مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

سـوريا في عيون سويسرية

Syria

كلنا ينظر إلى "الآخر" ثقافيا كان أو إنسانيا، بقدر صغير أو كبير من "التحيزات المسبقة". تماماً كما أننا نقبل عليه بتصوراتنا الخاصة عن طبائع الأمور والسلوك.

المنتج التلفزيوني السويسري روت بادروت، تجول في أرجاء العالم، لكنها المرة الأولى التي زار فيها سوريا لتعلم اللغة العربية. وخرج بحصيلة تعدت قواعد اللغة العربية بأشواط كثيرة..

ريتو بادروت ليس السائح السويسري العادي الذي قد تصادفه في بلد عربي. فالرجل يعمل في مجال الإنتاج التلفزيوني الإخباري السويسري منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وهو بالإضافة إلى إنتاجه أفلاماً وثائقية عن بلدان كاليمن وأذربيجان مثلاً، فإنه يعمل في برنامج Rundschau الأسبوعي– الذي يُعتبرُ واحداً من أشهر البرامج التلفزيونية الإخبارية الناطقة باللغة الألمانية.

ربما لذلك تأتي الحصيلة التي خرج بها عن زيارته إلى سوريا، التي قضى فيها أكثر من شهر ونصف ضمن إطار إجازة تعليمية لتعلم اللغة العربية (وهي نوعية من إجازات مدفوعة الأجر توفرها هيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية لبعض الصحافيين العاملين لديها لتوسيع آفاقهم)، مفاجئة إلى حد كبير.

فقد كان واضحاً أن الصورة المسبقة التي حملها السيد بادروت معه عند وصوله إلى سوريا تختلف بصورة جذرية عن واقع هذه الدولة العربية العريقة في الحضارة والتاريخ. ولعل هذا التصادم بين التوقع والواقع كان مثمراً إلى حد كبير، فقد خرج الصحافي السويسري بثمار عملية تعدت “أخوات كان” وقواعدها بكثير. فيما يلي نص الحوار:

سويس انفو: لماذا اخترت تعلم اللغة العربية في سوريا؟

ريتو بادروت: أنا أقُضي إجازة تعليمية، وأحاول خلالها تعلم اللغة العربية، لكنها، وقد حاولت تعلمها من قبل، تظل صعبة للغاية.

أما لماذا أريد تعلم اللغة العربية فأنا أريد أن افهم هذا العالم بصورة أفضل. أعتقد أن معلوماتنا عن هذا العالم في أوروبا قليلة للغاية، وخاصة ما يتعلق بسوريا بالذات. أظن أن لدينا صورة خاطئة عن هذا البلد.

سويس انفو: كيف؟

ريتو بادروت: لدينا صورة عن نظام ديكتاتوري ومخابراتي، لكننا لا نعرف كيف يعيش الناس هنا، كما أننا لا نعرف هؤلاء الناس.

الناس هنا ودودون، وهم يقدمون دائماً يد المساعدة، وهم منفتحون جداً، فصورة سويسرا إيجابية للغاية لدى السوريين.

سويس انفو: أنت هنا منذ نحو ثلاثة أسابيع، ما هي الانطباعات التي خرجت بها حتى الآن؟

ريتو بادروت: انطباعاتي تتعلق أساساً بالبشر، بالإنسان هنا. الناس (الذين التقيت بهم) يحبون المساعدة، هم يَقبلون الإنسان الغريب، ليست لديهم تحيزات مسبقة، بإستثناء الاعتقاد الشائع أن سويسرا هي جنة الله على الأرض، وهي صورة لا يمكننا أن نؤكدها دائماً (نحن السويسريون)..

كما أنهم يتحلون بروح الدعابة، وما أدهشني هو حسهم النقدي، هذه حاسة لم أعرفها هكذا في بلد أخر، فالناس يقولون ببساطة هذه دولة ديكتاتورية، وهم أحرار في أسلوبهم في التعبير عن آرائهم، طبعا ليس في كل الأحوال، لكنهم منفتحون جداً، أكثر انفتاحاً منا نحن السويسريون والسويسريات.

سويس انفو: لقد قلت قبل إجراء الحديث إنك اندهشت من وجود ما أسميته بالفوضى الإجتماعية، ما الذي عنيته بذلك؟

ريتو بادروت: أعطيك مثلاًُ بفوضى المواصلات. هذه الفوضى أعنى بها أساساً دمشق، لأن الكثير من سكان الضواحي والأرياف، ينتقلون إلى هنا، أو يعيشون هنا، أو يعملون هنا، وهذا ما يتسبب في زحمة مواصلات لا تصدق، وهي فوضوية بكل ما في الكلمة من معنى.

عندما يعبر الإنسان الشارع يخاطر السويسري الجاهل بحياته (يضحك)، وعادة ما ألتصق بالسوريين عند عبور الشارع وأنا مدرك أني بفعلي ذلك سأتمكن من الوصول إلى الجهة المقابلة.

سائقو السيارات يزمرون كثيراً بأبواق سيارتهم، رغم أني سمعت أن السلطات السورية منعت ضرب بوق السيارات قبل أسبوعين، لكن لا أحد شعر بنتائج هذا الحظر على الإطلاق. فضرب الكلاكس مستمر على قدم وساق.

هذا المثل يظهر الجانب الفوضوي الذي أشرت إليه، لكنه يتواجد أيضا في جوانب أخرى، على سبيل المثال، نحن في أوروبا الغربية والولايات المتحدة نعيش في وقت أصبح من المعتاد فيه منع وحظر التدخين في معظم الأماكن العامة، لأسباب تتعلق بالصحة، (سويسرا بدأت حديثاً في تبني هذا الحظر وإن بصورة جزئية)، أما هنا فإن البعض يدخن أثناء فترة تناول الطعام، كتدخين الشيشة مثلا، وهو أمر لا يزعج أحداً. أو سمعت من البعض أنه يسمح بالتدخين في الباصات أو في الميكروباص، وأنا (يضحك من جديد) كسويسري “مؤدب” لا أدخن هناك (رغم أنه مدخن عتيق)، و لا أحد يشتكي، وهم – طلاب وزملاء لي – يدخنون سهواً لأنهم لم يروا أن هناك لافتة “ممنوع التدخين”، ولم يشتك أحد. وقد رأوا بعد ذلك اللافتة وامتنعوا عن ذلك. لكن هذا يعكس قدراً كبيراً من التسامح تجاه الأخر.

أما كيف يعبر هذا التسامح عن نفسه تجاه الإثنيات والطوائف المتنوعة لا أستطيع أن احكم على ذلك. لقد تحدثت فقط مع فلسطينيين وأشخاص من القنيطرة في الجولان المحتلة، أيضاً هؤلاء لديهم حقوق كثيرة بشكل نسبي، وهو أمر مدهش، فعندما أفكر في سياسات اللجوء السويسرية، لا يمكنني أن أصفها بسياسات اللجوء فهي سياسات “تخلص”، فإن الفلسطينيين مقارنة لديهم حقوق كثيرة هنا في سوريا، الشيء الوحيد هو أنه لا يحق لهم السفر إلا في البلدان العربية، لا يحملون جواز سفر سوري، لكن يحق لهم العمل والدراسة (كما يحق لهم امتلاك بيت واحد، وباستثناء حق الانتخاب والترشيح والتجنس يعامل الفلسطينيون كالسوريين)، وهو أمر مدهش، فوفقا لتقديرات غير رسمية يعيش في سوريا نحو 700 ألف لاجيء فلسطيني، وربما يكون العدد الفعلي أكبر من ذلك (تقدير وكالة الأنروا لغوث اللاجئين الفلسطينيين يحدد هذا الرقم في شهر مارس عام 2005 بـ 432 ألف لاجئ).

سويس انفو: هل تحدثت مع سوريين حول التغيير السياسي أم أن هذا الموضوع لم يكن مطروحاً أساساً للنقاش؟

ريتو بادروت: نعم، تناولت هذا الموضوع. لقد قرأت في سويسرا أن المعارضة السورية هنا تشعر بخيبة أمل كبيرة تجاه ربيع (الديمقراطية) الذي جاء بعد وصول الرئيس بشار الأسد إلى السلطة، (بيد أني) وجدت أن الأشخاص الذين تحدثت معهم، وأنا أعتبرهم سوريين لهم حس نقدي، لازال لديهم أمل.

يقولون إن هناك الكثير من الأمور الجديدة حدثت هنا، على سبيل المثال مقاهي الإنترنت المتواجدة في كل أنحاء دمشق، قرأت أن هناك مواقع ممنوعة على الإنترنت، لم تكن هذه تجربتي، فأنا لم أتعرض لهذه المشكلة، كل شيء كان متاحاً، كنت أستطيع البحث مستخدما محرك جوجل Google عن أي شيء، وكان ما أبحث عنه متاحاً، كنت مندهشاً خاصة بعد المعلومات (المناقضة لهذه التجربة) التي حصلت عليها في سويسرا أو أوروبا الغربية.

سويس انفو: هناك ثقافة “اللعب” يلاحظها المرء هنا. هل يمكنك وصف انطباعاتك لنا؟

ريتو بادروت: هناك في دمشق مطعم جديد في الحي المسيحي، يقبل عليه السوريون والسوريات لأنه جيد جداً، وهنا يمكن للمرء طوال الليل أن يلعب (النرد، الزهر، الطاولة، الكوتشينة..) وهذا أمر لفت انتباهي كثيراً، عندما أذهب إلى مطعم في سويسرا، في مطعم غالي، فإنه مكروه للغاية لعب الكوتشينة هناك، لن نجد هذا حتى في كانتون التيتشينو الناطق باللغة الإيطالية (يضحك).

سويس انفو: تحدثت عن “تحيزات مسبقة” كانت لديك قبل وصولك إلى دمشق..

ريتو بادروت: أحد التحيزات (أو الأفكار) المسبقة الذي كان لدي يتصل بـ”تخلف العالم العربي”. ويجب أن أقول إني أصبت بدهشة عميقة هنا في سوريا، فهي دولة عصرية، على الأقل في المدن، ويوجد الإنترنت، ومعظم الناس لديهم هواتف نقالة، واتجاهاتهم في بعض الأحيان غربية، وهذا لا يعني أن السوبرماركات موجود هنا، وهذا ما نراه في روسيا حيث يستطيع المرء في سوبرماركاتها شراء بضائع غربية بأسعار غالية، هنا في المقابل توجد بضائع محلية، وبأسعار رخيصة، وهذا أمر أدهشني، فالبلد في الواقع معتمد على ذاته.

وهذا طبعا لفت انتباهي، لأن التهديد بفرض الأمم المتحدة عقوبات إقتصادية على سوريا يحوم في الأفق، ويجب أن أقول إن هذا سيكون أمراً مؤسفاً للغاية بالنسبة لهذا البلد، كما أنه سيكون معوقاً لتطوره ونموه الجاري، ولكن البلد في الواقع مستقل.

إلهام مانع – دمشق – سويس انفو

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية