام كل طائفة وقومية، حيث لا يُعقل أن لا يحظى المسلمون السنة من العرب سوى بأربعة مقاعد من بين مقاعد المجلس الخمسة والعشرين مع أنهم يأتون في المرتبة الثانية عددا بعد الشيعة، في حين يحظى أكراد العراق، وهم في الدرجة الثالثة من التسلسل، بخمسة مقاعد، بعد أن تم لأغراض مقصودة سلخهم من انتمائهم الديني، حيث أن غالبيتهم الساحقة من السنة.
لقد كان العراقيون يطمحون إلى قيام مجلس يمثلهم بحق ولا يؤدي إلى توزيعهم على وفق نظام الحصص المعتمد عند البعض، فضلا عن أن مجموعات الداخل ما تزال غير ممثلة فيه بحق، وهو ما كان محور خلاف بين الأطراف العراقية بعضها البعض وبينها وبين بريمر أيضا. ومن بين المشاكل التي رافقت قيامه، إحجام عدد من التنظيمات السياسية العراقية عن المشاركة فيه، كما فعلت الحركة الملكية الدستورية وآخرين، وكلهم أثاروا حوله وبصدده شكوكا واعتراضات.
وكان من بين مسوغات رفضه عراقيا، قراره الأول الذي اتخذه باعتبار يوم 9 ابريل عيدا وطنيا للعراق، مع أن هذا التاريخ وبكل المقاييس، ومنها مقاييس الأمم المتحدة، يمثل في ذاكرة الشعب العراقي تاريخ احتلال بلدهم وفقدانه استقلاله وسيادته الوطنية، ولقد كان تصرفا حكيما من أعضائه، لو أنهم لجأوا إلى ترك هذا الموضوع المثير في هذا الوقت البالغ الحساسية إلى موعد آخر، ربما بعد أن ينعم أبناء الشعب ببركات الاحتلال، أو لو أنهم اعتبروا يوم قيام هذا المجلس عيدا وطنيا، ولكلا الحالين ما يسوغهما.
وتبدو مشكلة رئاسة المجلس من بين المشاكل التي صاحبت ولادته القسرية. فقد سبقت لحظة إعلان تشكيلته النهائية جلسة مشاورات مغلقة استمرت أطول مما كان متوقعا. وطبقا لتسريبات موثوق بها فإن تلك الجلسة لم تحسم الأمر، حيث تم إرجاء البت بها إلى موعد آخر.
وعلى حد قول الدكتور غسان سلامة، مساعد ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق ووزير الثقافة اللبناني السابق، فإن الآراء المطروحة في هذا الصدد تتراوح بين القيادة الجماعية والقيادة الدورية التي يمكن أن يتعاقب عليها السنة العرب والشيعة العرب والأكراد. وهناك رأي يقول، إن رئاسة المجلس لا قيمة لها من الناحية الفعلية، إذ لا يتعدى الأمر كونه منصبا لإدارة الجلسات فحسب.
تدخل إماراتي!
من جهة أخرى، قد يكون من الظلم لهذا المجلس الذي ولد قسرا بعد عمليات إنعاش دامت أسابيع طويلة أن يطالب بأكثر مما يستطيعه فعلا. فهذا المجلس في حقيقة الأمر، مجلس صوري منزوع الصلاحيات باهت المسؤوليات، حتى إن أعضاءه لا يعرفون حدود صلاحياتهم وماهيتها بالضبط، وهو مجلس لا يستطيع أن يرفع طرفه إزاء فيتو السفير بريمر الذي سيبقى متنفذا وحاكما في عراق المستقبل المنظور، برغم أن الدكتور عدنان الباجة جي، رئيس تجمع الديمقراطيين المستقلين وأبرز المرشحين لرئاسة المجلس، أكد انه لا يتوقع أن يكون ثمة فيتو أمريكي ضد قراراته، لأنه نقل عن بريمر تأكيده على أن إدارة الاحتلال ستلبي جميع مطالب مجلس الحكم، مشيرا إلى أنه في حال حدوث خلاف بين الطرفين، يمكن تسويته عبر النقاش والمداولات، وهو ما أكده المبعوث البريطاني في العراق، السفير جون سويرز أيضا.
وحقيقة الأمر، فقد كان موضوع صلاحيات مجلس الحكم محور خلاف مع الطرف الأمريكي طيلة الأسابيع الماضية، حتى تم حسم الأمر على ما يبدو بعد تدخل إماراتي قام به الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة من خلال الطرف البريطاني، وهو ما شكََّل مبادرة إماراتية اتخذت طابعا آخر، حينما حطَّ الرحال في بغداد وزير الخارجية البريطاني جاك سترو في زيارة مفاجئة التقى خلالها بريمر والدكتور عدنان الباجة جي.
ويشير دبلوماسيون عرب إلى أن رئيس الدبلوماسية البريطانية عرض أمام بريمر رؤية جديدة يتم من خلالها التعامل مع الأطراف العراقية تتلخص في منح تلك الأطراف قدرا أكبر من الصلاحيات والمهام، وبما يرفع عن كاهل قوات الاحتلال أعباء غير مبررة ويحسِّن صورة الإدارة المحتلة أمام العراقيين الذين بدأ صبرهم ينفذ على ما يبدو، خاصة وأن البريطانيين، حسب اعتقاد البعض أكثر قدرة على تفهم طبيعة الواقع العراقي، وهم بالتالي أكثر خبرة في التعامل معه.
وقد جاء تدخل الشيخ زايد بعد أن قال بريمر للسياسيين العراقيين: “اذهبوا إلى بيوتكم وسأدعوكم عند الحاجة، فليس لكم مكان دائم للعمل”.
وقد حاول الطرف الأمريكي أن يمنح المجلس الوليد صلاحيات أكبر من حجمه الحقيقي لاعتبارين. الأول، عملي ويتبدى في محاولة لتأهيل العراقيين القادمين من الخارج لتولي مسؤوليات إدارة بلدهم. والثاني، سياسي يتعلق بالرغبة في امتصاص قدر من النقمة العراقية المتزايدة إزاء الاحتلال.
وطبقا لوثيقة حصُلت عليها سويس إنفو، فإن صلاحيات المجلس تعمل دائما وفقط من خلال التنسيق والتشاور مع الطرف الأمريكي الحاكم فعلا في العراق، وهي تتلخص في العمل على تمثيل مصالح الشعب العراقي في الفترة الانتقالية للتحول الديمقراطي والحكومة التمثيلية، فضلا عن اقتراح تسمية الوزراء العراقيين ومتابعة أدائهم وله، بعد استحصال الموافقة الأمريكية طبعا، حق محاسبة الوزراء وطردهم عند ثبوت تقصيرهم.
كما أن هذا المجلس سيخوَّل، وبعد التنسيق مع قوات الاحتلال والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، صلاحية إعداد الخطط الخاصة بموازنة العراق لعام 2004، وإعداد الخطط وتطوير النظم والسياسات المتعلقة بالجانب المالي في العراق مع مراعاة القضايا الرقابية في الجوانب المالية.
مشكلات مرتقبة
أما فيما يتعلق بالجانب الأمني والعسكري، فإنه سيبقى منوطا بقوات الاحتلال التي تقع على عاتقها مسؤوليات حفظ الأمن والنظام العام، لكن المجلس سيُمنح الحق في إدارة بعض الشؤون المدنية ذات الصلة بوزارة الداخلية العراقية.
وفي الشأن الدبلوماسي، فللمجلس الصلاحية في تسمية قائمين بالأعمال لتمثيل العراق في دول العالم والمنظمات الدولية وحضور المؤتمرات والفعاليات الدولية باسم العراق، وله الحق في تشكيل هيئات تمثيل خارجي في دول العالم.
وستكون أمام مجلس الحكم مسؤولية جسيمة تتعلق بإعداد دستور للبلاد، يقال أن مشروعه الأساسي ينجز الآن في عواصم دول التحالف، وخاصة واشنطن ولندن، والتمهيد وفق ذلك الدستور لانتخابات عامة يفترض أن تؤدي إلى قيام حكومة عراقية في مدة قد تستغرق عامين أو أكثر قليلا.
وهنا يبرز سؤال عن الكيفية التي سيعالج بها الدستور المرتقب للبلاد نظام الحصص الطائفية والعرقية.
ويتوقع أن تبدأ المشكلات الحقيقية عندما يمارس المجلس صلاحياته المتمثلة في الإشراف على الجهاز التنفيذي واختيار مجلس دستوري تأسيسي.
ومن بين المشكلات المرتقبة التي يمكن أن تثور تلك المتعلقة بكيفية صدور القرارات، هل بالأغلبية المطلقة أم بالتوافق، وحول تعيين واختيار أعضاء الجهاز التنفيذي، وهل سيتم ذلك الاختيار بشكل جغرافي، فتترك اختيارات الجنوب للجنوبيين والشمال للشماليين، أم سيتم اختيارهم بشكل مركزي، وكذلك حول التقسيمة المذهبية والعشائرية، ونصيب كل منها في الجهازين التنفيذي والدستوري للمجلس، ما دامت هذه التركيبة هي المعتمدة والمرسَّخة الآن.
وهناك أيضا خشية حقيقية من أن يؤدي أي فشل في تحقيق الأمن أو عجز عن تقديم الخدمات أو تأخر في تقديم رؤية سياسية معقولة ومنقذة في النهاية إلى تبادل الاتهامات بين الأمريكان والمجلس، الأمر الذي سيفجر الأوضاع في العراق مرة أخرى.
سؤال العراقيين
بصرف النظر عن كل ما تقدم، فقد قام هذا المجلس في ظرف استثنائي وبطريقة استثنائية. فهل سينجح في معالجة ما ترتب على الظروف الاستثنائية التي خلقته أصلا من مشاكل وأزمات؟
هذا هو سؤال العراقيين الذين لم يعد يعنيهم كثيرا من الذي سيقودهم، حتى وإن كان مجهولا من قبلهم، وحتى وإن كانت من بين مهامه الأساسية إنقاذ الأمريكيين من ورطتهم في العراق، لأن ما يعني العراقيين اليوم، الطريقة التي سيقودهم بها ومدى تحقق ما يعدهم به من آمال، وهنا لابد للمستقبل أن يجيب مبكرا فلم يعد كثيرون يطيقون الانتظار!
مصطفى كامل – بغداد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.