نهاية سنة سياسية ساخنة في تونس
شهدت تونس مؤخرا تصعيدا خطيرا في المواجهة بين السلطة وعدد من منظمات المجتمع المدني وهو ما أثار قلق الأوساط السياسية والحقوقية ودفع بالمراقبين إلى الاستغراب والتساؤل عن الأسباب التي يمكن أن تفسر ما حصل من منع ومصادمات.
كما كثر الحديث عن مدى تأثير هذا الصراع المفتوح بين الطرفين على الاستقرار وصورة تونس الخارجية.
كان ملف إنشاء “المعهد الأعلى للمحاماة ” في طريقه نحو تسوية ترضي جميع الأطراف، غير أن “هناك من دفع به نحو التعجيل بإحالته على مجلس النواب للبت فيه دون الأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر المعنيين بالأمر”، حسب قول أحد المطلعين على خلفية الملف. وهكذا وجد المحامون أنفسهم في حالة مواجهة مع وزارة العدل، قبل أن يجدوا أنفسهم في اشتباك عضلي مع قوى الأمن. وبقطع النظر عن عدد المحامين الذين انخرطوا في الاعتصام، أو أيدوا الإضراب عن الطعام، فالأهم من ذلك هو أن ما جرى في الأيام الماضية كان سابقة في تاريخ العلاقة بين الحكم وقطاع المحاماة منذ الإستقلال خاصة وأن هذه الأزمة انفجرت مباشرة بعد ملف جمعية القضاة الذي كشف عن حالة تململ لا يمكن التقليل من أهميتها.
هدا القطاع الذي فشلت السلطة مند الستينات في إخضاعه بالكامل، نظرا لكونه يقع في منطقة تماس بين رغبة السلطة في السيطرة على الأفراد والمجتمع وبين الحقوق والحريات التي بدون احترامها يضيع العدل وينهار العمران. ولهذا كان تاريخ المحاماة في صورة منه هو تاريخ التجاذب بين السلطة التنفيذية والحزب الحاكم من جهة، وبين المحامين وبالأخص المسيسين منهم من جهة ثانية. كل طرف يسعى إلى أن يسيطر على الهيكلين الممثلين للقطاع، وهما ” الهيئة الوطنية ” و” جمعية المحامين الشبان”.
أما حالة التنازع المباشر فتتجلى بوضوح عندما يقرر النظام تأديب بعض المعارضين بإحالتهم على القضاء بتهم تتعلق بنشاطهم السياسي أو بآرائهم المناهضة للحكم. وفي جميع هده الحالات وقف قسم من المحامين، ليدافعوا عن المتهمين، وأحيانا يحولون تلك المناسبات إلى فرصة لمحاكمات النظام وإدانة سياساته. لهذا السبب يعتقد البعض، بأن مصلحة السلطة تقتضي البحث عن صيغ تمكنها من ضمان التحكم في القطاع راهنا مستقبله، وتجعله بعيدا عما تصفه بـ ” تسييس القطاع “، رغم وجود “خلية” للمحامين المنتمين للحزب الحاكم.
مواجهة مع الرابطة
هذه المعركة الحامية مع المحامين تزامنت مع اتساع المواجهة بين السلطة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. فبعد منع الرابطة من عقد مؤتمرها خلال شهر أكتوبر من السنة الماضية، أعادت الهيئة المديرة الكرة، ووجهت الدعوة للمؤتمرين والضيوف للتوجه نحو مقرها يوم 27 مايو الماضي. وتمثلت المفاجئة في حصار أمني قوي، لم يقتصر على أعضاء الهيئة المديرة، أو على مداخل الحي الذي يوجد به مقر المنظمة، ولكنه شمل أيضا كل المحافظات التي ستنطلق منها الوفود الممثلة لهيئات الفروع لثني أفرادها عن الانتقال إلى العاصمة، وهو ما أثار دهشة واستغراب الجميع.
لقد نجحت السلطة للمرة الثانية في إفشال محاولة الهيئة المديرة للرابطة عقد المؤتمر. وهو ما يؤكد بأن الخلاف في جوهره سياسي، وأنه بدون التوصل إلى تسوية ترضي الطرفين، فإن المأزق الذي تمر به الرابطة مرشح للاستمرار والتفاقم.
لكن في المقابل، يمكن القول أن الهيئة المديرة الحالية حققت مكسبا رمزيا، ولكنه هام، حين ثبت بالملموس أنه بالرغم من كل الصعوبات والحواجز، فإن أغلبية واسعة من فروعها لا تزال حريصة على عقد المؤتمر، وأن جزءا كبيرا من المجتمع المدني ومكونات الحركة الديمقراطية قد عبرت بوضوح عن مساندتها للرابطة. كما أن المنظمات العربية والدولية، إلى جانب الحكومات الغربية، قد استجابت بدورها لنداء الهيئة المديرة، وهو ما أكد أن إلحاح الخطاب الرسمي على اعتبار أن الخلاف القائم هو “خلاف داخلي تنظيمي صرف” لم يقنع أحدا من هذه الجهات.
إن المواجهة الأخيرة بين السلطة والرابطة قد زادت من تشعب هذا الملف، وجعلت الحل يبدو أكثر تعقيدا وصعوبة. فالصراع تشخص، والسلطة أغلقت جميع نوافذ الاستماع، وأصبحت متمسكة بهيبتها، رافضة كل أشكال محاولات ثني ذراعها من قبل أي كان. وفي المقابل، تجد الهيئة المديرة للرابطة نفسها في وضعية لم تعد تسمح لها بالتخلي عن كل المشوار الذي قطعته، والعودة إلى نقطة الصفر.
وهنا يتساءل المراقبون للساحة التونسية: من له مصلحة في أن يستمر ملف الرابطة مثار احتقان سياسي، وتشكيك خارجي متواصل في مصداقية السلطة ؟. ولعل هذا التخوف هو الذي دفع حزب الوحدة الشعبية إلى توجيه نداء لاعتماد الحوار كأسلوب لحل الإشكال، في حين ذهبت قيادة حركة الديمقراطيين الاشتراكيين إلى أكثر من ذلك، حيث خصصت اجتماعا مطولا لمكتبها السياسي لمناقشة موضوع الرابطة، وكلفت عضويين قياديين ببحث الملف مع هيئتها المديرة. وتجدر الإشارة إلى أن الحزبين ممثلان في البرلمان ويتمتعان بعلاقات مفتوحة مع السلطة، ويعتقدان بأن الرابطة ” مكسب وطني ” ليس من مصلحة تونس التفريط فيه.
مـسـاران
يعتمد الاستقرار في تونس على عمودين، أحدهما سياسي والثاني اجتماعي. وما يلفت النظر أن المحاولات التي تبدلها بعض أطراف المجتمع المدني وعدد من أحزاب المعارضة لفك ما تعتبره “حصارا يطوقها من كل جانب”، تتزامن مع سلسة من الضغوط والإضرابات التي تشنها بعض القطاعات العمالية. وقد كان آخرها الإضراب الناجح الدي شنه أعوان الصحة التابعين للقطاع العام يوم 31 مايو، والذين لم يتصدى لهم البوليس خلافا لما كان يتوقع.
وما تخشاه السلطة هو أن تتقاطع المطالب ذات الطابع السياسي بالمطالب الخاصة برفع الأجور، وتحسين القدرة الشرائية، وتشغيل أصحاب الشهادات، والتصدي لسياسة الخصخصة والتفويت في الشركات الناجحة التابعة للقطاع العام. لهذا، فبقدر ما يحاول شق في المعارضة الديمقراطية (إلى جانب عدد متزايد من النقابيين) جر قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل (النقابة العمالية الوحيدة في البلاد) إلى أن تربط من جديد المسألة الديمقراطية بالنضال الاجتماعي، وتعتبرها وجهان لقضية واحدة، تحرص السلطة في المقابل على إلغاء أي احتمال لحدوث التقاء بين المسارين: مسار الإصلاح السياسي بمسار حماية الحد الأدنى من حقوق الشغالين.
هل يلتقي المساران؟ سؤال قد تجيب عنه الأشهر القادمة، لكن اللافت للانتباه هو أن تباعدا في تناول بعض الملفات قد حصل بين قيادة الاتحاد والسلطة، كما أن هناك “ضربات تحت الحزام” قد سجلت في المرحلة الأخيرة، خاصة بعد أن تبنى اتحاد الشغل مسألة تأسيس “منتدى اجتماعي تونسي”، رغم تحفظات السلطة. أما السؤال الآخر الذي لا يقل أهمية عن سابقه فهو: هل ستستمر السلطة في تشددها الراهن، أم أن الفترة القادمة قد تشهد تغييرا، ولو طفيفا في أسلوب معالجة المسائل السياسية ؟.
صلاح الدين الجورشي – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.