مصر.. بداية العودة إلى الجماهير
أكد الرئيس المصري في تصريحات نشرتها الصحف المصرية الحكومية يوم الاحد 30 يناير رفضه مطالب المعارضة بتعديل الدستور لاختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب الحر المباشر بين أكثر من مرشح.
وعلى الرغم من تأكيد مبارك أن “أي مساس بالدستور سيؤثر علي أمن واستقرار الوطن”، فإن مصر تشهد اتساعا للجدل السياسي والحقوقي.
قال الرئيس المصري حسني مبارك لرؤساء تحرير الصحف الذين رافقوه علي متن الطائرة التي أقلته السبت 29 يناير الي أبوجا لحضور قمة الإتحاد الإفريقي: “إن اي مساس بالدستور سيؤثر علي أمن واستقرار الوطن”. واضاف: “ان الدعوة الي تغيير الدستور باطلة ومن يتحدثون عن الانتخاب المباشر والاستفتاء ومحاولة المفاضلة بينهم عليهم ان يدركوا ان الاستفتاء مؤسس علي ترشيح من ممثلي الشعب”.
تأتي تصريحات الرئيس مبارك الواضحة لتؤكد تنامي ظاهرة غير مسبوقة في مصر. فبالرغم من أن موعد الاستفتاء الرئاسي سيأتي بعد عشرة أشهر، فإن الحركة السياسية والحزبية المصرية في مواجهة هذا الاستحقاق، اتخذت أبعادا مختلفة منذ اللحظة الراهنة، وتعد تبعا لذلك جديرة بالمتابعة والتفسير.
حيث يُـجمع المشهد الراهن بين إعلانات لمسؤولين كبار في الحزب الوطني الحاكم تتسرّع بالإعلان عن نتيجة الاستفتاء مُـسبقا وبصورة مبكرة للغاية، وخطوات مضادة تقوم بها أحزاب المعارضة ومنظمات حقوق الإنسان تطالب أساسا بتغيير الدستور، والسماح بانتخابات بين أكثر من مرشح، إضافة إلى القيام بترتيبات سياسية وقانونية تضمَـن نزاهة الانتخابات البرلمانية المقرّرة في أكتوبر المقبل، فضلا عن تجرُّؤ بعض المثقفين ونائب برلماني مستقل على التقدم بالترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة.
المواقف على هذا النحو ليست جامدة، فهي قابلة للحركة على نحو مختلف عما ساد في الاستفتاءات الرئاسية الأربعة الماضية، التي جرت فى عهد الرئيس مبارك.
فمن حيث البيئة العامة، باتت مطالب توسيع الديمقراطية وتعديل الدستور والتخفيف من صلاحيات رئيس الجمهورية الواسعة جدا، وإعمال تعددية حقيقية، وإنهاء أي احتمالات لتوريث السلطة وتوسيع مجال الحركة للأحزاب، وضمان انتخابات شفافة ونزيهة، بمثابة القاسم المُـشترك الأكبر بين كافة القوى السياسية والمنظمات الجماهيرية والجمعيات الحقوقية. وفي الخلف، هناك بيئة دولية وضغوط ظاهرة وباطنة تحضّ على التحوّل الديمقراطي، وإعطاء المجتمعات حقها في المشاركة والاختيار.
نقلة كبرى
ولعل النقلة الأكبر هنا، أن عددا من الأحزاب الكبرى وجملة من المنظمات الحقيقية وجماعات من المثقفين الحزبيين والمستقلين يُـدركون الآن أن مجرد الالتزام بهذه القواسم لا يكفي في حدّ ذاته لإحداث أي تغيير إيجابي في العملية السياسية، التي تتّـسم بالجُـمود والسُّـكون على نحو فظ.
فإلى جانب الالتزام المبدئي والصادق، هناك حاجة إلى عاملين آخرين لكى يُـؤتيا ثمار التغيير السياسي والسلمي على أرض الواقع.
الأول، عمل جماعي مشترك، إذ أن خبرة الأحزاب السياسية، دون استثناء، في تحركاتها المُـنفردة طوال الربع قرن المنقضي، تنتهي إلى أنها فشلت فشلا ذريعا في تثبيت أركان حياة سياسية تعددية حقيقية، وأن أحد أسباب هذا الفشل الذريع، تعود إلى القيود الجائرة لقوانين الأحزاب خاصة، والنشاط السياسي عامة، والتي تُـحاصر حركة الأحزاب بين الناس، ومن ثم، يظل كل حزب مُـتقوقعا على نفسه دون قدرة على التواصل مع الأحزاب الأخرى، إلا كمنافس افتراضي وفي أضيق الحدود، كما غاب العمل الحزبي الجبهوي أو الجماعي، إلا فيما ندر، فيما يتأكّـد الآن أن العمل الجبهوي المؤسس على برنامج محدد الملامح، هو الطريق السلمي للتغيير.
أما العامل الثاني، فهو فقدان الأحزاب بُـعدها الجماهيري، فلا تواصُـل سَـلس، ولا قُـدرة على استقطاب أعضاء جدد، ولا عمل حزبي حقيقي بين الناس. وقد كان من قبيل الاكتشاف أن يقول أحد السياسيين المخضرمين، وهو ضياء الدين داوود، رئيس الحزب الناصري في مداخلة له أمام مؤتمر جماهيري لأحزاب التوافق، نظّـمه حزب الوفد وجرت وقائعه فى مدينة المنصورة بوسط الدلتا، “إنه لا أمل فى التغيير إلا بالجماهير”. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو، هل الجماهير بحق على استعداد للتحرك والتضحية من أجل تغيير نفسها وواقعها السياسي المتردي؟
تمرين في التحدي
الإجابة ليست بسيطة، لاسيما لمجتمع ظَـل أفرادُه لنصف قرن يعتمدون على الحكومة في كل شيء، بداية من لُـقمة العيش وتعليم مجاني متواضع المستوى، ومرورا بوظيفة حكومية تُـوفّـر الحدّ الأدنى، ونهاية بتغيير واقعهم، الأمر الذي يتطلّـب خُـطة سياسية لتغيير العقلية الجماهيرية من عقلية التلقي والسُّـكون، إلى عقلية المبادرة والتحرك.
وهنا، تبدو بعض التحركات الخَـجولة، وكأنها محاولة للانقلاب على هذا التراث الخامد. فالشخصيات التي أعلنت عن ترشيح نفسها للرئاسة، كالدكتور سعد الدين إبراهيم، ود. نوال السعداوي، والنائب محمد فريد حسانين، يعلمون جيدا أن الدستور لا يسمح بذلك، حيث يتطلب ترشيح أعضاء مجلس الشعب أولا لشخص واحد فقط، على أن يتم الاستفتاء عليه جماهيريا، وهو أمر محسوم بالنسبة للرئيس مبارك، بحكم رئاسته للحزب الوطني ذي الأغلبية الساحقة في مجلس الشعب.
ولا يوجد طرف واحد من هؤلاء يتصوّر أن هناك احتمالا كبيرا بأن يتم تغيير الدستور فى الفترة المقبلة. ومع ذلك، فإن رسالتهم التي يحرصون عليها من جرّاء الإعلان عن ترشيح أنفسهم، تدخل في باب تمرين العامة على التحدي والمطالبة بالحقوق، وأبرزها حق الترشح للرئاسة، وترك الحكم للمواطنين أنفسهم، وذلك إلى جانب التمرين على أن السُّـكون وحده لا يكفي لتغيير الأوضاع، وأن الضروري هو القَـفز من مربَّـع الانتظار إلى مربَّـع الحركة.
فالجماهير، حسب المثقف اليساري د. عبد العظيم أنيس، تنتظر من يكسر أمامها السقف، سقف القيود، تمهيدا للانطلاق إلى الأمام.
تحركات حزبية جماعية
هذه الرسالة ذات الطابع الفردي نسبيا، تكتمل معها رسالة التحركات الحزبية الجماعية، التي بدأت منذ العام الماضي، والتي تُـعرف الآن بأحزاب التوافق، وتضُـم أحزاب الوفد والتجمّـع، والعربي الناصري، والعمل والجيل، ومصر 2000 والوفاق، حيث تتفـق على عدّة شعارات، منها تغيير الدستور وانتخابات رئاسية، تعدُّدية وبرلمانية حقيقية، وهي تعمل الآن معا في حدّ أدنى من التنسيق السياسي، استعدادا لمتطلبات المرحلة المقبلة.
ولكن، ثمّـة خشية يقول بها بعض المتشائمين، في أن تتفرق هذه الأحزاب مرة أخرى مع الاقتراب من استحقاق الانتخابات البرلمانية، ومن ثم لن تستطيع أن تفرض رؤيتها في الدخول في الحوار مع الحزب الوطني الحاكم بصورة جماعية، ولكن بصورة منفردة، كما يُـصر على ذلك الحزب الحاكم، وعندها، لن يكون الحوار الحزبي سوى وسيلة للحصول على بعض ترضيات، وعدد من الدوائر الحزبية المضمونة في الانتخابات المقبلة.
أما المتفائلون، فيرون أن أحزاب المعارضة جميعها تُـدرك جيّـدا أن عملها المنفرد لن يعود عليها بأي نفع، سوى مزيد من خسارة المصداقية أمام الناس، والذين باتوا الآن هدفا لتحركاتها الجماعية، بُـغية حثها على المشاركة والتحرك والاستعداد للتضحية.
نحو رقابة محلية
بعض الجماعات الحقوقية من جانب آخر، تأخذ الأمر على محمَـل الجد، ومجموعة منها، تُـمهّـد لتشكيل لجنة شعبية محلية لمراقبة الانتخابات المقبلة، عوضا عن موقف الحكومة الرافض بشدّة أي رقابة دولية، حيث اجتمع مندوبو 16 جمعية من منظمات حقوق الإنسان والدفاعية عن القانون، وانتهوا في اجتماع أولي لهم على بحث هيكل وطريقة عمل لجنة مصرية لمراقبة الانتخابات المقبلة، على أن تعتمد اللجنة على أسلوب التمويل المحلي، واستبعاد من يُـرشح نفسه لاستفتاء الرئاسة أو الانتخابات البرلمانية، وأن تضم مجموعة من الشخصيات العامة والمستقلة، خُـبراء في مجال حقوق الإنسان، وأن تعمل اللجنة المقترحة وفق أسلوب متدرج لا مركزي، وتضامني بين المنظمات الراغبة في التعاون في هذا العمل، الذي يجمع بين القانون والسياسة ومشاركة الناس بعد تدريبهم وتأهيلهم.
وهذا الاتفاق التمهيدي يُـمثل خُـطوة إلى الأمام في أسلوب عمل هذه المنظمات الحقوقية والدفاعية، لأن الرقابة الشعبية هنا بحاجة إلى تفعيل واستنهاض الناس أنفسهم، لكي يتأكّـدوا من سلامة عملية اختيار من ينوبون عنهم، ويُـفترض أنهم يحققون مصالحهم.
والرقابة أنها شأن المشاركة السياسية بحاجة إلى تغيير نمط التفكير الجماعي الشعبي السائد، وتلك مهمّـة وإن كانت صعبة، فهي ليست مستحيلة. فتجارب شعوب أخرى، لاسيما في بلدان أوروبا الشرقية قبل عقد ونصف من الزمان، وقبل عامين فى جورجيا، وقبل أسابيع قليلة فى أوكرانيا، جميعها تؤكّـد أن تعليم الناس الحرص على حقوقها، يجعلها أكثر تمسّـكا بهذه الحقوق والدفاع عنها والتضحية من أجلها.
فالمهم هو البداية لإدماج الجماهير في صُـلب العملية السياسية، فهل ستكون مصر نموذجا عربيا رائدا؟
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.