المغرب: من ضحية إلى مرتكب جناية
في الوقت الذي سعى فيه المغرب لتحقيق مكاسب سياسية ومالية من معالجته لمأساة المهاجرين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء..
.. يحاول الآن جاهدا تبديد الصورة التي رسمتها له وسائل الإعلام كمنتهك لأبسط حقوق الإنسان في معالجته لها.
احتلت صور بقايا هؤلاء المهاجرين من الأحذية والملابس العالقة على الأسلاك الفاصلة بين الأرض المغربية ومدينتي سبتة ومليلية الصفحات الأولى والعناوين الرئيسية لنشرات الأخبار في وسائل الإعلام الأوروبية.
وبغض النظر عن النوايا وما تحقق، فإن الخسائر التي تكبّـدها المغرب، باتت واقعا ملموسا فيما ما طمح لتحقيقه من مكاسب لا زالت في عالم الغيب. فكل ما عرفه العالم عن المغرب خلال معالجته لمأساة المهاجرين الأفارقة، هو الرصاص الذي أطلقه عليهم والهراوات التي نزلت على أجسادهم، والصحراء التي ألقاهم بها معرّضين للموت جوعا وعطشا. وعند المواطنين المغاربة، فإن سلطات بلادهم تلعب دور “الشرطي – الدركي” لحماية أوروبا من المهاجرين الأفارقة.
فجأة، وجد المغرب نفسه أمام معضلة هجومات مهاجرين سريين أفارقة انطلاقا من أراضيه على الأسوار السلكية الشائكة التي أقامتها سلطات الاحتلال الإسباني حول مدينتي سبتة مليلية، لفصلها عن بقية الأراضي المغربية لحماية نفسها وبقية أوروبا من شباب قادمين من المغرب أو من أصقاع القارة السمراء، بحثا عن أمان ولقمة عيش.
الوقوع في الفــخّ
فحسب المسؤولين المغاربة، فإن أقل من 10% من مرشحي الهجرة السرية الأفارقة وصلوا برا عن طريق الجزائر، وأبرزت تصريحات المسؤولين بالمغرب ووسائل إعلامه الرسمية أنباء عن وجود أكثر من عشرين ألف مهاجر إفريقي في مخيمات مغنية، غرب الجزائر، تستعد للعبور نحو المغرب، وأطلقت تصريحات أوروبية تدعو جميع دول الإقليم للتعاون في مكافحة هذه الظاهرة، لكن صور المهاجرين الأفارقة وهو ملقون في الصحراء جوعا وعطشا أو مناظر أجسادهم الدامية من أثار الهراوات، هي التي استقطبت الاهتمام الإعلامي والرسمي الأوروبي حول “ضرورة احترام المغرب لحقوق الإنسان”.
وهكذا تحول المغرب، نتيجة حساباته السياسية ومقاربته الأمنية لمسألة الهجمات الإفريقية على أسوار سبتة ومليلية، من ضحية لقدره الجغرافي وقصر المسافة التي تفصله عن أوروبا وطموحات الوصول إلى الجنة الأوروبية لشباب إفريقي تتقلب بلاده بين الحروب الأهلية والفلتان الأمني والفساد والمقاربة الأمنية في تعاطي أوروبا مع القادمين من دول الجنوب، إلى مرتكب لجناية ومنتهك لحقوق الإنسان بل معرّض لتحقيقات دولية.
كان المغرب يسعى من خلال إدخال الجزائر على خط الهجرة السرية، أولا، إلى إحراج الجزائر أوروبيا، وثانيا، إلى إعادة فتح ملف الحدود البرية الجزائرية المغربية المغلقة، بمفاوضات تشارك فيها أوروبا. فمنذ إغلاق هذه الحدود عام 1994، لم تمر منها رسميا إلا قافلة مريم التي قادها النائب البريطاني جورج غالوي من أجل رفع الحصار عن العراق، وقوافل المساعدات المغربية للجزائر إبان فيضانات القصبة، أما المرور غير الرسمي، فهو عمل يومي يقوم به المهربون من الجانبين والمهاجرون السريون الأفارقة.
دور الصياد
كانت العلاقات بين إسبانيا والمغرب تشهد على مدى السنوات الماضية توترات بسبب الهجرة السرية، لكن الأمر كان يتعلق بهجرة الشباب المغربي أساسا، وكانت مدريد والرباط تتفقان على وجود لوبيات وشبكات مغربية وإسبانية تنظم هذه الهجرة التي تستفيد منها قطاعات اقتصادية واسعة في المغرب وأوروبا.
وفي السنوات الماضية، بدأت تبرز أمام سلطات البلدين، ظاهرة جديدة تشمل بالخصوص المهاجرين السريين الأفارقة.
كانت الرباط ومدريد تعرفان جيدا أن الغابات المحيطة بمدينتي سبتة ومليلية باتت ملجأً مؤقتا للمهاجرين السريين الأفارقة، فيها يعيشون، أسابيع أو أشهر وربما سنوات، بانتظار فرصة للعبور نحو أوروبا أو الجنة الموعودة، إما برا عبر مدينتي سبتة ومليلية اللّـتان، وإن كانتا جزءا من البر المغربي، فإنهما تُـعتبران جزءا من الفضاء الأوروبي أو بحرا بعبور مضيق جبل طارق بزوارق قد تصل بهم إلى الشواطئ الإسبانية وقد لا تصل.
كان أي عابر في تلك الطريق الساحلية الرابطة بين مدينة طنجة وبلدة الفنيدق، يلحظ شبانا أفارقة يوقِـفون سيارة أو يسيرون مشيا على الأقدام باتجاه ما، وكانت ملاحقات السلطات الأمنية المغربية لهؤلاء موسِـمية، وترتبط – صعودا ونزولا – بأجواء العلاقات مع مدريد أو بارتفاع وتيرة ارتكاب جرائم سرقة واعتداءات في المنطقة.
ونظرا لأن العلاقات بين الرباط ومدريد قد تحسّـنت في الآونة الأخيرة، ولأن فصل الشتاء الشتاء الذي يعسر حياة مرشحي الهجرة السرية ويجعلها لا تُـطاق، قد أصبح على الأبواب، ولأن السلطات الإسبانية تستعد لزيادة إجراءاتها الأمنية، فقد قرر المهاجرون السريون الأفارقة الإسراع بدخول مدينتي سبتة ومليلية عبر هجمات مكثفة على الأسوار بواسطة السلالم المصنوعة من أغصان الشجر.
أمام هذه الهجمات الاقتحامية، كان المغرب ينتظر إشارة من مدريد للتحرّك مقابل التزامات إسبانية (أوحت بها مدريد دون أن تُعلنها).
وقبل أن تصل هذه الإشارات، ترك المغرب مهمة المواجهة للقوات الإسبانية المحيطة بالمدينتين، وتبادلت الرباط مع مدريد اتهامات حول الرصاص الذي قتل خمسة أفارقة على أسوار مدينة سبتة، ولكن حين أتت الإشارات، أطلق جحافل قواته الأمنية لـ “تصطاد السود” قبل وصولهم إلى الأسوار، واعترف فيما بعد أن قواته قتلت أفارقة على أسوار مدينة مليلية “دفاعا عن النفس”. وقبل أن يتحمل وحده العبء الإعلامي والسياسي لحماية أوروبا من الأفارقة، على أن تلتزم مدريد ومعها شركائها بالاتحاد الأوروبي بما ألمحت إليه.
لقد قبلت الرباط المشاركة في لعبة حماية القارة الأوروبية من المهاجرين السود بلعب دور الصياد، بعد أن وجدت في تصريحات إسبانية وأوروبية إيحاءات بمسؤولية رئيسية للجزائر، شقيقتها اللدود، في مأساة الهجرة السرية الإفريقية عبر تسهيلها أو إغماض عينيها عن هؤلاء المهاجرين وهم يعبرون الأراضي الجزائر باتجاه المغرب.
ضياع الورقة الأوروبية
اعتبرت الجزائر نفسها غير معنية، ولم تحدد موقفا من اقتراحات طرحت هنا وهناك بعقد اجتماعات أوروبية – إفريقية أو اجتماعات أوروبية – جزائرية – مغربية، واكتفت بإصدار بيانات حول ما تتخذه من إجراءات.
وفي المقابل، وجدت الجزائر في إبعاد المغرب بقوافل مئات المهاجرين الأفارقة وإلقائهم على الحدود معها، والحالة الصحية التي كانوا عليها، ثم في وصول العشرات منهم إلى المناطق الخاضعة لسيطرة جبهة البوليزاريو، صيدا ثمينا لتكثيف الحملة الإعلامية ضد المغرب.
وصف المسؤولون المغاربة الرد الجزائري على دعوتهم لتحمل الجزائر مسؤوليتها، بالمجبول بالأكاذيب والوقائع الغير صحيحة، وأثاروا مع الأمم المتحدة مسألة الأراضي الصحراوية (الواقعة خارج نطاق الحزام الأمني المغربي الذي يلف الصحراء الغربية)، التي عُـثـر فيها على المهاجرين الأفارقة، والتي تعتَـبرها الرباط أراض غير مسيطر عليها، فيما تعتبرها جبهة البوليزاريو أراض محررة.
هذه التطورات أضاعت على المغرب ورقة أوروبية للضغط على الجزائر، في وقت وجدت الرباط أن الوعود الأوروبية بتقديم مساعدة مالية إليها لازالت تراوح مكانها ومستقرة في حالة وعود.
وعد الأوروبيون المغرب بمنحه 40 مليون يورو مساعدة له لمكافحة الهجرة السرية، وحتى يوم الأحد 16 أكتوبر، (حسب تصريحات رئيس الحكومة المغربية)، لم يصل إلى المغرب يورو واحد، رغم أنه يتحمّـل وحده تكاليف وأعباء الجسر الجوي الذي أقامه لنقل المهاجرين الأفارقة إلى بلدانهم (نقل في الأسبوع الأول حوالي 2500 مهاجر).
الملف لم يغلق بعد، وسيظل المغرب في انتظار الأيام القادمة، التي سيكون مؤتمر برشلونة (الذي يجمع قادة دول الإتحاد الأوروبي مع زعماء الدول التي تقيم علاقات شراكة مع بروكسيل) من أبرز محطاتها في نوفمبر القادم، والقرارات التي ستصدر عنه، إن كان لجهة تضميد الجراح التي أصابته من الحملة التي شنت عليه أو لجهة خروج أوروبا من موقفها الحيادي السلبي في نزاعه مع الجزائر أو لجهة الدعم المالي الذي وعد به.
محمود معروف – الرباط
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.