هل خسر الفلسطينيون “حرب الانتفاضة”؟
بعد أربع سنوات من الانتفاضة، هل خسر الفلسطينيون حربا لا يفترض أن يخسروها؟
فلنقل،على الأقل، أنهم لم يربحوها. ليس فقط لأن الانتفاضة لم تتوجّ، كما يُـفترض بدولة فلسطينية مستقلة، بل أيضا لأن غبار السنوات الأربع انجلى عن وضع فلسطيني متعب ومرهق ومشتت على كافة الأصعدة.
الوضع الفلسطيني أشبه بسفينة فقد ربّـانها السيطرة عليها برغم الأمواج العاتية التي تتعرض لها، فقدت اتجاهها وانقسم بحّـارتها إلى فرق مستقلة لا رابط بينها.
يتهاوى النظام السياسي الفلسطيني الذي أنتجته اتفاقات أوسلو بسبب الحصار من الخارج، والانقسامات من الداخل، ولم يعد قادرا على توفير المتطلبات الأساسية المطلوبة من أي سلطة سياسية: ضمان الأمن والقانون، تأمين الحاجات المعيشية الأساسية، والإمساك بناصية القرارات والمبادرات، هذا بالطبع إضافة إلى بلورة البرامج السياسية.
يقول روبرت مالي، مدير دائرة الشرق الأوسط في “إنترناشنال كرايسس غروب”: “السلطة الوطنية الفلسطينية لم تعد وطنية، وبالكاد تمارس سلطة. فقوات أمنها التي تعرّضت إلى الجزء الأكبر من الهجمات الإسرائيلية، جُـرّدت إلى حد كبير من سلاحها، ولا تمتلك حرية الحركة، وأصبحت نشاطاتها في أحسن الأحوال عشوائية”، إضافة إلى أن حركة “فتح”، التي تعتبر العمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية، “تفكّـكت سياسيا وتحللت جغرافيا، ووُضع أنشط قادتها خلف القضبان الإسرائيلية، وهي قد لا تبقى على قيد الحياة خلال الصراع على السلطة الذي سينشأ بعد وفاة أو مصرع الرئيس ياسر عرفات” حسب رأيه.
ملء الفراغ
هناك قوى مختلفة ومتباينة تحاول ملء هذا الفراغ الخطير:
– القوى التقليدية المتكونة من رؤساء البلديات والمحافظين وروابط الأسر والعشائر التي تعمل على وراثة مؤسسات السلطة الوطنية المطروحة أرضا.
– الميليشيات المسلحة، خاصة تلك التي تعمل تحت مظلة الإطار الفضفاض لـ “كتائب شهداء الأقصى”، وكانت في الأساس مولودا فتحاويا هدفه قيادة الكفاح المسلح، لكنها تعمل اليوم بشكل لا مركزي وفوضوي. ففي بعض الأحيان تعتمد مجموعات من الكتائب على مسؤول في فتح أو في السلطة الوطنية، للحصول على التمويل والأسلحة، وفي أحيان أخرى، تحصل على ذلك من مجموعات مثل “حماس” و”الجهاد” و”حزب الله” اللبناني. ويعتقد المحللون أن كتائب الأقصى بدأت تصبح رويدا رويدا أدوات لشن الصراعات الداخلية الفلسطينية، والنزاعات الإقليمية الأوسع.
– حركة “حماس” التي تحاول جاهدة، برغم الضربات الإسرائيلية المشلّـة التي تتعرض لها مواردها المالية والقيادية، وراثة “فتح” كقائد للحركة الوطنية، وهي تنوي تحدي ومنافسة عرفات في الانتخابات المقبلة.
– ثم هناك بالطبع ما يسمى بـ “نخبة أوسلو” التي تقاتل بشراسة الآن للحفاظ على ما تبقى لها من سلطة وامتيازات.
حرسا “قديم” وآخـر “شـاب”
برغم ضرورة عدم التقليل من خطورة الخلافات بين فتح وحماس، إلا أن الصراع الحقيقي هو أساسا بين “نخبة أوسلو” (“الحرس القديم”) وبين “نخب الانتفاضة” (“الحرس الجديد” أو”الشاب”).
تتشكل نخبة أوسلو من قادة منظمة التحرير الفلسطينية المتقدمين في السن، وعلى رأسهم عرفات نفسه، إضافة إلى محمود عباس (أبو مازن) وأحمد قريع، ونبيل شعث. هؤلاء الرجال عاشوا القسم الأكبر من حياتهم في المنفى، وخاصة في تونس، حيث كان مقر قيادة السلطة الفلسطينية، لذا يطلق عليهم الفلسطينيون لقب “التوانسة”، وكثيرون منهم من عاد إلى فلسطين من المنفى نتيجة اتفاقيات أوسلو.
في المقابل، وُلدت “نخبة الانتفاضة” ونشأت في غزة والضفة الغربية، ويختلف تاريخها تمام الاختلاف عن تاريخ “نخبة أوسلو”. فهي تنزع أكثر باتجاه الفقر الاقتصادي والمستوى التعليمي الأفضل، أصحابها مستعدون للتفاوض مع إسرائيل، كما هم مستعدون لمحاربتها، إذ لا أوهام لديهم حولها، وقد كانوا من أكثر الناقدين العلنيين للتسلط الذي مارسته السلطة الفلسطينية.
الحرس الشاب هو من حارب إسرائيل في الانتفاضة الأولى (1987- 1993)، وكانت انتفاضة غير مسلحة أساسا، وهو من قاد انتفاضة الأقصى الأكثر عنفا، وتضم هذه الجماعة مؤسسات متعددة المشارب من المجتمع المدني الفلسطيني.
التنافس ما بين مجموعتي النخبتين سيُـحدد مصير عملية انتقال السلطة إلى درجة كبيرة، وسيحدد أيضا مسار السياسات الفلسطينية. إنه في الواقع صراع بين جيلين، ولكنه صراع سوسيولوجي أساسا بين نمطين مختلفين من الرؤى ومجموعتين مختلفتين من قوانين اللعبة السياسية.
ونظرا إلى أن “مشروع السلام” في السنوات الماضية كان مخيّـبا من حيث نتائجه، (إذ أدى إلى قيام مستوطنات جديدة واستقطاع أراضى جديدة من قبل إسرائيل)، فإنه من المرجح أن يكون خليفة عرفات من نخبة الانتفاضة المحلية.
الداخل والخارج
لماذا وصل الوضع الفلسطيني إلى هذه المرحلة الحرجة؟ لا ريب أن العوامل الخارجية لعبت دورا كبيرا. فإدارة بوش قصمت ظهر السلطة الفلسطينية، حين سحبت عنها الغطاء وسمحت للقوات الإسرائيلية باجتياح مناطقها وتدمير مؤسساتها الأمنية والسياسية وبناها الاقتصادية. وحكومة شارون أكملت المهمة بشن حرب لا هوادة فيها عليها.
بيد أن الدور الكبير للعوامل الخارجية لا يعني أن مسؤولية العوامل الداخلية ليست كبيرة أيضا. فنخبة أوسلو فشلت في إدراك معنى التغييرات الكبيرة التي طرأت على البيئة الإقليمية – الدولية مع مجيء شارون والمحافظين الجدد الأمريكيين إلى السلطة.
كما فشلت أيضا في التحضير لمرحلة ما بعد اتفاقات أوسلو، برغم إدراكها أن المحافظين القدماء في تل أبيب، والمحافظين الجدد في واشنطن قرروا نسف هذه الاتفاقات من أساسها.
ولم تُـدرك “حماس” بدورها طبيعة هذه المتغيرات، إذ واصلت عملياتها الاستشهادية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 في أمريكا، الأمر الذي مكّـن الأمريكيين والإسرائيليين من استنفار جزء لا بأس به من الرأيين العامين، الأوروبي والدولي ضد الفلسطينيين، والحصيلة: تخبط السفينة الفلسطينية وضياعها.
لكن، هل تعني هذه الخسارة الفلسطينية الصافية المحتملة ربحا صافيا محتملا لإسرائيل؟ قد يكون الأمر كذلك على هذا النحو على المدى القصير، لكن على المدى المتوسط والطويل، ربما تنقلب الموازين مجددا، إذ أن مشروع شارون للانسحاب من غزة بهدف ابتلاع الضفة سيثير في وجه الدولة العبرية موجة عداء تاريخية جديدة وعاتية في العالمين العربي والإسلامي، وسيسفر في النهاية عن بلورة حركة تحرر وطني فلسطينية جديدة أكثر تطورا وتماسكا، وربما أكثر راديكالية أيضا.
ولا يستبعد أيضا العديد من المراقبين الشرق أوسطيين أن تؤدي خسارة الفلسطينيين المحتملة لمعركة انتفاضة الأقصى إلى تشجيع العديد من المنظمات على تكرار عمليات 11 سبتمبر الأمريكية في إسرائيل.
وبالطبع، مثل هذا التطور – إن حدث – سيقلب كل موازين القوى الراهنة رأسا على عقب، بما في ذلك مفاهيم الربح والخسارة المتعلقة بها.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.