مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

من جورجيا إلى قمة دمشق إلى يريفان.. النموذج التركي يستكمل نفسه

مصافحة تاريخية بين الرئيسين الأرمني سيرج ساركيسيان (اليمين) والتركي عبد الله غول في العاصمة يريفان يوم 6 سبتمبر 2008 Keystone

تثير تركيا إعجاب النخبة والأنظمة العربية على حدٍّ سواء. النُّـخبة، لأنها ترى في السلوك التركي المعتدل والمتقدم والمتوازن والمصمّـم والوطني، بعض وربما كل ما تفتقده الأمة العربية في هذه المرحلة من تاريخها العاجز والمتهاون واللامتوازن، حتى لا نقول أبعد من ذلك.

النخبة ترى في النموذج التركي في السياسة الخارجية بعضا مما تبحث عنه وتفتقده. أخذت تركيا بعناصر القوّة في موقعها ومكانتها واستخدمتها في المساومات من أجل مصلحة تركيا أولا.

أما الأنظمة العربية، فتُـبدي إعجابا بالتقدم التركي وانتشار الدور، ليس للاستفادة منه، بل تعويضا عن تهاوُن وضُـعف في الإرادة، لا الإمكانيات، ورغبة في موازنةٍ عجزوا عن تحقيقها ضدّ ما اعتبروه “العدو” الإيراني، فاستجاروا بالجار التركي والقوة التركية الصاعدة، علّـها تحرِّرهم من عدوٍّ، ليس سوى وهْـم برأي البعض.

في الواقع، لم تتغير مُـقوِّمات القوة التركية اليوم عما كانت عليه قبل ست أو سبع أو عشرين سنة.

قراءة صحيحة لواقع تركيا..

الموقع الإستراتيجي بين الشرق والغرب والبلقان والقوقاز والإسلام والمسيحية والبحرين، الأبيض والأسود، والإرث الحضاري وموقع الثقل في التوازنات الدولية، حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، القوة العسكرية الضاربة والاقتصاد المُـتنامي السادس عشر في العالم والسياحة الهائلة وهوامش الديمقراطية النيابية والبلدية والعلمانية في مجتمع متعدّد، دينيا ومذهبيا…الخ.

هذه بعض نِـقاط القوة بمعزل عن نقاط الضعف، وهي أيضا كثيرة، لكن بيت القصيد هنا ليس هذا، الشيء الذي تغيّـر بين تركيا ما قبل عام 2002 مع تركيا ما بعد عام 2002، هو القراءة الصحيحة لواقع تركيا ومكانتها ودورها في ظلّ موازين القوى الإقليمية والدولية.

إذا كانت تركيا مضطرّة خلال الحرب الباردة أن تكون وتبقى جُـزءا من التحالف الغربي – الإسرائيلي، فإنها استمرّت في ذلك بعد انتهائها وحتى عام 2002، فقط بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، كان التحوّل الكبير في السياسة الخارجية التركية في ظلّ استمرار عوامل القوة نفسها التي ذكرناها.

المعادلة الجديدة كانت تتمثل فيما يلي: “كيف نحافِـظ على عوامل القوة المستقاة من التحالفات الدولية والإقليمية السابقة مع نسج علاقات إيجابية جديدة مع مَـن كانوا يُـعتبرون خصوما، بل أعداء الأمس؟”

المعادلة لم تكُـن مجرّد قراءة سياسية أو عسكرية لتوازنات القوة، بل كانت دخولا في عُـمق المجال الحيوي لتركيا على الصعيد الجغرافي والحضاري والتاريخي، فضلا عن الحسابات السياسية والاقتصادية المشروعة.

وعلى امتداد الفترة التي تلت عام 2002، طبّـقت تركيا هذه الرؤية الإستراتيجية بنسبة عالية جدا من النجاح. وكان قِـوام هذه الإستراتيجية: الانتماء للعمق الحضاري لتركيا من جهة، وبناء دولة حديثة على أساس الحريات وترسيخ الديمقراطية وحقوق الإنسان، التي كان المشروع الأوروبي مثالها، وعلى هذا، قطعت تركيا أشواطا على الصعيد الداخلي وعلى الصعيد الخارجي.

تحالف ذو توجه غربي كامل

ما حدث في الآونة الأخيرة، سلّط أضواء قوية على السلوك التركي ونموذجه في أن يكون على الصعيد الخارجي خارج الاستقطابات وعلى مسافة واحدة جيدة من الجميع، وهو ما أتاح له مثلا أن يجمع قبل عام محمود عباس وشمعون بيريز في القصر الجمهوري بأنقرة وبرعاية عبدالله غُـل نفسه، وهو الذي أتاح أن تكون تركيا هي الوسيط بين سوريا وإسرائيل في محادثات غير مباشرة.

ولعل أهم ما يميِّـز السلوك التركي الجديد، هو قدرته على التعلّـم من الأحداث التي تجري أيضا في اتجاه ترسيخ سياسة تعدّد البُـعد التي ينتهجها والتراجع عن سياسات سابقة خاطئة تعود إلى ما قبل عام 2002، مثال على ذلك، التطورات التي تفجّـرت في القوقاز بعد هجوم جورجيا على أوسيتيا الجنوبية والردّ الروسي العنيف الذي فاجأ الغرب.

في خريطة الصراع القوقازي، كانت تركيا إلى الأمس جزءا من التحالف الثلاثي الذي يضم إليها كلا من جورجيا وأذربيجان. تركيا حزب العدالة والتنمية، ورثت هذا التحالف من الحكومات السابقة ذات التوجه الغربي الكامل.

اضطراب الوضع في القوقاز وضع تركيا في موقف حرج، فاستمرارها في التحالف يعرِّضها لغضب الجار الروسي، القوة الأقوى في القوقاز وفي محيط تركيا، ويعرض القوقاز لعدم استقرار لن تكون تركيا بمنأى عن نتائجه السلبية. وانطلاقا من هذا، لم تخرج تركيا إلى العلن وتعلِـن انحيازها إلى جورجيا، بل كانت الخُـطوة بكل بساطة وجُـرأة، هي ذهاب رئيس الحكومة رجب طيب اردوغان إلى روسيا والتقاؤه بزعمائها، ومن ثم لقاؤه مع رئيس جورجيا ومن بعدها إلى أذربيجان للترويج لـ “منتدى الاستقرار والتعاون في القوقاز”.

مثال آخر، هو أن تركيا أدركت من تطورات القوقاز، أن سياسة الاستقطاب التي ورثتها هناك، ليست مفيدة، وكانت عندها الجرأة لكي تستغِـل الفرصة لتعديل هذه السياسة ولتأكيد سياسة تعدّد البُـعد ومدِّ اليد إلى أرمينيا، فكانت زيارة الرئيس التركي التاريخية إلى يريفان لحضوره مباراة منتخب بلاده مع نظيره الأرمَـني بكرة القدم.

سياسة تركيا المتوازنة

هنا المشهد سريالي إلى حد كبير: فالبلد الوحيد القادر على مدّ خطوط تواصل إيجابية مع روسيا وجورجيا وأذربيجان وأرمينيا، هو تركيا.

مثال آخر على سياسة تركيا المُـتوازنة، هو قمة دمشق الرُّباعِـية، التي جمعت رؤساء سوريا وفرنسا وأمير قطر ورئيس وزراء تركيا، لدور هؤلاء بملفات المنطقة، ولاسيما المحادثات بين سوريا وإسرائيل.

قبل ذلك، كانت تركيا تشارك في اجتماع الاتحاد من أجل المتوسط في باريس، رغم أن الرئيس الفرنسي من معارضي انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولا يمكن أن تمر المبادرات التركية الإيجابية هنا، من دون أثر وتغيير في موقف فرنسا، مثلا من قضية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

مشاركة تركيا في قمة دمشق لم تكن تعني انتماء إلى محور لم يتشكل في الأساس. قبل يوم واحد فقط من قمة دمشق، كانت تركيا توقّع مع مجلس التعاون الخليجي مذكرة تفاهم وتعاون في خطوة عضوية هي الأولى مع كتلة عربية.

مذكرة التفاهم كما قمة دمشق، تكملان الرسالة التركية ذاتها: أنا مستعدّة للتعاون مع الجميع ولا فرق بين عربي وعربي ولا بين عربي وأعجمي. لذا، إذا كانت هناك إمكانية لتحوّل قمة دمشق إلى نوع من المحور، وهذا لا يبدو في الأفق، فمن دون شك لن يجد أحد تركيا في الصورة المقبلة، تماما كما كانت قمة إسلام أباد السباعية قبل سنتين، والتي اقتصرت على دول إسلامية سُـنّية وشاركت فيها تركيا لجهة التأكيد على خطإ مثل هذه الاجتماعات المذهبية الطابع التي لن تتكرّر صورة تركيا فيها إذا انعقدت مجدّدا.

النموذج الأكثر قابلية للنجاح؟

قرأت أنقرة حزب العدالة والتنمية جيّـدا واقع تركيا وخصائصها ومميزاتها والتحديات الثابتة والمتحركة التي تواجهها. فكانت تلك السياسة التي ما فتئت تتخطّـى الحواجز وتهدم المحرّمات (مثل التواصل مع أرمينيا).

قد لا تتفق القوى المؤثرة الأخرى في تركيا، مثل الجيش، مع كل سياسات حزب العدالة والتنمية الخارجية، لكن حتى اليوم، ليس من عرقلة جدية لها ما دامت لم تمس وحدة الأراضي التركية وطبيعة النظام، وما دامت تحقق الاستقرار لتركيا وتساعد في النمو الاقتصادي ورفع مستوى الرفاهية لدى الشعب التركي.

وحتى الآن، كانت معظم الإشكالات بين حزب العدالة والتنمية وخصومه في الداخل، لأسباب “داخلية” وليس بالسياسة الخارجية، لذا يتوقع أن تستمر سياسة تعدّد الأبعاد في السياسة الخارجية، وأن تكون تركيا واسطة العقد في مشكلات المنطقة.

وما يؤهل تنامي هذه السياسات ونجاحها، أنها لا تنطلِـق من التّـرهيب بالقوة العسكرية، رغم أنها قادرة على ذلك، بل من رؤية ثاقبة لقادة حزب العدالة والتنمية ونُـخبها، في أن تكون تركيا جزءا من عمقها التاريخي والجغرافي والحضاري من دون الانحياز لطرف دون آخر، وأن تكون في الوقت نفسه دولة حديثة، ذات اقتصاد قوي وديمقراطية راسخة (تتطلب المزيد من الجُـهد) محترمة لحقوق الإنسان والحريات (تتطلب هنا الكثير من الجهد).

وهكذا تبدو تركيا التي لا تزال تُـناضل لاستكمال نموذجها، منذ الآن النموذج الأكثر قابلية للنجاح في المستقبل من أجل رفاهية شعوب المنطقة واستقرارها.

د. محمد نور الدين – بيروت

يريفان (رويترز) – زار الرئيس التركي عبد الله غُـل ارمينيا يوم السبت 6 أغسطس لحضور مباراة في كرة القدم، وقال إن هذه الزيارة يمكن أن تساعد في انهاء نحو قرن من العداء المتبادل وتعزز الامن في منطقة القوقاز الاوسع. وغُـل هو أول زعيم تركي يزور أرمينيا الدولة المجاورة لبلاده.

ولم تقم قط علاقات دبلوماسية بين انقرة ويريفان بعد استقلال ارمينيا عن الاتحاد السوفييتي، وحال دون قيام علاقات التساؤل بشأن إن كان الارمن الذين تعرضوا للقتل على يد الاتراك العثمانيين اثناء الحرب العالمية الاولى، ضحايا لعملية ابادة جماعية منظمة.

ورافقت طائرات هليكوبتر هجومية طائرة غُـل لدى وصولها ووقفت الشرطة والمتظاهرون على جوانب الشوارع الخالية من المرور، بينما كان موكبه يشق طريقه عبر وسط يريفان. ووجه رئيس ارمينيا سيرج سركسيان الدعوة الى غُـل لحضور مباراة يوم السبت في ملعب هرازدان. ودعا سركسيان الى علاقات اوثق في منطقة شهدت في الشهر الماضي حربا بين روسيا وجورجيا. وأثار النزاع القصير مخاوف بشأن امن امدادات الطاقة من بحر قزوين الى غرب اوروبا.

وقال غُـل، وهو يغادر أنقرة، انه يأمل في ان تساعد اول مباراة بين البلدين في تحقيق “تقارب” وان تسهم في “السلام والامن الاقليميين”.

وقال غُـل في مؤتمر صحفي “هذه المباراة لها أهمية كونها أول مباراة بين الفريقين الوطنيين لتركيا وارمينيا”، واضاف “هذه المباراة لها اهمية ستقدم فرصا مهمة”.

وقال سركسيان، ان الزعيم التركي وجه له دعوة لزيارة تركيا في مباراة العودة، وقال في مؤتمر صحفي بعد استقبال غُـل “هذه بداية طيبة”، واضاف “نأمل في أن نتمكن من اظهار حُـسن النية لحل المشاكل بين بلدينا وعدم نقلها الى الاجيال القادمة”.

ولم تفتح تركيا قط سفارة في ارمينيا. وفي عام 1993 أغلقت أنقرة حدودها البرية في مظهر تضامن مع أذربيجان، وهي حليف يتحدّث سكانه التركية، قاتل ضد انفصاليين مدعومين من ارمينيا بشأن اقليم ناجورنو قرة باغ.

وفي يريفان اغلقت الشوارع المحيطة بالملعب ومكتب الرئاسة امام حركة المرور، وطالب المتظاهرون بأن تعترف تركيا بأعمال القتل خلال الحرب العالمية الاولى على انها ابادة جماعية.

ورفع النشطاء الذين اصطفوا على جوانب الطرق اعلام الدول التي اعترفت بالابادة ولافتات كتب عليها “1915 لن تتكرر ابدا” و”نحن نطالب بالعدالة”. وجلس الرئيسان جنبا الى جنب اثناء المباراة.

وتقول ارمينيا ان 1.5 مليون ارميني قتلوا بأيدي الاتراك العثمانيين. ويتهم الارمينيون تركيا بارتكاب ابادة جماعية، لكن أنقرة تقول إن كثيرا من الارمن المسيحيين والاتراك المسلمين سقطوا في القتال.


(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 6 سبتمبر 2008)

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية