ما بعد الاستفتاء…
مرت ثلاثة أسابيع على موعد الاستفتاء الذي نظم بتونس يوم 26 مايو الماضي، حول التعديلات الدستورية التي أدخلها الرئيس بن علي واعدا بإدخال البلاد في طور سياسي جديد.
اتسمت الاسابيع القليلة الماضية بالترقب وانتظار الكيفية التي ستعالج بها السلطة عدة ملفات، بعضها اقتصادي واجتماعي وبعضها سياسي يعتبر أكثر إلحاحا، وفي مقدمتها تنقية المناخ العام وإطلاق الحريات الأساسية.
ومما زاد في تعميق هذه الرغبة، خاصة لدى النخب التونسية، الأخبار التي راجت قبل تنظيم الاستفتاء حول احتمال صدور قرارات سياسية هامة، إضافة إلى النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات التشريعية في الجزائر وعادت بمقتضاها جبهة التحرير إلى مقدمة الأحزاب السياسية عن طريق صناديق الاقتراع.
في هذا السياق، يتنزل القرار الذي اتخذه الرئيس بن علي والقاضي بالعفو على السيد محمد مواعدة وتمكينه من حقوقه السياسية والمدنية، وقد تزامن ذلك مع الندوة الصحفية التي دعا إليها السيد إسماعيل بولحية، الأمين العام الحالي لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين وحضرها مواعدة ومختلف الوجوه القيادية، التي تفرقت بها السبل وتباينت مواقفها في مراحل سابقة. وتم الإعلان عن حصول اتفاق حول إنجاز مؤتمر توحيدي للحركة يتوقع أن ينعقد قبل موفى السنة الجارية. هذا الاتفاق فاجأ الطبقة السياسية التونسية وفتح المجال أمام تساؤلات وتكهنات كثيرة.
يعتبر الحدث أول مبادرة سياسية تطفو على السطح بعد معركة التعديلات الدستورية، التي أسالت الكثير من الحبر وخلقت ديناميكية على الصعيدين الرسمي والمعارض. لكن التغير الذي طرأ في موقف السلطة من مسألتي عودة مواعدة إلى الحياة السياسية وتوحيد حركة الديمقراطيين الاشتراكيين جعل المهتمين بالشأن التونسي يتساءلون عن الدوافع الحقيقية الكامنة وراء ذلك.
تكتّم السلطة وتأويلات التيارات السياسية
يتطلع المتفائلون أو الذين يرغبون في إخراج الوضع السياسي العام من حالة الانسداد والركود التي يعاني منها منذ فترة طويلة، الى أن يكون هذا التعاطي مع ملف الديمقراطيين الاشتراكيين بداية جدية لمعالجة ملفات أخرى عديدة من بينها مسألة مساجين الرأي التي احتلت مكانة بارزة في التقرير السنوي حول الحريات الذي أصدرته مؤخرا الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، أو تسوية الوضعية القانونية لعدد واسع من التنظيمات السياسية والجمعياتية، حيث يوجد أكثر من عشرة أحزاب وجمعيات تنتظر الترخيص القانوني من السلطة.
أما المتشائمون فإنهم يصرون على وصف هذه المبادرة بالمناورة قصيرة المدى، ويتخوفون من إمكانية حصول تقارب جديد بين السيد مواعدة والرئيس بن علي تكون نتائجه على حساب الحركة الديمقراطية التي تحاول منذ أكثر من سنتين أن توحد صفوفها، وتفرض نفسها بشكل لافت للنظر. ويذهب هؤلاء إلى الاعتقاد بأن السلطة، التي أزعجتها هذه النزعة المتزايدة نحو تكتل الأطراف الغاضبة، قد يكون من بين أهدافها دق إسفين بين مواعدة وأنصاره وبين “الوفاق الديمقراطي” الذي أشر عن احتمال إمكانية تأسيس نواة أولى لقطب ديمقراطي معارض.
ويلح هؤلاء على الإشارة إلى مناخ الحريات العامة الذي ميز الفترة اللاحقة للاستفتاء، حيث سجلت خلال الأسابيع الماضية بعض الإيقافات (محاكمة زهير اليحياوي القريب من القاضي مختار اليحياوي)، وحصول تصعيد غير مبرر مع إحدى فروع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان (المنستير)، بل إن بعض هذه الجهات تذهب إلى حد الاعتقاد بأن هذه المصالحة قد تكون تمهيدا للإعداد لموعد الانتخابات الرئاسية لسنة 2004.
إن استعادة حركة الديمقراطيين الاشتراكيين لوحدتها، يشكل حدثا لا تقلل من أهميته كل الاعتبارات السابقة. فالضعف الشديد الذي تعاني منه هذه الحركة نتيجة النزيف القوي الذي أصابها منذ قرار السيد أحمد المستيري الانسحاب من الحياة السياسية، أثر بشكل كبير على مختلف جوانب الحياة العامة بالبلاد وفتح المجال إلى انفراد واسع بالقرار والحكم، وأفقد المعارضة طرفا كان محوريا في الحفاظ على حد ادنى من موازين القوى.
غير أن استعادة هذا الدور يبقى مرهونا بعدة عوامل من بينها الكيفية التي سيتطور بها الوضع السياسي بالبلاد، ونوعية العلاقة التي ستقيمها قيادة الحركة مع السلطة من جهة والمعارضة الديمقراطية غير المهادنة للنظام من جهة أخرى. وفي هذا الخصوص أكد اسماعيل بولحية أن حجم المعارضة ودروها “يتأثران بالمناخ العام”، وأشار إلى وجود عوامل من خارج نطاق الأحزاب “تلعب دورا خطيرا في الحد من نموه”.
دور محمد مواعدة
أما مواعدة الذي يتمتع بشخصية مثيرة للجدل ومتعودة على إثارة العواصف واقتحام المغامرات السياسية، فإنه تجنب خلال ردوده على أسئلة الصحافيين الإيحاء بإدانة مواقفه السابقة التي وصفها أحدهم ب “الانتحارية”، مؤكدا على كونها مرتبطة بأسباب لا تزال قائمة، داعيا إلى التركيز على الحاضر والمستقبل، فالأولوية عنده حاليا هي استرجاع الحركة التي اضطر أن يعمل من خارج أطرها القانونية طيلة سبع سنوات سجن خلالها مرتين، وتميزت بالصراع الحاد مع السلطة.
يؤمن محمد مواعدة بأن الوصول إلى هذا الهدف لا يمكن أن يتم إلا بنوع من تطبيع العلاقة مع السلطة ومع الرئيس بن علي تحديدا، هذا الرهان يجعله حاليا في وضع حرج ودقيق مع حلفائه بالأمس القريب، أي الأطراف السياسية الرافضة لأي مراهنة جديدة على السلطة والمؤمنة بأن الوقت قد حان لقيام معارضة تطرح بوضوح ودون لبس مسألة التداول السلمي على الحكم.
كما أن مقتضيات الخطوة السياسية الجديدة تجعل مواعدة في وضع غير مريح للتوفيق بين قناعاته الذاتية ومواقفه السابقة التي أعلنها خلال المرحلة الأخيرة أمام الرأي العام التونسي وبين البراجماتية السياسية التي تفرضها المرحلة الانتقالية الخاصة بإعادة هيكلة حزبه. ما أعلنه دائما، وأشار إليه مؤخرا أن تكرار ما حصل في مطلع التسعينات، عندما وضع كامل البيض في سلّة السلطة، أمر غير وارد، وأن حركة الديمقراطيين الاشتراكيين يجب أن تبقى حزبا معارضا يتجنب “الفوضى” ولا يؤمن بالقطيعة. فالبلاد حسب اعتقاده في حاجة إلى معارضة قوية.
الأسابيع والأشهر القادمة ستكشف، هل أن السماح لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين بتوحيد صفوفها هو إجراء معزول أم أنه يندرج ضمن رؤية سياسية أكثر شمولا؟
صلاح الدين الجورشي – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.