مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

أمريكا في 2005: “النمر لن يغّير أنيابه”؟

swissinfo.ch

السؤال الكبير الذي ظل مسلطا كالسيف طيلة عام 2004 فوق رأس أمريكا والعالم، بقي سؤالا كبيراً على مشارف عام 2005.

هل تُـغيّـر إدارة بوش-2 توجّـهات وإستراتيجيات إدارة بوش-1 في الشرق الأوسط والعالم؟

بالطبع، الدافع الرئيسي للسؤال كان العراق. فقد أدّى الفشل الأمريكي في السيطرة الأمنية- العسكرية على هذه الدولة الشرق أوسطية المهمة، إستراتيجياً ونفطياً، إلى إثارة الشكوك، ليس فقط حول مصير رؤية المحافظين الجدد لدور أمريكا وموقعها في العالم، بل أيضاَ حول مستقبل مفاهيم الحروب الاستباقية والوقائية، و”محور الشر”، وأولوية استخدامات القوة في السياسات الدولية.

يرى البعض، خاصة في روسيا وأوروبا، أن ورطة الولايات المتحدة في العراق، والتي باتت تُـشبه نسبياً مأزقها في الفيتنام في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، خلق فوضى إستراتيجية لن تتوانى القوى الكبرى الأخرى عن محاولة الإفادة منها لملء أي فراغ، لا بل ذهب مركز الدراسات الإستراتيجية الروسي “بينر” إلى أبعد من ذلك بكثير، حين استنتج بأن السياسات الدولية ستمر من الآن فصاعداً في مرحلتين متلازمتين:

الأولى، تخلّـي الولايات المتحدة عن النهج الانفرادي وعودتها الى سياسة “التعددية الدولية”، التي تكون بموجبها الأولى بين متساوين في العالم، فتضمن أمن النظام الرأسمالي العالمي عبر التعاون والتشاور، ولا تعمد إلى استخدام قوتها العسكرية لفرض رأيها على حلفائها (أوروبا) والمتعاونين معها (الصين وروسيا).

والثاني، بدء الانتقال خلال سنوات قليلة من التعددية “الدولية” إلى “التعددية القطبية”، التي تتوزع بموجبها القوى العالمية الرئيسية مناطق النفوذ الإقليمية في كل أنحاء العالم بموافقة أمريكية.

ووفق هذا السيناريو الأخير، ستستأنف روسيا دورها التاريخي في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق في شرق أوروبا ووسط آسيا، ويتم الاعتراف للصين بنفوذها في شرق وجنوب شرق آسيا، وتبرز الهند كقوة دولية في جنوب آسيا والمحيط الهندي، ويُـسمح للبرازيل بدور كبير في جنوب أمريكا اللاتينية.

ويعتقد مايكل فاينشتاين، المحلل الاستراتيجي الأمريكي أن الدول الكبرى بدأت ترقص بالفعل، وإن ببطء وحذر شديدين، على إيقاع موسيقى التعددية القطبية هذه، مستغلة تخبّـط الولايات المتحدة في وحول الشرق الأوسط.

فروسيا- بوتين، عادت إلى سياساتها الإقليمية السابقة، كما دلّ على ذلك تدخّـلها الكثيف في الانتخابات الأوكرانية، وهي تنوي وضع ترسانتها النووية الضخمة في خدمة هذه السياسات.

والصين، وبرغم انشغالاتها الاقتصادية، تنظر بعين الرضى إلى تطورات العراق، وتنتظر الفرصة السانحة لملء أي فراغ قد تتركه الولايات المتحدة في شرق آسيا، خاصة في كوريا الجنوبية واليابان.

والهند، تنشط للتخلص من المجابهة مع باكستان بهدف التحّول إلى مركز قوة عالمي يرنو ببصره إلى المحيطين، الهندي والهادي. ثم هناك البرازيل، التي تنشط بقوة الآن لاحتلال مقعد دائم في مجلس الأمن، وربما أيضاً لامتلاك أسلحة نووية.

إطلالة أخرى

هكذا يطل بعض المحللين الروس والأوروبيين على مضاعفات الورطة الأمريكية في العراق. وكما هو واضح، تتضمن هذه الرؤية بعض الوقائع، لكن مع الكثير أيضاً من مبالغات التفكير الرغائبي.

فالولايات المتحدة، وبرغم أزماتها الراهنة في العراق وفي الداخل الأمريكي (الديون والعجوزات الضخمة، والانقسامات المجتمعية بين الليبراليين العلمانيين والإنجيليين الأصوليين)، ليست على وشك التخلي ببساطة عن زعامتها العالمية لصالح التعددية القطبية.

صحيح أن بوش- 2 سيطلق في 2005 حملة دبلوماسية لإعادة بعض التوازن إلى سياسة التعددية الدولية عبر جولته الأوروبية، وتركيزه على دور حلف الأطلسي كقوة سلام أوروبية- أمريكية مشتركة، إلا أن كل التوقعات تشير إلى أن هذا لن يكون أكثر من وضع قناع جميل على وجه قبيح.

وبكلمات أوضح، فإن بوش- 2 لن يعدلّ من جوهر توجّـهاته العالمية، ولن يتراجع عن مباديء المحافظين الجُـدد حيال مسائل القوة ومباديء الحروب الاستباقية، وهذا رأي لا يعتنقه أنصار المحافظين الجدد فحسب، بل أيضاً أنصار القوى الليبرالية الديمقراطية الأمريكية الذين لا يكنّـون كبير ودّ لبوش.

وعلى سبيل المثال، نشَـر جون لويس غاديس، بروفسور التاريخ في جامعة ييل الأمريكية، دراسة مهمة في أواخر عام 2004 (“فورين أفيرز”)، ضمنهّا النقاط الرئيسية الآتية:

لا إدارة بوش- 2، ولا في الواقع أي إدارة ديمقراطية، في وسعها الهرب من درس 11 سبتمبر 2001، وهو أن ردع القوى المعادية لحماية الولايات المتحدة من هجمات إرهابية، لم يعد كافياً. الهجمات الاستباقية أصبحت ضرورة حتمية. وبالتالي، لن يتخلى بوش في ولايته الثانية عن مبدأ الحروب الاستباقية. كل ما سيفعله، هو محاولة توسيع الدعم الدولي عبر التعددية الدولية، لاستخدامات القوة العسكرية الأمريكية.

الأزمة الأمريكية في العراق لم تصل بعدُ إلى مستوى أزمتها في فيتنام، لا على مستوى الخسائر البشرية، ولا على صعيد االتكاليف المالية. هذا إضافة الى أن المتمردين (المقاومين) العراقيين لا يحصلون على دعم خارجي يُـوازي ذلك الذي حصُـل عليه الفيتناميون الشماليون من الصين والاتحاد السوفييتي. ثم أن العراق، وعلى عكس فيتنام، منقسم إلى سُـنّة وشيعة وأكراد، الأمر الذي يخلق ميزان عداوات داخلية، لا مقاومة موحدة، مما يُـغري الولايات المتحدة على مواصلة محاولة حسم الوضع هناك بالوسائل الأمنية.

لكن، حتى لو فشل جورج بوش في العراق، فإنه قد يُـكرر ما فعله ريتشارد نيكسون وهنري كيسينجر، حين إكتشفا بأن في وسع أمريكا “خسارة” فيتنام و”ربح” الصين. وهكذا، يستطيع بوش أن يُـعوّض عن العراق في سوريا وليبيا والمغرب ومصر وإيران وباكستان والسعودية وتركيا، وخاصة في الصراع العربي- الإسرائيلي.

العراق في إدارة بوش– 2 لن يصبح، كما فيتنام، العدسة الوحيدة التي تطل فيها الولايات المتحدة على الشرق الأوسط والعالم.

مغامرات جديدة

خلاصة خطيرة؟

أجل ، بالتاكيد .

فهي تعني بوضوح أن سياسات إدارة بوش- 2 في 2005، قد تكون أخطر وأكثر مغامرة (في الشرق الأوسط على الأقل) من إدارة بوش- 1 في 2003 و2004، خاصة إذا ما إقتنعت بأنها “خسرت” العراق، وبدأت بالتالي البحث عن “أرباح” في أماكن أخرى من المنطقة.

كما أنها تعني، أنه ما زال من المبكر للغاية، الحديث عن عودة محتملة إلى التعددية الدولية، ناهيك بالتعددية القطبية. فالنمر الأمريكي قد يغيّر في 2005 بعض خطوطه السوداء، لكنه حتماً لن يتخلى عن أنيابه.

سعد محيو – بيروت

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية