هل تواجه الصحافة الجزائرية “أزمة مفيدة”؟
بعد أقل من ثلاثة اشهر من فوز عبد العزيز بوتفليقة بعهدة رئاسية ثانية، سُجن ثلاثة صحافيين جزائريين بارزين كانوا من أهم خصوم بوتفليقة خلال الحملة الانتخابية.
لكن سجنهم لم يكن ليجمع الصحافيين الجزائريين على كلمة واحدة، بل إن التناقض أضحى جليا بينهم حول براءة زملائهم المحبوسين.
يرى الكثير من رجال الإعلام في الجزائر أن الأزمة الحالية بين جزء من الصحافة الجزائرية والسلطات بشكل عام، وبين الصحافيين الجزائريين أنفسهم، كان لابد أن تبرز على السطح لأن خطر الجماعات المسلحة على مهنة المتاعب قد تراجع بشكل واضح منذ عام 96 من القرن الماضي.
ليس هناك شك أن خطر القتل من قبل الجماعات المسلحة، وحـَّد نساءَ ورجال الإعلام، وأجـَّل الخلافات الداخلية ومع الغير، إلى موعدٍ فُهمَ أنه قد حان أوانه لأن الصحافة الجزائرية تعيش في الفترة الحالية واحدة من أحلك فتراتها التاريخية، بعد فترة أواسط التسعينات عندما كان الصحافي لا يساوي ثمن رصاصة تُطلقُ في رأسه…
أما الآن فالسؤال جدي حول وزن الصحافي الجزائري على مستويات عدة، بدءا بالكيفية التي يُنظر إليه بها في أروقة رئاسة الجمهورية، ووصولا إلى قاعات التحرير التي تزخر بالطاقات الشابة.
الحقيقة أن قضية سجن الصحافيين الثلاثة، وهم محمد بن تشيكو مدير يومية “لوماتان” وحفناوي غول وأحمد بن ناعوم مدير يومية “الرأي”، لا تعبر عن قضية قمع حرية الإعلام، ولا تعبر أيضا بشكل جلي عن اختراقات قام بها المسجونون الثلاثة للقانون الجزائري.
الـخلفية
الصحافية الجزائرية غنية عكازي من يومية “كوتيديان دوران”، ترى أن بن تشيكو أعطى الفرصة للسلطات التي كانت تريد رأسه بخرقه للقانون، وهو الآن لا يُحاسب على قلمه الناقد والكاره للرئيس بوتفليقة، بل على مخالفته لقانون ساري المفعول.
وأضافت عكازي في تصريح لـ”سويس إنفو” بأن بن تشيكو مواطن عادي ارتكب جنحة يجب أن يُعاقب عليها، لكن كما طُبق القانون على بن تشيكو يجب أن يُطبق على المسؤولين الجزائريين من دون استثناء خاصة أولئك الذين يستغلون منصبهم السياسي أو الأمني، للقيام بنفس الخطأ الذي قام به بن تشيكو.
من الناحية النظرية، يعتبر بن تشيكو مدير يومية “لوماتان” لدى مصالح الرئاسة ووزارة الداخلية، طاعونا يجب التخلص منه. فهو صاحب كتاب صدر قبل الحملة الانتخابية، وسماه: “بوتفليقة الكذبة اللامعقولة”.
لم ينتظر أحد أن يكون بوتفليقة أو وزير الداخلية نور الدين يزيد زرهوني لينين مع بن تشيكو، غير أنه لم توجه له التهمة بسبب سلاطة لسانه بل لأنه منح خصومه فرصة في أوج حربه معهم، ولا يُعقل أن يرحموه وهو الذي وصفهم بأقبح الأوصاف واتهمهم بأخطر التهم.
وبالنسبة للمدير السابق ليومية “الرأي” الجزائرية، التي تصدر من وهران عاصمة الغرب الجزائري، فيبدو أن شعار الجريدة: “قبل شجاعة الشجعان”، لم تفد صاحبها كثيرا، لأنه متهم الآن بالاتجار غير المشروع، وبالاستيلاء على عقارات في مدينة وهران. كما أن أحمد بن ناعوم متهم من قبل إدارة أمن ولاية وهران، بالشتم والقذف والتشهير والقائمة طويلة.
يوجد الآن بن ناعوم في سجن مدينة وهران، وأوضاعه الصحية خطيرة. وبحكم رتابة الأداء البيروقراطي للسجون الجزائرية، فإن الاستجابة لمطالبه العلاجية المتكررة وهي خطيرة جدا، قد يراها بعض السجانين ترفا ويظهر أن إدارة السجن مقتنعة بهذا الأمر.
فكان أن راسل شقيق بن ناعوم الرئيس الجزائري، وطلب منه تفهم وضع أخيه الصحي، وهو ما يُعلق عليه رابح هوداف صحافي سابق في يومية “الرأي” بأنه “أمر غير معقول وينذر بخطر حقيقي على حرية الإعلام في الجزائر”.
وبخصوص الصحافي الثالث، المسجون في ولاية الجلفة وهو غول حفناوي، فيقول بشأنه رابح هوادف: “لا أعتقد أن تسمية الجلفة بالولاية أمر صحيح، فمن الأجدر بنا تسميتها بالسلطنة أو الإمارة، لأن الوالي هناك هو الحاكم بأمره ولا يقبل رأيا مخالفا من أي مسؤول آخر في الولاية، فما بالك بالصحافيين”.
ويُضيف هوادف: “لقد رُتبت للصحافي غول حفناوي مجموعة تزيد على ثمانية وثلاثين اتهاما، كلها مرتبطة بالقذف والتشهير ومن بينها تسريبه لخبر مقتل أحد عشر رضيعا في مستشفى الجلفة بسبب الإهمال وانعدام النظافة”.
مواطنون أولا.. ثم صحافيون
ينتمي رابح هوادف إلى الصحافيين المتخوفين على حرية الإعلام، والقائلين بفكرة أن الحكومة تلجأ إلى الأخطاء المرتكبة من قبل الصحافيين لتجريمهم على ما فعلوه على خلفية كتاباتهم.
ويرى هذا القسم من نساء ورجال الإعلام، أن هناك برنامجا حكوميا غير معلن، يقضي بتكميم الأفواه جملة وتفصيلا، وبطريقة لا تغضب المجتمع الدولي، وخاصة الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة.
يُناقض اتجاه رابح هوادف وزملائه، رأي آخر يعبر عنه منير بوجمعة، الصحافي الجزائري المتخصص في المسائل الأمنية والجماعات المسلحة، حيث يؤكد بوجمعة لسويس إنفو، بأن المسألة لا ترتبط بالحرية الإعلامية، بقدر ما ترتبط بعقلية بعض الصحافيين الجزائريين، الذين يظنون بأن لديهم حصانة قانونية تشبه حصانه الدبلوماسيين والبرلمانيين.
ويُضيف بوجمعة: “نحن بشر عاديين، ولسنا متميزين على الإطلاق، ونحن مواطنون قبل أن نكون صحافيين، وبعض الزملاء يريد أن يفرض مسألة تعشعشت في عقولهم خلال الحرب مع الإرهاب أواسط التسعينات وهي أنهم فوق القانون. وقد رسخت هذه الفكرة بسبب تكتل الإعلاميين الجزائريين وهم يواجهون الإرهاب الأعمى الذي استهدفهم بشكل خاص، فكان أن أجلت المشاكل الحقيقية إلى موعد لاحق”.
من ناحية أخرى، يرى بوجمعة وزملائه أن حرية الإعلام ليست مهددة في الجزائر، لأن الصحف لا زالت تكتب ما تشاء، وتنتقد المسؤولين المدنيين والعسكريين من دون استثناء.
غير أن منير بوجمعة يرى المسألة من زاوية أخرى إذ يؤكد على أهمية مراجعة الوضع الداخلي للصحافيين قبل التهجم على الغير: “أغلب الصحافيين غير مؤمنين صحيا واجتماعيا وإذا ما حدث لهم مكروه يُلقون في الزبالة ولا يلتفت إليهم أحد، ورأينا زملاء لنا مرضى أو هلكوا بسبب مهنتهم ولم يتلق أهلهم دينارا واحدا لأنهم غير مؤمنين لدى المؤسسات المختصة بهذا الأمر”.
ويضيف بوجمعة: “لماذا لا يحق للصحافيين الذين يهاجمون أعلى هيئات الدولة، أن يفتحوا فمهم داخل قاعات التحرير لرفع أجورهم التي تقل عن أجور مديري الجرائد عشرات المرات؟ ثم لماذا ترفض أغلب إدارات الصحف المستقلة التطرق إلى مسألة الوضع الاجتماعي والمهني للصحافيين؟”
“أزمة مفيدة”
مثل هذا الحوار الداخلي قد يتحول إلى أزمة ينتج عنها وضع صحي جديد للصحافة الجزائرية، ويتضح أن سجن الصحافيين الثلاثة لم يكن شرا كله على مهنة المتاعب في الجزائر، بل فجر حوارا جدليا مفيدا حسب ما يظهر من كل المؤشرات.
من الناحية العملية، يصعب أن يُنتظر من الرئيس الجزائري “الرحمة والشفقة المطلقتين” أمام صحافيين لا ينتقدونه بل يشتمونه ويسبونه في مخالفة صريحة لأبسط أخلاقيات المهنة.
غير أن بوتفليقة لم يغلق يومية “لوماتان”، التي سجن مديرها محمد بن تشيكو، في إشارة واضحة إلى الحدود التي يمكن للجميع الوصول إليها أو التعدي عليها.
كما أن دهاء بوتفليقة السياسي يجب أن يقابل من قبل الصحافيين باستعمال عقلاني للغرور الثقافي، فالخبرة تغلب الذكاء أحيانا كما أن الحكومة أقوى من المجتمع المدني في أغلب الأحيان أيضا.
ثم لننظر إلى الوضع الحالي عبر سؤال تصعب الإجابة عليه: “هل قوة بوتفليقة أكبر من سجن ثلاثة صحافيين وأن بإمكانه سجن الصحافيين جميعا وتكميم أفواههم إلى أجل غير مسمى؟ أم أن حدود بوتفليقة العملية تتوقف عند حد سجن مجموعة من الصحافيين ولا يمكنه إسكات الصحافيين جميعا؟”.
هنا تظهر خبرة الرجل، واختلاف الصحافيين الجلي بسبب صغر السن من جهة، ولأن من يرأسونهم هم في الغالب من مدرسة بوتفليقة الفكرية والثقافية.
ولسائل أن يسأل عن الأوضاع المالية لمدير يومية “لوماتان”، هل يعتبر أجره الشهري منطقيا مقابل ما يتقاضاه الصحافيون في يوميته؟
علاقة المواطن بالصحافيين
ثم لماذا لم يتحرك الشارع الجزائري دفاعا عن الصحافيين المسجونين؟ هل لاعتقاد الشارع بأن الحكومة على حق؟ أم لأن العلاقة بين الصحافيين والمواطنين بشكل عام ليست على ما يُرام؟
يجيب رابح هوادف عن هذا السؤال قائلا: “إنها أزمة العلاقة بين النخبة والشعب، ولا علاقة لنا بالمواطنين عموما فنحن في واد هم في واد آخر”.
أما الصحافي منير بوجمعة، فيجيب على السؤال برأي آخر مؤكدا لسويس إنفو: “بأن العلاقة الباردة بين أغلب المواطنين والصحافة، مردها إلى تكبر رجال الإعلام، وتصورهم بأنهم فوق القانون”.
دبلوماسيا، تعتبر زيارة وزير الخارجية الفرنسي ميشال بارنييه الأسبوع الماضي، خسارة كبيرة للصحافيين الذين انتظروا موقفا صارما من الوزير الفرنسي، الذي عبر عند لقاءه مع المسؤولين الجزائريين على أهمية الحفاظ على حرية الإعلام، غير أن كلامه لم يُترجم عمليا بإطلاق سراح الصحافيين أو بتغيير لهجة الحكومة.
الأمر الذي يعني ببساطة شديدة أن الصحافة الجزائرية دخلت مرحلة جديدة تسبقها مراجعة هامة وخطيرة لكل الحسابات الداخلية والخارجية. فمن الناحية العملية ليس هناك خطر جدي على حرية الإعلام، غير أن الخطر قد يُصبح جديا وحقيقيا عندما يتقوقع الإعلاميون الجزائريون على أنفسهم وينسون أنهم جزء من المجتمع لهم ما له وعليهم ما عليه.
غير أن واجب الالتزام بحرية الكلمة، ولنقل صوت زملائنا الذي يريدون رؤية بن تشيكو وغول وبن ناعوم خارج السجن، فإن النداء المنطقي للدولة الجزائرية، برئيسها وحكومتها هو: “أطلقوا سراحهم إن كان سجنهم على علاقة بأقلامهم وأن القانون العام استعمل ضدهم بغير وجه حق”.
هيثم رباني – الجزائر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.