مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

هل حان الوقت لوقفة تأمل؟

سياسة التحرير الإقتصادي وتفكيك كبرى مؤسسات القطاع العام في الكونفدرالية لا زالت محل جدل في سويسرا swissinfo.ch

تجدد الجدل في سويسرا هذا الأسبوع، بدون سابق تخطيط، حول مخاطر تحرير المجالات الرئيسية في القطاع العمومي. فعلى الرغم من الإقتناع الواسع بضرورة فتح الباب أمام المنافسة وتطبيق قواعد السوق، إلا أن البعض بدأ يحذر من مخاطر تفكك النسيج الإجتماعي والتماسك .. الوطني!!!

يوم الإثنين الماضي، شهدت العاصمة الفدرالية نقاشا ساخنا على امتداد عدة ساعات بين جميع الأطراف المعنية بالسياسات الإقتصادية في إطار حوار دعت إليه منظمة “حوارات سويسرية” حول مستقبل أهم مؤسسات القطاع العام في الكونفدرالية وهي البريد والسكك الحديدية وشركات إنتاج وتوزيع الطاقة والهاتف والبث الإذاعي والتلفزيوني.

إثارة الجدل حول هذا الموضوع لا يعني أن سويسرا تستعد للتخلي عن الليبيرالية الإقتصادية، لكن الفرصة كانت مناسبة ثمينة لتبادل وجهات النظر حول حصيلة السنوات الأخيرة التي شهدت انقلابا حقيقيا في أهم مؤسسات القطاع العام التي صاغت إلى حد بعيد ملامح النسيج الإجتماعي والإقتصادي في سويسرا منذ قيام الكونفدرالية في عام 1848.

فقد تم تفكيك مؤسسة البريد والبرق والهاتف إلى واحدة متخصصة في كل ما يتعلق بالبريد والطرود وأخرى استلمت سوق الاتصالات الهاتفية والمعلوماتية المفتوح للمنافسة. أما شركة السكك الحديدية فقد تحولت إلى مؤسسة خاصة في الوقت الذي تكاد تنتهي فيه عملية الفصل بين البنية التحتية (أي التجهيزات والعربات وشبكة السكك الحديدية ) وقطاع نقل البضائع والمسافرين.

مجالات حيوية أخرى كالبث الإذاعي والتلفزيوني وإنتاج وتوزيع الطاقة بدأت تتجه هي الأخرى، وعلى غرار البلدان الأوروبية، إلى مزيد من التحرر والتعامل بمنطق العرض والطلب بعد أن ظلت لعشرات السنين محمية بشكل أو بآخر من طرف الدولة التي تحولت اليوم من “فاعل” يقرر السياسات ويحسم التوجهات إلى مجرد “مراقب” يوفر ظروف التنافس ويسهر على احترام الجميع لقوانين السوق.

لكن الجدل الذي تصاعد في السنوات الأخيرة بحكم تنامي تيارات المناهضة للعولمة ونتيجة لفشل بعض تجارب تخصيص المرافق العامة في بعض البلدان الأوروبية (مثل ما حصل لشركات السكك الحديدية في بريطانيا)، عزز مواقف الأطراف الداعية إلى التروي وعدم الإستمرار في سياسة التفكيك الشامل لأهم مؤسسات القطاع العام في الكونفدرالية.

تحذير غير مسبوق!

وقد كشف الجدل عن استمرار وجود اختلافات جوهرية بين ممثلي المؤسسات الإقتصادية الداعين إلى وضع حد نهائي لتدخل الدولة وبين ممثلي المستهلكين والعمال الذين ذكّروا على لسان أرنست لوينبرغر رئيس نقابة عمال السكك الحديدية بأن “أغلبية العمال العاديين هم المحتاجون إلى توفر خدمات بأسعار معقولة وفي كل أنحاء الوطن” وبأنه لا يمكن ربط كل شيء بالنجاعة الإقتصادية البحتة.

فاستمرار عمل مكاتب البريد الصغيرة في البلدات النائية في مرتفعات الألب مثلا أو ضمان وصول القطار إلى محطات شبه مهجورة لا يتردد عليها عدد كاف من الحرفاء، أمور هامة جدا “لأن مؤسسات القطاع العام تلعب أيضا دورا في تعزيز الإنتماء إلى الوطن”، على حد قول السيدة سيمونيتا سوماروغا رئيسة منظمة المستهلكات السويسريات.

في المقابل، حث نيكلاوس شنايدر-أمّان، ممثل رجال الأعمال في الندوة على عدم التوقف في منتصف الطريق والإستمرار في عمليات التخصيص، لكنه أقر بشكل غير مباشر بوجود ضرورة لقيام السلطات العمومية بعملية “تعديل” من أجل الحفاظ على الإنسجام الوطني وتكافئ الفرص بين الجهات.

حصيلة الحوارات التي شهدتها برن يوم الإثنين وجدت صدى غير متوقع لها يوم الجمعة الموالي. فقد كشفت صحيفة “لوتون” الصادرة في جنيف عن توصيات هامة تضمنتها دراسة أعدتها مجموعة من الخبراء (جامعيون ورجال أعمال ونقابيون وموظفون فيدراليون وصيارفة) بطلب من كتابة الدولة للإقتصاد حول مستقبل الإصلاحات في المؤسسات التابعة للقطاع العام.

حل “وسط” على الطريقة السويسرية؟

الدراسة حذرت من بعض الإنعكاسات المحتملة لتحرير الخدمات العامة ومن بينها انخرام التوازنات –السكانية والإقتصادية- القائمة في منطقة جغرافية محددة من الكونفدرالية. وهو ما قد يهدد باحتداد التنافس والتوترات والفوارق بين مراكز اقتصادية قوية وهوامش ريفية ضعيفة في مختلف مناطق البلاد. كما نبّهت الدراسة التي أشرف على إعدادها البرفسور بايات بورغنماير من جامعة جنيف إلى أنّ تمركز المؤسسات العمومية بناء على متطلبات المردودية والنجاعة الإقتصادية يتعارض مع السياسات الجهوية بل “يمس من النظام الفدرالي”!

وبما أنه لا يمكن أن يتهم معدّو الدراسة بالتطرف اليساري أو بمعاداة أسس الحرية الإقتصادية، فان ربط مستقبل عمليات التحرير الجارية في مؤسسات القطاع العام في سويسرا ببعض الثوابت التي انبنى عليها الكيان الفدرالي منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر، سابقة مثيرة للإهتمام الشديد.

فالإنتقادات الموجهة لليبيرالية غير المقيدة ليست حدثا طارئا في سويسرا. لكن ورودها بمثل هذا التفصيل والوضوح في دراسة جدية مولتها كتابة الدولة للإقتصاد يظل أمرا نادر الحدوث ويشير إلى أن المخاوف بدأت تشتد من الإنعكاسات الخطيرة المحتملة التي قد تنجم عن استمرار سياسة تفكيك المؤسسات العمومية الكبرى.

وفيما لا ينتظر أحد أن يحدث تغيير جذري في مسار التخصيص والتحررية الإقتصادية في سويسرا، يبدو أن السلطات الفدرالية تتجه، طبقا لما جاء في مداخلة وزير الإقتصاد باسكال كوشبان في ختام ندوة الحوار التي انتظمت يوم الإثنين الماضي في العاصمة الفدرالية، إلى بلورة نوع من “الحل الوسط” الذي يمزج بين تعزيز التنافس وتخفيف حدة الإحتكارات القائمة مع الحفاظ على جودة الأداء الحالية ومراعاة التوازنات الجهوية وخصائص النظام الفدرالي السويسري.

سويس إنفو

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية