هل ينجرف الشرق الأوسط نحو الفوضى؟
سؤال تفرضه وقائع ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط، ويدفع دفعاً إلى التعرف على ما تعنيه "نظرية الفوضى" لفهم ما يحدث فيها.
الانزلاق المتسارع للمنطقة في هاوية غامضة بدا جلياً مع تحذير وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون السياسية من وجود “إحساس واضح بانجراف” منطقة الشرق الأوسط “نحو الفوضى”.
أصبحت هناك حاجة حقيقية للتعرف بدقة أكبر على ما تعنيه “نظرية الفوضى” لفهم ما يحدث في الشرق الأوسط. فقد أشار كيران بريندرجاست، وكيل أمين عام الأمم المتحدة للشؤون السياسية، في مذكرة قدمها إلى كوفى عنان منذ أيام إلى “إحساس واضح بالانجراف نحو الفوضى” في تلك المنطقة، لكن إشارته تلك ليست الأولى بهذا الشأن، فالإقليم يبدو منذ فترة وكأنه مقبل على “متاهة”.
لقد كان الشرق الأوسط – كما هو سائد – يمثل دائما نموذجا لمنطقة توترات خطرة غير مستقرة، تشهد صراعات عسكرية وسياسية مستمرة ذات أبعاد مركبة، وتتسم بملامح تختلف عن معظم أقاليم العالم، وبصورة لا يمكن معها توقع ما يمكن أن يحدث فيه، فهو يحمل دائما احتمالات حدوث انفجارات دائمة وكأنه حقل ألغام.
وبالفعل كان الإقليم قد شهد خلال النصف الثاني من القرن العشرين (1945-1999) حوالي 145 حالة صراعية حادة، بينها 69 حالة صراعية إقليمية بينية، و 34 حالة صراعية إقليمية – خارجية، و 42 حالة صراعية داخل دول الإقليم، بما لا يقارن بأية منطقة أخرى بما في ذلك إقليم أسيا – المحيط الهادي، والذي سمى في وقت ما ” حلقة النار”.
من عدم الاستقرار إلى الفوضى
على الرغم من ذلك، كان “الكود” الذي يستخدم عادة لوصف تلك الحالة الإقليمية المستعصية هو مصطلح “عدم الاستقرار”، الذي يتضمن داخله مستوى من القدرة على السيطرة أو الإحتواء، وهو ما بدأ يتغير.
فالتفاعلات الجارية في عدة بؤر صراعية داخل المنطقة تحمل معها احتمالات جادة لحدوث تلك الحالة التي توصف عادة بالفوضى، على نحو يطرح احتمالات سيئة بالنسبة لعدة دول في الشرق الأوسط.
لقد أدت التحولات الأخيرة في مسار العنف الدموي داخل العراق، إلى ظهور سيناريوهات تشير إلى “حرب أهلية” ممكنة أو تطاحن مسلح بلا نهاية. كما أن انتقال الصراعات داخل السودان من منطقة لأخرى تطرح كذلك احتمالات تفكك حقيقي في الدولة تحت اسم “الكونفدرالية”، وهنا تتعلق المسألة باحتمال تبلور خرائط سياسية وجغرافية جديدة.
يضاف لذلك، أن السيناريوهات الخاصة بانتقال السلطة داخل عدة دول عربية جمهورية وملكية تطرح حالة من عدم اليقين، الذي يثير احتمالات “صراعات سلطة” مكشوفة أو مكتومة، وتشير إلى عدم استقرار محتمل، في ظل ميل شديد لتجاوز قواعد اللعبة حتى في حالات ديمقراطية مثل لبنان.
ولا تزال أعمال العنف تجرى على نطاق واسع في عدة بؤر ملتهبة داخل المنطقة من الجزائر إلى السعودية، على نحو يحمل معه كل الاحتمالات المتعلقة بنظرية الكارثة.
وقبل كل ذلك حالة الانهيار التي تمر بها “القضية الفلسطينية”، التي تشهد تفاعلات شديدة العنف والعدوانية في ظل حالة تطرح – حسب مذكرة وكيل الأمين العام للأمم المتحدة – فكرة عدم إمكانية الحل دون تدخل دولي، يدرك بريندرجاست ذاته أنه لن يحدث، فقد عاد نموذج “الصراع الاجتماعي الممتد” الذي يشبه حروب القبائل إلى العمل، بما يثيره من احتمالات قتل واسع النطاق وترحيل جماعي وحدود محصنة، دون حل.
مضاعفات في الطريق
ولا يبدو أن التفاعلات الإقليمية مرشحة للعودة إلى حالة الاستقرار، فالتطورات الجارية حاليا تشير إلى ما يلي :
أولاً، أنه إذا تمكنت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش من الفوز خلال الانتخابات الرئاسية القادمة، قد تعود سياسات “المحافظين الجدد” إلى الساحة بشكل أكثر ضراوة، وعلى نحو يشكل ضغطا على المنطقة بما يدفع نحو مزيد من عدم الاستقرار، بعد أن حاولت الإدارة الأمريكية أن تتوصل لصياغات أكثر مرونة لسياستها الإقليمية، في ظل اعتبارات الحملة الانتخابية.
وثانياً، أنه إذا تصاعدت أزمة النشاطات النووية الإيرانية، متجاوزة خط اللاعودة نحو استخدام الأساليب الإكراهية العنيفة للتعامل مع إيران، قد تندفع إيران في اتجاه ردود أفعال حادة في عدة اتجاهات تحيط بها في العراق وأفغانستان ولبنان وربما داخل بعض الدول الخليجية، بما يؤدى إلى فتح الباب نحو مستويات جديدة، وربما بؤر جديدة من الفوضى الإقليمية.
الـلانـظـام
من هنا يكتسب مفهوم الفوضى أهميته في تحليل ما يحدث في المنطقة ، وهو مفهوم شديد التعقيد، يرتبط في الأساس بمصطلح “اللانظام”. فمفهوم الإقليم – أيُ إقليم – يعتمد على فكرة بسيطة في ظاهرها ومركبة في مضمونها، هي أن كل شئ في العالم يمكن النظر إليه على أنه “نظام” من العناصر والتفاعلات التي يمكن تحديدها وتصور أنماط حركتها على أسس منطقية، تتيح توقع السلوك والعمل على أساس ذلك.
إن أي نظام ابتدءا من الدولة وحتى الأسرة، مرورا بالنظم السياسية والأحزاب وجماعات المصالح والجيوش والشركات والعصابات، وحتى الشوارع، يمكن النظر إليها كنظام، يتضمن فاعلين تدور بينهم تفاعلات، وتشكل مع الوقت قواعد لعبة داخلية أو إقليمية تحكم سلوك أطراف النظام، أهمها البقاء الذي يمثل الهدف الأساسي لكل النظم.
لكن ما يحدث في المنطقة في الوقت الحالي يشير إلى وجود حالة من اللانظام، على نحو يثير تلك الاحتمالات المرتبطة بالفوضى، فالمنطقة تشهد ما يلي :
أولا، وجود فاعلين خارجيين يؤثرون بعنف في حركة النظام، فالولايات المتحدة لم تعد قوة دولية تتدخل في المنطقة وفقا لتصورات خاصة بتوازنات دولية، وإنما أشبه بدولة من دول المنطقة لديها مصالح إقليمية، تتعامل في إطارها مع أحداث يومية في جوارها.
ثانيا، تصدع في عدة نظم سياسية تبدو مظاهره في تقلص قوة الحكومات المركزية في ظل وجود فاعلين آخرين يحملون السلاح كما هو الحال في العراق والسودان والجزائر، أو ضعف هيبة الحكومة على نحو يفقدها مستوى من الشرعية والتأثير على الرأي العام.
ثالثا، إنفلات شديد في التفاعلات الإقليمية، في اتجاه استخدام العنف أو التفكير في استخدامه كوسيلة أساسية للتأثير في توجهات الآخرين أو فرض الحلول أو المطالب بشكل منفرد، أو حتى لمجرد الانتقام، فلم تعد القوة وسيلة، ولم تعد التسويات السلمية خيارا واضحا.
رابعا، رأى عام عابر للحدود حانق بشدة على الوضع القائم في الإقليم، وعلى حكوماته، تسوده مشاعر حادة من العداء للآخر وأحيانا الكراهية الصريحة، بصورة لم يعد ممكنا السيطرة عليها ببساطة، على نحو يخلق احتمالات مستمرة للسلوكيات الحادة أو العشوائية.
إقليم الاحتمالات المفتوحة
في هذا الإطار، أصبحت كل الاحتمالات مفتوحة بالنسبة لأية مشكلة أو لأية واقعة في المنطقة، “فإمكانية التوقع” التي تمثل سمة من سمات النظم الإقليمية أصبحت مفتقدة، وذلك بحكم تعدد الفاعلين داخل النظم وعدم وجود قواعد محددة للعبة أو فقدان الالتزام بها، على نحو يجعل كل شئ ممكن في الشرق الأوسط، ويتيح مجالا واسعا للمفاجآت غير المتوقعة كل يوم.
إن هذا الوضع يطرح بشكل مستمر احتمالات أسوأ حالة متصورة وليس أسوأ حالة ممكنة كما كان الأمر في الماضي، خاصة في ظل عدم القدرة على السيطرة أو عدم وجود رادع، فالمنطقة تسير في اتجاه يبدو معه وكأن أي طرف يمكنه أن يقوم بما يريد القيام به، ولديه في كل الأحوال أسبابه وظروفه وفتاواه ومن يدعمونه.
لقد وصلت تلك الحالة إلى مستوى مثير من العبثية التي تمثل أحد سمات الفوضى، فعندما وقعت تفجيرات سيناء في مصر، انطلقت التحليلات المستندة على نظريات المؤامرة في اتجاه اتهام مالا يقل عن سبعة جهات بارتكابها استنادا على منطق المستفيد، كالمخابرات الإسرائيلية واليهود المتشددين وسوريا والأردن والمقاومة العراقية والفلسطينيين (سلطة وتنظيمات) والقاعدة، وكأن كل طرف في المنطقة لديه سبب قوى للقيام بعمل إرهابي.
في النهاية، فإن هناك مظاهر جادة لحالات فوضى داخل عدة بؤر في المنطقة، فإحدى سمات النظم هي “الاعتماد المتبادل” الذي يخلق مصالح مشتركة، وقد وصل انفصال المصالح بين الدول والجماعات إلى مدى يجعل من توقع السلوك صعبا ويجعل من كل شئ ممكنا،أو يبدو كذلك.
لكن يظل ثمة ضابط يخلق بضعة حدود لانتشار الفوضى بأكثر مما يحدث حاليا.
فلأن حجم مصالح الدول مع (أو مخاوفها من) الولايات المتحدة كبيراً، ولأن معظم دول المنطقة أقوى من مجتمعاتها، فإن مظاهر الفوضى لا تتفاقم ولا تتحرك في اتجاه سيناريوهات “أسوأ حالة” سوى في ظل أوضاع خاصة، إلا أنها رغم ذلك تفرز ملامح عدم استقرار عشوائي تضع الإقليم ودوله لفترات طويلة فوق أسطح ساخنة.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.