الجزائر: مصالحة وطنية بخطوط حمراء
احتراما لتقاليد الحكم في الجزائر، ألقى الرئيس بوتفليقة، خطابا بالغ الأهمية أمام قيادات الأمة، ليعلن تنظيم استفتاء في 29 سبتمبر المقبل حول مبدأ المصالحة الوطنية.
مربط الفرس هو العفو بعد ذلك عن الإسلاميين المسلحين و المسجونين و المنفيين في الخارج، إذا لم يتورطوا في أعمال عنف ضد المدنيين.
بالفعل فقد احترمت تقاليد الحكم في الجزائر، و لكن بشكل أثار استغراب المراقبين، و عوض البدء من بداية خطاب الرئيس بوتفليقة، قد تأتي أهميته من نهايته، التي قال فيها “إن هذا هو المخرج الأمثل إن لم يكن الحل الوحيد الذي يجب إتباعه كي نوقف نزيف الدم، اعتمادا على التوازنات الوطنية، رغم أن هناك من يصف قرار الاستفتاء للمصالحة الوطنية، استهتارا بشعوره الرهيب بعد معاناته من ويلات الإرهاب، علما أن استفتاء المصالحة الوطنية طريق إلى حلول نهائية مستقبلا”.
يعتبر بوتفليقة، أول مسئول جزائري ” في الخدمة”، يعزو تأخر إجراءات ما إلى التوازنات داخل أجهزة الدولة، لأن وسائل الإعلام الجزائرية الخاصة، جفت أقلامها في الأشهر القليلة من ذكر أن الرئيس الجزائري سيعلن عفوا شاملا في الأيام القليلة المقبلة، غير أن هذا لم يحدث، فقد قرر الرئيس أن يتخذ إجراءا أقل من العفو، و السبب هو التوازنات الضرورية داخل الدولة، على حد قوله.
ما قرره بوتفليقة، اعتبره البعض خطوة في الطريق الصحيح، و رأى فيه البعض الآخر ذراً للرماد في العيون، لأن هناك “رغبة سلطوية لتحويل الجزائر إلى خن كبير للدجاج، تأكل فيه المخلوقات و تشرب، و لا حق لها في العمل السياسي”.
عفو عام بالجملة
قرر بوتفليقة العفو عن المسلحين الذين ألقوا سلاحهم منذ الثالث عشر من سبتمبر 2000، أي تاريخ انتهاء العمل بقانون الوئام المدني، شريطة أن لا يكونوا قد تورطوا في أعمال ذبح أو تفجير طالت المدنيين دون العسكريين.
كما تقرر العفو عن كل المساجين الإسلاميين و المنفيين في الخارج، ممن صدرت بحقهم أحكاماً قضائية مختلفة، شريطة أن لا يكونوا قد تورطوا في أعمال عنف ضد المدنيين أيضا.
و طالت الإجراءات الجديدة عائلات المفقودين، ممن اختطفتهم قوات الأمن أو الجماعات المسلحة، و سينالون تعويضات مالية من الدولة على طريقة تعويض عائلات المسلحين و ضحايا الإرهاب، الذين لم يُفرق بينهم الرئيس بوتفليقة، و طلب في نفس الوقت من الجزائريين التصويت بنعم على هذه الخطوات خلال الاستفتاء الذي سيُنظم في التاسع و العشرين من شهر سبتمبر المقبل.
و مما قاله بوتفليقة في خطابه “إن الأزمة الوطنية، كانت رافدا من روافد العنف الهمجي، بسبب الفقر و الحرمان، و إن الأسر التي ينتمي إليها من اختار الإرهاب، جزائرية لها نفس ديننا و نفس قيمنا.”
عمليا، لم يكن الرئيس الجزائري ليتوقع من الطبقة السياسية بجميع أطيافها أن تقبل بمشروعه، خلافا لمؤيديه التقليديين مثل التجمع الوطني الديمقراطي أو جبهة التحرير الوطني، أو حتى الزوايا الصوفية، التي تؤيده على طريقة الطرق الصوفية في السنغال.
خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها
رغم تأييد الجيش الإسلامي للإنقاذ لمشروعه على لسان أميره الوطني مدني مزراق، رفضت القيادة السياسية للجبهة الإسلامية – أبرز المعارضين للنظام – عفو الرئاسة، لسبب واحد.
يتمثل هذا السبب، في رفض الدولة عودة الجبهة و قياداتها إلى العمل السياسي، و هو ما وصفه الشيخ علي بن حاج الرجل الثاني في الجبهة الإسلامية، قبل سجنه، برغبة بوتفليقة في تحويل الجزائر إلى بلد يأكل فيه الناس و يشربون، لكن لا حق لهم في المعارضة أو قول كلمة الحق.
و لم تكن الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وحيدة في هذا التحليل، بل وافقت عليه لويزة حنون زعيمة حزب العمال اليساري، التي رفضت فكرة العفو بالجملة مقابل ابتزاز حرية المواطنين الدستورية.
صحيح أن آلاف الإسلاميين المنفيين سيعودون إلى الوطن، و سيشاركهم فرحة الانفتاح النسبي آلاف أخرى، طُردت من وظائفها بداية التسعينات بسبب انتماءها إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ، غير أن ما اعتبره العسكر خطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها، رفض بوتفليقة تجاوزها هو الآخر، و أهمها عودة الجبهة الإسلامية إلى العمل السياسي.
مصدر مقرب من المؤسسة العسكرية الجزائرية صرح لسويس إنفو قائلاً “إن الخطوط الحمراء حُولت إلى عقيدة داخل الجيش الجزائري، فكما أن مسألة الصحراء و الأزمة مع المغرب من مكونات العمود الفقري للسياسة الخارجية للجيش، يكون عدم السماح للجبهة الإسلامية بالعمل من جديد من مكونات العمود الفقري للسياسة الداخلية.”
معارضة ممن لسعتهم نار الحرب
الواقع أن قرارات بوتفليقة لم تخرج عن الإطار العام لتوجهاته السياسية الكبرى، فهو يرفض قيام دولة إسلامية تحكم بالشريعة الإسلامية، و يريد بقاء الشكل العلماني للجمهورية الجزائرية، أما خوف العسكر من الجبهة الإسلامية، فنابع مما يرونه هشاشة التكوين السياسي للجزائريين، الذي يمكنه الاقتناع بأي خطاب سياسي، إذا ما توافرت الدعاية الإعلامية اللازمة.
الاستفتاء في حد ذاته، تكرار لاستفتاء آخر نظمه بوتفليقة في العام 99، و سماه الوئام المدني، عفا من خلاله عن آلاف المسلحين، غير أنه أبقى على آلاف غيرهم في السجون و في المنافي، كأن الأمر يتعلق بسياسة إرخاء الحبل شيئا فشيئا.
من ناحية أخرى، طرحت عائلات ضحايا الإرهاب على الرئيس سؤالا بسيطا “كيف يمكنك التأكد من الإسلاميين الذي قاتلوا قوات الأمن فقط، و لم يرتكبوا جرائم في حق المدنيين؟” سؤال محير لا يمكن لبوتفليقة الإجابة عليه، لأنه يريد التخلص من الصداع في أسرع وقت ممكن، مع أن الكثير من المسلحين سيبقون في السجون بسبب تأكد القضاء من مشاركتهم في مذابح جماعية أو تفجير أماكن عمومية.
و لم تكن عائلات المفقودين في معزل عن مجموعات الناقدين لمسعى الرئيس، إذ أنها رفضت أن تُمنح تعويضات مادية دون معاقبة المجرمين في حق أبناءها.
هناك من يهمس بأن بوتفليقة يريد تخليص كبار قادة المؤسسة العسكرية من عبء الاتهام الخطير بارتكاب جرائم في حق الإنسانية، و جاء في نص قرار الاستفتاء الذي صدر في الجريدة الرسمية، أن ما ارتكبه أفراد من قوات الأمن، لا يمكن نسبته ظلما إلى سائر الدولة الجزائرية، و هو ما تعلق عليه عائلات المفقودين بقولها ” إما أن أفراد قوات الأمن اختطفوا أبناءنا بعد تلقيهم الأوامر من قياداتهم، و إما أنهم ارتكبوا جرائمهم دون علم رؤسائهم، و المصيبة هنا أعظم”.
النتيجة محسومة؟
ليس هناك شك في أن مواقف المعارضين على أهميتها و خطورتها، ستكون صرخة في واد سحيق، بسبب تمكن رئاسة الجمهورية من آلة إعلامية ضخمة قوامها التلفزيون و الإذاعات الوطنية و المحلية، بالإضافة إلى وكالة الأنباء الرسمية و الصحف العمومية و الموالية من القطاع الخاص.
يضاف إلى كل هذا استعدادات كبيرة، سبقت يوم الخطاب الذي أعلن فيه الرئيس عن موعد الاستفتاء، حيث تلقت المطابع الخاصة و العمومية عروضا مالية مجزية، كي تطبع ملايين النسخ الإشهارية الداعية إلى التصويت بنعم، علما أن القانون الجزائري يمنع قيام حملة مضادة إعلاميا و سياسيا، كما هو جار في الديمقراطيات الغربية، على اعتبار أن الاستفتاء فيه مؤيدون و معارضون، كما هو الحال بالنسبة للدستور الأوربي.
و بالنظر إلى كل هذه المعطيات، ليس هناك شك في أن التصويت بنعم سيكون هو الأرجح، لأن الخطاب الرسمي سيتوجه إلى عموم الناخبين بفكرة مفادها أن البلاد سئمت من الذبح و الدماء، و أنه قد آن الأوان لإنهاء المأساة.
و في ضوء القوة الإعلامية الحكومية، سيصعب تمرير خطاب سياسي نضالي، مبني على الصبر و الجلد، و القبول بالبقاء في السجن أو النفي إذا ما رُبط ذلك بشرط التخلي عن الحرية السياسية.
هناك إذن، توجه عام للتحول من مرحلة إلى مرحلة، أي من فترة الحرب الأهلية الطاحنة، إلى حرب شبه أهلية ترفض فيها الجماعة السلفية للدعوة و القتال التخلي عن سلاحها و النزول من الجبال، غير أنها فترة جديدة بمقاييس الدولة الجزائرية العلمانية، التي ترفض انتصار الإسلاميين على هشاشة وجودها، علما أن الجمهورية الجزائرية العلمانية قد استغلت بنجاح واضح الهشاشة السياسية لأكبر تيار سياسي يهدد وجودها، و هو الجبهة الإسلامية للإنقاذ.
هيثم رباني – الجزائر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.