خمسـة قـُرون في خدمـة البـابــــا
تشهد ساحة القديس بطرس بالفاتيكان يوم السبت 6 مايو مراسيم أداء القسم التقليدية لفوج المُلتحقين الجدد بأقدم وأصغر جيش في العالم: "الحرس السويسري البابوي" الذي يحتفل هذا العام بالذكرى الـ500 على تأسيسه.
ويحضر رئيس الكنفدرالية موريتس لوينبرغر حفل القسم الذي يخلد الدفاع البطولي للحرس السويسري عن البابا كليمون السابع عام 1527.
إن كانت جنسية قائد الكنيسة الكاثوليكية تتغير حسب البابا الذي يـُنتخَب على رأس الفاتيكان، فإن الجنسية السويسرية للحرس البابوي ظلت ثابتة لم تتغير منذ قرون.
ويُعـدُّ هذا الحرس المكون اليوم من 110 رجلا أصغر وأقـدم جيش في العالم إذ يحتفل هذا العام بالذكرى الخمس مائة على تأسيسه.
تاريخ “جيش الفاتيكان” الطويل يزخر بالإنجازات البطولية للجنود السويسريين، لكن يحمل في طياته أيضا صفحات غامضة وأخرى مؤلمة. أما الظاهرة في حد ذاتها فتظل مُثيرة بدون شك. لـم تم اختيار أبناء سويسرا للدفاع عن بابا الفاتيكان؟
مُرتزقة أوفياء
قد يستحيل المرور أمام مدخل الفاتيكان دون أن تجتذب الألوانُ البراقةُ للحُرّاس السويسريين عين الزائر. وتقول الأسطورة إن الفنان والنحات الإيطالي مايكل أنجيلو، وهو من أشهر شخصيات عصر النهضة الأوروبية، قد رسم بنفسه زيّ الحرس السويسري…
بخوذتهم الحديدية المُزينة بريش النعام، وبسلاح الطبر العتيق الذي لا يفارق قبضتهم، يبدو أولئك الحراس بمظهرهم الغريب والمُلفت وكأنهم يشاركون في تصوير فيلم تاريخي عن حقبة النهضة.
ولعل الاحتفاظ بزيهم الأصيل دليل على الفخر بالسير على خُطى الأسلاف من الجنود السويسريين الذين اشتهروا قبل أكثر من خمس مائة عام بـ”روح قوية ومشاعر نبيلة ووفاء يـُضرب به المثل” وبـ”جيش لا يُقهر”، على حد تعبير الجيل المعاصر من الحرس السويسري في الفاتيكان (على موقعه الإلكتروني).
ويـُعتبر هذا الجيش آخر أثر لتقليد الهجرة العسكرية العريق الذي عُرف به السويسريون حتى قبل عصر النهضة على ما يبدو، إذ كـتب المؤخر اللاتيني المشهور “تاسيت” قبل قرون من تأسيس الحرس السويسري البابوي: “إن السويسريين شعب محاربين، يشتهر بقيمة جنوده”.
ويقول جيل الحرس السويسري البابوي الحديث عن أسلافهم: “إن السويسريين كانوا ينظرون عموما للحرب كهجرة مؤقتة، في فصل الصيف، وكانوا يشاركون بالتالي في حروب قصيرة لكن واسعة النطاق، قبل العودة لقضاء الشتاء في ديارهم (…) كانوا يُطلبون ويُدعوون من قبل الفرنسيين والإسبان على حد سواء، كانوا مثل الأسوار المتحركة، مبنية من حديد ولا يمكن اختراقها”.
القتال لـمحاربة الفـقر
وبسبب الفقر المُدقع الذي كان يسود أولى الكانتونات السويسرية في تلك الحقبة، اختار العديد من أبناءها التحول إلى مُرتزقة لحساب قوى كبرى وانضموا إلى صفوف العديد من الجيوش الأوروبية.
وذاع صيت أولئك المرتزقة لدرجة دفعت البابا يوليوس الثاني إلى توجيه طلب للسويسريين لإرسال عشرات الجنود إلى روما لضمان حراسته الشخصية.
ووصل الفريق الأول من الجنود السويسريين قوامه 150 رجلا إلى مدينة الفاتيكان يوم 22 يناير عام 1506، ليتحول ذلك اليوم إلى تاريخ التأسيس الرسمي للحرس السويسري البابوي.
ومع مرور السنين، أثبت الجنود السويسريون تفانيهم في سبيل الحفاظ على حياة وسلامة رئيس الكنسية الكاثوليكية، مُواجهين أي خطر يتهدده.
ويظل أبرز إنجاز بطولي ومأساوي في الآن نفسه لهؤلاء الحراس صمودهم أمام الهجوم الشرس على روما يوم 6 مايو 1527، والذي سقط خلاله 147 حرسا سويسريا (من أصل 189) أثناء دفاعهم عن البابا كليمون السابع ضد هجمات المرتزقة الألمان التابعين للإمبراطور الألماني كارل الخامس.
وتحول تاريخ 6 مايو من كل عام إلى موعد أداء الملتحقين الجدد بالحرس السويسري البابوي لقسم الوفاء للبابا في الفاتيكان، تخليدا لذكرى تضحية الجنود السويسريين بحياتهم من أجل قائد الكنيسة الكاثوليكية.
جيش كاد أن يختفي…
وكان الحرس السويسري البابوي قد أوشك على الاختفاء في عام 1970 عندما قرر البابا بول السادس إلغاء كافة الفرق العسكرية للفاتيكان، لكنه قرر استثناء الفريق السويسري الصغير من مُخططه.
ووفقا لتشريعات الفاتيكان، التي خضعت لمراجعة البابا يوحنا بولس الثاني عام 1979، يضم الحرس البابوي 110 جنديا. وتتمثل مهامه الحالية في الحرس الشرفي، ومراقبة معابر الدخول إلى مدينة الفاتيكان، والقصر البابوي، وضمان الحماية المُقربة للبابا.
وخلال حقبة البابا البولوني يوحنا بولس الثاني الذي توفي في أبريل الماضي بعد قضاءه 25 عاما على رأس الفاتيكان، كان على الحرس السويسري التحلي بشجاعة خاصة نظرا لحب البابا الراحل التقرب من حشود الجماهير الغفيرة، جماهير كانت تعبر أحيانا عن شغفها بالبابا بحماس شبه جنوني يحتم على الحراس مضاعفة الحذر وترقب الخطر في كل مكان.
ومن الأحداث التي ستظل راسخة في ذاكرة الحرس السويسري البابوي محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها البابا يوحنا بولس الثاني يوم 13 مايو 1981 في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان على يد التركي علي أغا الذي أصابه برصاصتين أثناء تحيته للجماهير مثل كل يوم أربعاء، وذلك بعد 3 سنوات من انتخابه. وقام الحرس بدور هام في إنقاذ حياة البابا إذ ردوا الفعل بسرعة كبيرة وتم إلقاء القبض فورا على المعتدي.
آفاق واعدة رغم الصفحة المُظلمة
وقد عكر صفحات تاريخ الحرس السويسري البابوي مأساة مازالت مظلمة وغامضة. ففي عام 1998، قتل الرقيب سيدريك تورني الرائد ألويس إسترمان وزوجته قبل أن ينتحر.
وأقفلت هيئة قضاء الفاتيكان التحقيق بسرعة مُعتبرة الحادث نتيجة نزعة جنونية. لكن مازال الغموض يلف بهذه المأساة في نظر العديد من الأشخاص حتى أن الموقع الإلكتروني الخاص بذكرى سيدريك تورني يعرض استقراء للآراء يسأل المتصفحين عن رأيهم حول مطالبة البابا الحالي بينيديكت السادس عشر بفتح التحقيق من جديد…
وربما ساهمت تلك القضية بقدر ما في التراجع الطفيف لعدد المتطوعين الذي سجل منذ بداية عقد الالفينيات. مما دفع الفاتيكان إلى اعتماد بعض الإصلاحات لحث الشباب السويسريين على الالتحاق بالحرس البابوي.
ومن أبرز تلك الإصلاحات تحسين جودة الخدمة لفتح آفاق مهنية جديدة للمُجندين، إذ أصبحوا يتلقون تكوينا في مجال المعلوماتيات والاتصال، ودروسا في اللغتين الإنجليزية والإيطالية.
فضلا عن ذلك، أتيحت لكل حارس إمكانية الحصول على شهادة خبير في مجال الأمن، وتعد تلك الشهادة بمثابة قاعدة صلبة قد تكون منطلق لمشوار مهني مُستقبلي في جهاز الشرطة أو قطاع الدفاع.
ويبدو أن مساعي الإصلاح أتت بعد ثمارها نظرا للعدد المتزايد للمُتطوعين الذي أخذ في الارتفاع منذ العام الماضي. ويبدو إذن أن أيام الجيش السويسري الصغير مازالت طويلة في الفاتيكان.
مسيرة إلى روما تواصلت 27 يوما
وقبل يومين من أداء الملتحقين الجدد بالحرس السويسري البابوي قسم الوفاء لقائد الكنيسة الكاثوليكية، وصل حوالي مائة من الأعضاء السابقين في الحرس السويسري إلى روما ظهر يوم الخميس 4 مايو بعد مسيرة تواصلت 27 يوما قطعوا خلالها مسافة 723 كيلومتر على الأقدام.
وتلقى الحراس السابقون فور وصولهم إلى الفاتيكان بركة البابا بينيديكت السادس عشر الذي حيى ما وصفه بـ”المبادرة الجميلة التي تعيد إلى ذاكرتنا شجاعة هؤلاء المواطنين المائة والخمسين الذين دافعوا بكرم شجاع إلى الموت عن شخص البابا، وكتبوا بتضحيتهم صفحة هامة من تاريخ الكنسية”.
وكانت المسيرة قد انطلقت يوم 7 ابريل الماضي من بيلينزونا في كانتون تيشينو جنوبي سويسرا، وتقدمت نحو الفاتيكان عبر الممر التاريخي الذي سلكه المرتزقة السويسريون قبل خمس مائة عام، إذ عبروا جبال الآلب ولومباردي وتوسكان قبل الوصول إلى روما.
ويمثل وصول المسيرة إلى الفاتيكان بداية الاحتفالات التي تنظم في روما بمناسبة مرور خمسة قرون على تأسيس الحرس السويسري البابوي، “الجيش الصغير ذي المثل الكبيرة” على رأي البابا بينيديكت السادس عشر.
سويس انفو – أنا باسيرا وإصلاح بخات
يعتبرُ تشريع الفاتيكان الحرس السويسري البابوي، الذي يضم اليوم 110 رجلا، تنظيما عسكريا.
تحظر سويسرا على مواطنيها الخدمة في جيش أجنبي.
لا تعتبر الكنفدرالية الحرس السويسري البابوي جيشا بل جهاز شرطة خاصة.
تأسس الحرس السويسري البابوي يوم 22 يناير 1506 على يد البابا يوليوس الثاني.
يوم 6 مايو 1527، قُتل 147 من أصل الحراس السويسريين البابويين الـ189 لدى دفاعهم عن البابا كليمون السابع ضد هجمات الجنود الألمان المرتزقة التابعين للقيصر الألماني كارل الخامس.
منذ ذلك التاريخ، يؤدي الحراس السويسريون الجدد القسم في 6 مايو من كل عام.
يتطلب الالتحاق بالحرس السويسري البابوي الإيفاء بجملة من الشروط:
أن يكون المرشح ذكرا، سويسري الجنسية، وكاثوليكيا رومانيا، وأن يتمتع بسمعة ممتازة، وأن يكون ادى الخدمة العسكرية في سويسرا، وأن يكون عمره يتراوح بين 19 و30 عاما، وألا يقل طوله عن 174 سنتمرا، وأن يكون أعزبا وقت التحاقه بالجيش البابوي إذ يمكنه الزواج بعد ذلك، وأن يلتزم باداء الخدمة لمدة عامين على الأقل، وأن يكون قد أنهى بنجاح تكوينا مهنيا بعد التعليم الأساسي أو حصل على شهادة ثانوية بعد التعليم الأساسي.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.