مواجهات صعدة : طال أمدها وارتفعت كلفتها!
عند اندلاع المواجهات بين القوات اليمنية وأنصار الشيخ حسين بدر الدين الحوثي في محافظة صعدة الشمالية، توقع كثيرون أن تنتهي المعارك بسرعة وبكلفة قليلة.
بيد أن مجريات الأمور سارت على نحو مخالف لتلك التوقعات وهو ما أطلق العنان لتساؤلات عدة بحثا عن إجابات شافية، تشرح الأسباب وتفسر الملابسات..
يذهب المراقبون إلى أنه منذ اندلاع المواجهات في مطلع النصف الأول من شهر يونيو الماضي، سارت المعارك بوتيرة بطيئة وضراوة شديد، وخلفت أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى من الجانبين رغم عدم تكافؤهما.
وفي هذا السياق سجل المراقبون والمحللون عددا من المؤشرات الدالة على ذلك أهمها أن إعلان الحكومة عن نهاية المعارك في التاسع من شهر أغسطس الجاري جاء بعد مضي أكثر من شهر ونصف على انفجار الوضع.
كما انه وبعد مرور ما يزيد عن شهرين على القتال مازال مصير المطلوب الأول حسين الحوثي يلفه الغموض، فيما تفيد الأنباء الواردة من عين المكان أن قوات الجيش والأمن اليمني مازالت تتعرض لهجمات من حين لأخر خلال تمشيطها للمناطق التي يعتقد أن أنصار الحوثي لجاءوا إليها، هذا ناهيك عن الهجمات المباغتة التي تتعرض لها تجمعات الجيش والأمن، وكل هذا يأتي في الوقت الذي أعلنت فيه رئاسة هيئة الأركان العامة رسمياً عن انتهاء المعارك.
وعلى نفس الصعيد، بلغت حصيلة المواجهات المسلحة حتى الآن ما يزيد عن 400 قتيل طبقا للتقديرات الرسمية، وما بين 600 إلى 1000 قتيل من الطرفين ومئات الجرحى فضلا عن خسائر مادية كبيرة وفقا لمصادر غير حكومية.
الحكومة: “حرص على الأرواح”!
وعلى خلفية هذه النتائج وتنوعها تتعدد تفسيراتها وأسبابها، لتتمخض عن عددٍ من المبررات، التي تختلف باختلاف مواقع أصحابها.
الحكومة اليمنية، وعلى لسان مسؤولين وعسكريين كبار، أرجعت سير المعارك بتلك الوتيرة ونتائجها إلى حرص قوات الجيش والأمن منذ البداية على أرواح السكان، وفسح الوقت لمزيد من جهود الوساطة، ومعالجة الأمر بأقل قدر من التكاليف.
أما حجتها في ذلك فتتمثل في أنها بعثت لهذا الغرض لجنتين للوساطة (الأولى في 26 يونيو والثانية في مطلع شهر أغسطس) بغية إقناع الحوثي بتسليم نفسه مقابل منحه ضمانات قانونية وقضائية. غير أن تلك الوساطة لم تحرز أي نتائج تذكر، وفشلت مساعيها نتيجة لاصطدامها برفض الحوثي تسليم نفسه حسب وجهة النظر الرسمية.
المعارضة: “المبالغة في استعمال القوة”
على خلاف ذلك ذهبت المعارضة إلى أن الجيش أفرط في استخدام القوة، وأرجعت الأحزاب المنضوية في إطار ما يعرف بـ “اللقاء المشترك”، بطء سير المعارك وارتفاع عدد الضحايا إلى المبالغة في استعمال القوة من قبل القوات الحكومية.
ومن هذا المنطلق، هاجمت المعارضة المؤسسة العسكرية، متهمة إياها بأنها تستأثر بما يناهز ثلث الموازنة العامة دون طائل، فقد بدت قوات الجيش خائرة وغير قادرة على إحراز أي تقدم سريع وفعال طيلة فترة المواجهات.
ووجد العديد من رموز أحزاب المعارضة و صحفها فرصة سانحة للربط بين سير المواجهات وبين ما تسميه بالفساد المستشري داخل قطاع الجيش اليمني والإدارة اليمنية، متسائلة عن مصير المخصصات المالية المرصودة لهذا القطاع. وأرجعت معظمها فشل محاولات الوساطة المبذولة لاحتواء الأزمة قبل أوانها إلى “عدم الرغبة الحكومية في إنجاحها”.
الأسباب معقدة والنتيجة .. عدم الحسم!
مقابل تلك المسوغات التي تسوقها المعارضة والسلطة، والتي لا تخلو من حسابات سياسية في بعض جوانبها، يرى مراقبون محايدون أن طول أمد المواجهات وارتفاع كلفتها إنما جاء نتيجة لأسباب كثيرة، استخباراتية، وطبيعية، واجتماعية، وعقائدية، تتقاطع وتتشابك فيما بينها.
ويذهب هؤلاء إلى أن عدد القوات التي دفعت بها الحكومة اليمنية منذ البداية إلى الساحة كشفت بجلاء واضح، أن السلطات المعنية لم تكن تتوفر على المعطيات والمعلومات الإستخباراتية الكافية حول قدرات وقوة أنصار الحوثي ومؤيديه.
وقد بدا ذلك جليا في اضطراب الخطاب الإعلامي الرسمي منذ البداية، الذي ظهر مرتبكا ومتخبطا بطريقة أبعدته كثيرا عن جوهر مهمته الإعلامية وانعكست بالتالي على شفافيته.
فبدلا من أن يقدم المادة المنتظرة منه في توعية الرأي العام بأبعاد المشكلة وأثرها على الاستقرار السياسي والاجتماعي للبلاد، عمد إلى تهييجه بطريقة دعائية فجة، عندما صور القضية وكأنها مشكلة “زيدية” تارة، و”هاشمية” تارة أخرى، الأمر الذي أدى إلى إثارة الرأي العام، خاصة في المناطق التي دارت فيها رحى المعارك، وهي مناطق معروفة بانتماء أغلبية سكانها إلى المذهب الزيدي منذ أكثر من ألف عام، ومنهم نسبة ليست بالهينة يعزون إلى أصول علوية وهاشمية.
باختصار، كشف أسلوب التعاطي الإعلامي الرسمي مع الأحداث بتلك الطريقة عن مدى غياب المعلومات الإستخباراتية من جهة، وساهم في تقوية جبهة الحوثي ووسع قاعدة مناصريه باستعدائه لهم من جهة أخرى.
البعد الاجتماعي له أثره!
على صعيد آخر، بدا أن للبعد الاجتماعي تأثيره القوي في المواجهة. فمن المعروف أن التركيبة السكانية للمنطقة (حوالي 650 ألف نسمة) يغلب عليها المكون القبلي.
كما تصنف المحافظة في أخر القائمة بالنسبة لمعدلات الالتحاق بالتعليم، حيث تبلغ النسبة الإجمالية للالتحاق في التعليم 20,8 % فقط، موزعة بواقع 58,2% في المناطق الحضرية و 15،6% في الأرياف، وهي نسبة متدنية للغاية وتأتي على رأس القائمة في نسبة الأمية في اليمن (64.1% على مستوى المحافظات) رغم أنها من أقلها من حيث انتشار للفقر طبقا لأخر المؤشرات الإحصائية.
وتبقى القبيلة وزعماء العشائر اللاعبون الرئيسيون فيها، فهم ما يزالون يؤدون دورا محوريا في تسيير الشأن المحلي على حساب تواجد ونفوذ مؤسسات الدولة، الذي بقى مقتصرا على مركز المحافظة وعلى مراكز المديريات القريبة منها.
ورغم أن علاقات القبائل يسودها في الغالب الأعم الصراع، إلا أن العادة جرت أن يتضامن أبناء القبيلة الواحدة في مواجهة القبائل الأخرى، وغالبا ما تتعاون القبائل فيما بينها تجاه الغريب.
يضاف إلى ذلك أن أتباع الحوثي اجتماعيا هم من العلويين والهاشميين، أو من أبناء بعض تلك القبائل المعروفة بقوة شوكتها ونفوذها، مما أدى إلى تضافر العامل القبلي والتعبئة العقائدية الدينية للمذهب الشيعي، الذي يتأسس على أخلاقيات الطاعة للإمام، ويقضي بوجوب الانصياع له والامتثال لأوامره ونواهيه.
كل ذلك قدم حافزاً معنوياً كبيراً للمقاتلين، والذي بدا أثره في ما نقله شهود عيان من أن أولئك المقاتلين يندفعون باستماتة في القتال بشكل غير مسبوق.
كما أن السلاح متوفر.. بكثرة!
على مدار العقود الثلاثة الماضية، اشتهرت محافظة صعدة بوجود أكبر سوق للسلاح في اليمن، وهو المعروف بسوق “الطلح” الشهير، الذي كانت القوات الحكومية قد داهمته قبل أسابيع قليلة من انفجار الوضع.
ويعتقد الملاحظون أن وجود مثل ذلك السوق أتاح للسكان التعرف والتعامل مع مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، واختبارها واقتنائها لمواجهة الأخطار والصراعات والثارات الدائمة بين قبائل تلك المناطق.
ويوردون أنه إلى جانب كل تلك المحددات التي حكمت سير المواجهات منذ اللحظات الأولى، لعبت الطبيعة الجغرافية للمنطقة هي الأخرى دورا كبيرا في إطالة أمد المناوشات وتوسيع رقعتها وارتفاع تكلفتها.
فمحافظة صعدة من المناطق الزراعية المعروفة بتشتت تجمعاتها السكانية الموزعة في شكل قرى وأرياف صغيرة تصل إلى نحو 23 ألف تجمع (على غرار ما هو حاصل في اليمن برمته)، وهذا العامل لعب دورا كبيرا في اتساع نطاق جبهة المعركة وامتداد فضائها على منحدرات وبين مرتفعات شديدة الوعورة وجبال شاهقة، يصل ارتفاع بعضها إلى 2500 متر فوق سطح البحر. هذا ناهيك عن أن الجيش يجهل في الأصل طبيعة تلك المناطق ووعورتها، ويفتقد للفنون القتالية على حرب العصابات.
كل تلك العوامل والأسباب في تشابكها وتداخلها أدت متظافرة إلى إطالة أمد المواجهات، وساهمت في ارتفاع كلفتها. واليوم يأمل الجميع في إمكانية فتح صفحة جديدة بعد حسم المواجهات، يلملم الجميع فيها جروحهم، ويشيحون بوجوههم عن الماضي، متطلعين إلى آفاق أرحب .. فهل لا زال ذلك ممكنا؟
عبد الكريم سلام – صنعاء
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.