هل يصبح العراق مقبرة للمحافظين الجدد؟
طالب تقرير أصدره "مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية في واشنطن" بإقصاء كل رموز المحافظين الجدد في وزارة الدفاع، ومكتب نائب الرئيس ديك تشيني، ووكالة الأمن القومي الأمريكية بعد أن ثبتت أخطاؤهم الفادحة في العراق.
سويس إنفو حاورت في واشنطن أنتوني كوردسمان معد التقرير.
في لقاء مع سويس إنفو، قال الدكتور أنتوني كوردسمان خبير الشؤون الاستراتيجية بالمركز، والذي أعد التقرير “لقد آن الأوان لمواجهة حقيقة أنه لم يسبق للولايات المتحدة أن شهدت أوهاما خطيرة في سياستها الخارجية مثل تلك التي روّج لها المحافظون الجدد فيما يتعلق بالشرق الأوسط، وقد أدت تلك الأوهام إلى مصرع وإصابة الآلاف من الأمريكيين وقوات التحالف في العراق، وأصبحت تهدد الآن بهزيمة استراتيجية خطيرة للولايات المتحدة. ولهذا، يجب أن يتم الاستغناء عن المحافظين الجدد في مكتب وزير الدفاع رامسفيلد، ونائب الرئيس ديك تشيني، وكذلك في وكالة الأمن القومي حتى يمكن الوقوف على أرض الواقع بعيدا عن تلك الأوهام”.
وقال الخبير الاستراتيجي الأمريكي لسويس إنفو، يجب أن تتخلى إدارة الرئيس بوش عن الوهم الخاص بأنه سيكون بوسع الولايات المتحدة أن تحول العراق إلى دولة ديمقراطية تكون نموذجا تحتذي به دول الشرق الأوسط، والتحول بدلا من ذلك إلى استراتيجية واقعية تعمل مع الشعب العراقي على تشكيل حكومة تحظى بالتأييد الشعبي وبالشرعية ولا تعتمد على العراقيين العائدين من المنفى أو على أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، بحيث تضمن مصالح كل الفئات العراقية.
وفيما يتعلق بمهام حفظ الأمن المتعثرة في العراق، رغم وجود مائة وثلاثين ألف من الجنود الأمريكيين على الأرض العراقية، قال الدكتور كوردسمان: “يجب أن تصبح قوات الأمن العراقية مسؤولة بنفسها عن حفظ الأمن والنظام، وليست في شكل وحدات ملحقة بقوات الاحتلال الأمريكية، بل يجب أن تحل محل تلك القوات في تنفيذ أكبر عدد من المهام وبأقصى سرعة، وكان من الواجب أن يكون ذلك أولوية قصوى ولكن يتعين الآن تدريب قوات الأمن العراقية بأعداد كبيرة وتزويدها بالتجهيزات اللازمة على وجه السرعة، كما ينبغي أن يُـشارك العراقيون بأنفسهم في تخطيط متطلبات الأمن مثلما نجح هذا الأسلوب في الفلوجة”.
وتطرق الدكتور كوردسمان إلى ضرورة التخلي عن وهم آخر من أوهام المحافظين الجدد، وهو أن الولايات المتحدة هي التي تقرر ما الذي يحتاج إليه العراقيون، وبالتالي، هي التي تطرح العطاءات على المقاولين والشركات الأمريكية وقال:”يجب تسليم اعتمادات وأموال المساعدات الأمريكية إلى الوزارات العراقية المعنية والحكومات المحلية في المحافظات العراقية مع التأكّـد من الشفافية في الإنفاق، وسيؤدي ذلك إلى نقل عملي أوسع نطاقا للسلطة إلى العراقيين، وهو اقتراح يحظى بمساندة عديد من المسؤولين الأمريكيين في وزارتي الخارجية والدفاع، بل والإدارة المدنية المؤقتة في العراق، ولكن ليس واضحا ما إذا كانت إدارة الرئيس بوش تُـدرك تلك الضرورات وما إذا كان الكونغرس الأمريكي مستعدا للتعامل مع تلك الحقائق” على حد قوله.
الكونغرس في واد، والرئيس في واد آخر
وقد أظهرت جلسات الاستماع المتتالية التي عقدها الكونغرس بمجلسيه لاستجواب كبار المسؤولين في وزارة الدفاع وقادة القوات الأمريكية في العراق قلق المشرعين الأمريكيين من الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها إدارة الرئيس بوش في عملية غزو واحتلال العراق وإدارته كقوة احتلال، وكذلك مخاوف المشرعين الأمريكيين من النفق المظلم الذي سيتم من خلاله تسليم سلطة منقوصة وسيادة شكلية للعراقيين بحلول الثلاثين من الشهر القادم، فيما يوشك الاحتلال الأمريكي للعراق على دخول مرحلة الفشل الكامل.
وهو ما اضطر معه نائب وزير الدفاع بول وولفوفيتز، مهندس الغزو الأمريكي للعراق والمحرض الأكبر عليه إلى الإقرار أمام لجنة العلاقات الخارجية التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي بوقوع عملية التخطيط للحرب في العراق في عدد من الأخطاء في الحسابات وقال: “إن أكبر هذه الأخطاء الاعتقاد بأن الشعب العراقي سيحتمل احتلالا طويل الأمد، وأنه سيكون بوسع قوات الاحتلال الأمريكية خلق مناخ من السلام بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، ولم يكن أحد يفكر في أن سقوط النظام سيفتح باب الحرب ضد القوات الأمريكية، كما اعتمد التخطيط للحرب في العراق على أنه سيكون بوسع قوات الاحتلال توفير مناخ آمن يؤدي إلى الاستقرار” حسب تصريحاته.
كما أقر وولفوفيتز بأن الولايات المتحدة كانت بطيئة في تنفيذها لخطة تدريب قوات الأمن العراقية، فيما كانت حازمة ومسرعة في تحقيق هدف تصفية البعثيين في كافة المجالات، حيث حرمتهم من الخدمة في القوات العراقية والوظائف الحكومية، بل والمشاركة في الحياة السياسية.
واعترف وولفوفيتز أمام الكونغرس بخطأ آخر في الحسابات يقلل من شأن صمود فلول النظام العراقي السابق ومسانديه، ويستهين بقدرتهم على المقاومة بعد انتهاء الحرب، ولم يستطع تقديم إجابات واضحة أو محددة على أسئلة أعضاء لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ عن المدة المتوقعة لبقاء القوات الأمريكية في العراق، ولا عن الكيفية التي سيدير بها العراقيون شؤونهم بعد عملية نقل السلطة.
وعلّـق السناتور الديمقراطي كريستوفر دود على ذلك القصور في التخطيط للحرب وما بعدها فقال: “هناك أعداد هائلة من الأمريكيين يشعرون بقلق بالغ إزاء ما يمكن أن يصل إليه الوضع في العراق من سوء، إذا لم تكن هناك استراتيجية محكمة للخروج من هناك”.
لكن أغرب ما في تصريحات المسؤولين الأمريكيين هو ما جاء على لسان الرئيس بوش أمام اجتماع اللوبي الإسرائيلي في واشنطن (أيباك) حينما قال “إنه مع صعوبة الوضع في العراق، فإنه لن يتزحزح عن هدفه الخاص بمساعدة العراق على أن يصبح دولة حرة وديمقراطية في قلب الشرق الأوسط”، وهو تصريح جعل المحللين السياسيين يتساءلون هل هذه مكابرة رغم كل دلالات الفشل، أم أن الرئيس بوش هو في واقع الأمر “كبير المحافظين الجدد”؟
غير أن السناتور الجمهوري ريتشارد لوغر، رئيس لجنة العلاقات الدولية في مجلس الشيوخ طالب بخطة مفصّـلة لعملية نقل السلطة للعراقيين حتى يمكن إقناع العراقيين والدول الحليفة بأن لدى الولايات المتحدة استراتيجية، وإلا فستخاطر حكومة الرئيس بوش بفقدان تأييد الشعب الأمريكي وأي مساهمات محتملة من دول العالم وشعور الشعب العراقي بأنه كان واقعا تحت تأثير الوهم.
كما نبه ثاني أبرز الأعضاء في اللجنة، السناتور الديمقراطي جوزيف بايدن إلى أن حكومة الرئيس بوش واجهت في العراق مشكلتين رئيسيين، الأولى العجز عن توفير الأمن، والثانية العجز عن توفير الشرعية.
هل سيتخلّـون عن أوهامهم؟
وفيما يخشى المحافظون التقليديون داخل صفوف الحزب الجمهوري من أن الفشل الاستراتيجي الذي تعاني منه إدارة الرئيس بوش في العراق قد أدى إلى انخفاض شعبية الرئيس بوش إلى أدنى مستوى لها منذ توليه الرئاسة، وأن استمرار تدهور الوضع الأمني واتساع نطاق ردود الفعل الغاضبة إزاء فضيحة سجن أبو غريب قد يكلف الرئيس بوش كرسي الرئاسة في الانتخابات القادمة، يرى الدكتور أنتوني كوردسمان الخبير في مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية أن العديد من المسؤولين في الحكومة الأمريكية والمحافظين الجدد في حالة إنكار للحقائق السياسية القائمة في الشرق الأوسط، ولحقيقة وجود مقاومة عراقية للوجود الأمريكي في العراق.
ويدلل على ذلك بأن استطلاعات الرأي العام التي أجرتها شبكة إي بي سي الأمريكية أظهرت أن ثلثي السنّـة وثلث الشيعة في العراق يعارضون الوجود العسكري الأمريكي والبريطاني في العراق، وأن ثلث السُـنة وثلثي الشيعة العراقيين يساندون استخدام العنف ضد قوات التحالف، ويرغبون في انسحابها فورا.
كما أن عددا كبيرا من المسؤولين في حكومة الرئيس بوش لا يرون كيف أدى ما يراه العرب بشكل عام والعراقيون بشكل خاص انحيازا أمريكيا لصالح إسرائيل إلى شعور العرب بأنهم كمّ مهمل من قبل الإدارة الأمريكية الحالية. كما لا يفهم المسؤولون الأمريكيون أن مناداة واشنطن بالديمقراطية والإصلاح ترافقت في الذهن العربي مع محاولات التدخل من الخارج ومع الرفض العربي للإشارات الأمريكية المتهورة عن الإسلام والثقافة العربية، وتزامنت مع العديد من نظريات المؤامرة حول رغبة أمريكا في السيطرة على موارد العراق البترولية والرغبة المحمومة لدى المحافظين الجدد في تحويل الولايات المتحدة إلى إمبراطورية وخدمة ما يصفه العرب بالمصالح الصهيونية.
وقال الدكتور كوردسمان إن صور إساءة معاملة السجناء العراقيين في أبو غريب زادت الطين بلة لأنها قدّمت دليلا على صحّـة كثير من الانتقادات السائدة عن الولايات المتحدة في العالم العربي، وقوّت شوكة المتطرفين الإسلاميين في العالم العربي والمتمردين من السُـنة والشيعة في العراق.
وخلص الدكتور كوردسمان إلى أن مجموعة المحافظين الجدد في إدارة الرئيس بوش أثبتوا خطأهم في كل حكم وكل قرار اتخذوه حول العراق أو الشرق الأوسط. فقد آن الأوان للخلاص منهم والابتعاد عن أوهامهم الأيديولوجية لكي يمكن للولايات المتحدة التحول إلى هدف واقعي في العراق يتمثل في مساعدة العراقيين على بناء هيكل سياسي جماعي يقلص احتمالات نشوب حرب أهلية، ومساعدة العراقيين على إدارة شؤونهم الاقتصادية بأنفسهم.
ويقتضي هذا في رأي الدكتور كوردسمان أن تدعم واشنطن قيام الأمم المتحدة بدور واسع النطاق في العراق من أجل التوصل إلى أفضل الحلول الوسط فيما يتعلق بإقامة نظام سياسي شرعي في العراق، وأن تتخلى إدارة الرئيس بوش عن تحويل العراق إلى نموذج وهمي يستند إلى تخيلات المحافظين الجدد.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.