تخصص سويسري في الحفائر الاضطرارية
يسهر المعهد السويسري في أسوان القديمة بالإشتراك مع قسم الآثار المصري على عمليات الحفائر الاضطرارية التي تعتبر تجربة فريدة من نوعها في أسوان والإسكندرية.
وإذا كانت هذه العملية قد سمحت بالتعرف على المزيد من المعلومات التي أدت الى تصحيح مجرى التاريخ، فإنها تحتاج الى مزيد من الشرح والإعلام لطمأنة أصحاب القطع الأرضية.
المشروع الثاني الذي يسهر عليه المعهد السويسري للأبحاث المعمارية والأثرية لمصر القديمة في مدينة ” سيني ” او أسوان القديمة يتعلق بالحفائر الاضطرارية. وهو المشروع الذي يتم إنجازه في عمل مشترك مع قسم الآثار المصري بحيث يتعلق الأمر ، عند الشروع في ترميم بناية او بناء بناية جديدة في المنطقة المعلنة منطقة أثرية، بمعاينة ما في باطن الأرض من بقايا أثرية قبل الشروع في عملية البناء.
وهو المشروع الذي تم الشروع فيه في العام 2000، وسمح لحد اليوم بفحص أكثر من 30 موقعا في مدينة أسوان، تم الاحتفاظ بعدد قليل جدا كمواقع اثرية بينما تمت إعادة البقية لأصحابها لمواصلة عملية البناء بعد تدوين المعلومات التي تم الحصول عليها من خلال الحفريات.
حفائر تمليها الضرورة
أمام خطر الزحف السكاني وتوسع مناطق التنمية الزراعية تطلب الأمر تنظيم حفائر اضطرارية عهد بها في مدينة أسوان لفريق مشترك متكون من خبراء مصريين وخبراء تابعين للمعهد السويسري للأبحاث المعمارية والأثرية لمصر القديمة.
وللقيام بهذه الحفائر الاضطرارية تم إخضاع مدينة أسوان القديمة لقانون 117 لحماية الآثار لعام 1983 الذي يمنع عمليات حفر او تجديد مباني إلا بعد الرجوع لمصلحة الآثار. وتجري العملية في تنسيق تام بين الجانب المصري والجانب السويسري بحيث يشعر خبراء المعهد السويسري ببداية أية أشغال في منطقة بناء بالمدينة القديمة.
ويقول نائب رئيس المعهد السويسري فولغانغ موللر “كلما تم الشروع في عملية بناء يتم أشعارنا بذلك سواء في النهار او في الليل لفحص المنطقة”. وفي حال العثور على دلائل وجود مباني أثرية يتم توقيف أشغال البناء للسماح للخبراء بأجراء تحرياتهم. ولكن كما يقول موللر ” قد يستغرق ذلك يوما او يومين ولكن قد يستغرق أيضا سنة أو سنتين”.
أما مدير عام آثار أسوان والنوبة الدكتور البيلي فيذكر بأن المؤتمر الدولي ل”المصريات” الذي يعقد دوريا والذي نظم في مصر في نهاية العام 1999 تم فيه اقرار ضرورة الاهتمام في المناطق المعرضة لتنمية زراعية او سكانية او عمرانية في مصر بمراعاة عدم تأثير ذلك سلبيا على الآثار في مصر. وهذا ما أدى الى تطوير ما يسمى بالحفائر الاضطرارية في المناطق المعرضة لهذه التنمية.
وانطلاقا من ذلك يرى مدير عام آثار أسوان والنوبة الدكتور البيلي” أن فكرة إقامة مشروع مشترك مصري سويسري لمعاينة حفائر الناحية الشرقية في أسوان القديمة “. ويحدد الدكتور البيلي الأولويات في ” توثيق المعلومات التي يتم الحصول عليها وتسجيلها ثم الترميم والحفاظ على الآثار والتقليل من عمل الحفائر”.
“الحجر ليس أغلى من البشر”
في الحفائر الاضطرارية كثيرا ما يحدث تضارب بين المصلحة الشخصية لصاحب القطعة الأرضية الذي يرغب في إنهاء أعمال البناء بسرعة وبين المسئولين عن الآثار الذين يحملون مسئولية توثيق بصمات الحضارات السابقة خدمة للإنسانية وللأجيال القادمة.
ولا شك في أن المسئولية الملقاة على عاتق مدير عام آثار المدينة مسئولية كبرى تتطلب مثلما يقول الدكتور البيلي “ضرورة التحرك الدبلوماسي للتوفيق بين المطالب السياسية، والمطالب الاقتصادية، والخدمات، والنظرة الإنسانية من جهة ، وبين المطالب العلمية من جهة أخرى التي تبدو في نظر المواطن العادي لا اهمية لها”. كما يجب التوفيق بين الجانب المصري والجانب السويسري مثلما يقول الدكتور البيلي ” للشرح بشكل جيد للجانب السويسري بأن هناك ضروريات تفرض الاستغناء عن الإجازة في حالات مماثلة لمراعاة مصالح الناس”. ويستشهد الدكتور البيلي بما حدث في محطة المياه التي تعتبر المصدر الرئيسي لتغذية أسوان. بحيث تم العمل حتى أثناء الليل ورغم ذلك بقيت الأشغال لمدة سنة ونصف.
وحتى ولو أكد الدكتور البيلي التمكن من التغلب على هذه المشكلة بترغيب المواطن في المشاركة في الاهتمام أكثر بعملية البحث والتنقيب عن هذه الآثار في مدينته، إلا أن الجانب السويسري يشتكي من نقص الإعلام الموجه للجمهور الواسع في هذا الإطار لتبديد فكرة التخوف من إمكانية مصادرة القطعة الأرضية بهدف الحفاظ على الآثار.
إذ يقول مدير المعهد السويسري كورنيليوس فون بيلغريم ” إن املنا في أن يثق المواطنون فينا وفيما نقوله بأننا لا نرغب في مصادرة قطعهم الأرضية بل كل ما نرغب فيه هو تحليل ما هو موجود بها من آثار وإعادتها لأصحابها”. والذي اختتم بقوله ” لا نرغب في تحويل كل أسوان الى حديقة آثار”.
وللخروج من هذه الدوامة هناك تشجيع أصحاب القطع الأرضية المعرضة للبناء لكي يعرضوا قطعهم على فحص خبراء الآثار من الفريق المصري السويسري قبل موعد الشروع في مشروع البناء وبذلك يتم تجنب تأخيرات وعراقيل آخر لحظة.
ويرى مدير عام آثار أسوان الدكتور البيلي أن مصر أصبحت تلجا اليوم الى وسائل جد متطورة للكشف عن مناطق الآثار مثل الأقمار الصناعية ووسائل الاستكشاف عن بعد . وهو ما يتم في تعاون مع العديد من الدول.
منطقة معبد إيزيس من الاستثناءات الممكنة
منطقة معبد إيزيس في أسوان القديمة تعتبر من الاستثناءات بحيث تم تخصيص المكان لموقع سياحي سيسمح بإظهار الأهمية التاريخية للمكان من خلال معبد إيزيس الذي مازال قائما وتراكمت حوه مباني تمتد من القرن 3000 ق.م الى القرن الثامن او التاسع بعد الميلاد.
وبما أن المكان تم تخصيصه لمصلحة الآثار، يعود خبراء المعهد السويسري للقيام بأعمال الترميم فيه من حين لآخر عندما لا تكون هناك حفائر اضطرارية في أماكن أخرى من المدينة.
وهذا الاستثناء الممكن هو الذي يجعل العديد من أصحاب القطع الأرضية متخوفين من إمكانية أن يكون ذلك من نصيبهم. وما يخيفهم أكثر كون الثمن المقدم من قبل الدولة لتعويض ثمن القطعة الأرضية أقل بكثير مما هو متداول في السوق الحرة. وهنا تحتاج الحكومة الى بذلك مزيد من الجهد لإقناع المترددين.
تعاون سمح بتجاوز المشاكل
مشروع الحفائر الاضطرارية الذي يقوم به الفريق المشترك المصري السويسري في أسوان يعتبر مثالا يقتدى به في مجال التعاون في قطاع الآثار بحيث يشتمل كل فريق على تقنين ذوي خبرة عالية في أعمال الحفائر والتسجيل والتوثيق والتصوير.
عن هذا التعاون يقول مدير عام آثار أسوان والنوبة الدكتور البيلي” لقد بدأ الفريق السويسري يشتغل في موقع بينما يشتغل الفريق المصري في موقع آخر ويلتقي الخبراء من الطرفين في عملية التوثيق وهذا يوميا مما يسمح بضبط وثائق بشكل علمي مضبوط”.
وبهذه الطريقة تم توثيق مكتشفات عشرين موقعا في السنة الماضية بينما وصل العدد في بداية هذا الموسم الى 30 موقعا.
أما الجانب السويسري فيثمن مشاركة الجانب المصري لأنه هو الذي يقوم بدور الوسيط لدى الجمهور.
كما ان هذه الفرصة للتعاون في مجال تحديد الفترات الزمنية للقطع التي يعثر عليها واستخدام وسائل قياس متطورة وضعها المعهد الفدرالي في زيوريخ تحت تصرف المعهد السويسري تعتبر فرصة للخبراء المصريين بالتعرف على وسائل قياس جد متطورة في هذا المجال.
ويشدد مدير عام آثار أسوان الدكتور محمد البيلي على ” أن نقل التكنولوجيا في عمل مشترك مثل الذي نقوم به امر هام جدا، نظرا لكونه متقدم في ناحية وأنا أيضا لدي إلمام بميادين هو يجهل فيها الكثير”. ويرى الدكتور البيلي ان العمل المشترك في مجال التنقيب عن الآثار ” هو الحل لقيام حوار فعي بين الحضارات والثقافات”
وفي حكمه على هذا التعاون أشاد مدير عام أثار أسوان والنوبة الدكتور محمد البيلي بكون المعهد السويسري من المعاهد القليلة التي تشجع على التعاون نظرا لاشتراكه في مشاريع مع الجانب المصري ومع المعهدين الألماني والفرنسي.
تصحيح مجرى التاريخ
اهتمام الحفائر الاضطرارية في أسوان او أركيولوجيا المدن بجمع أكبر قدر من المعلومات عن تطور المدينة ونموها، يرى فيه نائب رئيس المعهد السويسري فولفغانغ موللر ” أهم مكسب إن لم يكن ذلك بالنسبة للسائح الذي يزور المدينة، فإنه مهم بالنسبة لسكان أسوان الذين سيكتشفون الكثير عن تطور مدينتهم”.
كما يعتبر الحفائر التي يقوم بها علماء الأنتربولوجيا في المقابر القديمة من العمليات التي تسمح بجمع الكثير من المعلومات عن الحضارات السابقة وعن نمط العيش الذي كان يتبعه السكان العاديون.
أما مدير عام اثار اسوان الدكتور البيلي فينظر الى الأهمية التاريخية لتلك المعلومات بحيث قال ” لقد توصلنا الى حقائق لم تكن معروفة من قبل وهي أن إيليفنتين كانت معروفة على أنها هي العاصمة للمقاطعة الأولى في مصر. وأنها كانت تحتوي على المعابد والأحياء السكنية . لكن هذه الأبحاث كشفت لنا أن خارج ايلفنيتن في مدينة سيني او أسوان الحالية كانت عصور فرعونية موجودة حتى من الدولة القديمة. وكلما نزلنا الى أسفل كلما وجدنا آثار حضارات قديمة وأصبح عندنا هنا مدلول وإثباتات بإن عاصمة المقاطعة لم تكن إليفنيت وحدها بل المنطقة الشرقية أيضا وأصبحت إيلفنيتن العاصمة التجارية او الاقتصادية وان الحصون والقلاع والمدينة السكنية كانت في الناحية الشرقية التي وجدت بها أطلال لقلاع ولحصون ومنازل وشوارع ومرافئ لنقل القطع الأثرية والجرانيت الوردي او الرمادي والكوراتيزيت للمعابد في الناحية الشمالية “.
ويضيف الدكتور البيلي “هذا ما دفع الى تغيير ما كان سائدا من مفاهيم وهذا بفضل نتائج هذه البعثة المشتركة مع المعهد السويسري”. قبل أن يختتم ” فهذه البعثة أصبحت من الركائز الأساسية ليس في أسوان فقط بل على مستوى العالم ومستوى مصر في وسط البعثات الأجنبية كلها”.
مشكلة التخلي عن المواقع الأثرية
المشكلة التي تواجه الفريق العامل في الحفائر الاضطرارية في أسوان سواء من المصريين او من المعهد السويسري كون معظم المناطق التي يتم فحصها، تتم أعادتها لأصحابها من أجل مواصلة عملية البناء.
ويشرح الدكتور البيلي هذا الاختيار الصعب الذي على عالم الحفائر اتخاذه من خلال مثال حفائر محطة المياه وذلك بقوله “هنا نتساءل لو احتفظنا بالموقع رغم هشاشة ما به من آثار هل سيعطي الجدوى المطلوبة؟” قبل أن يضيف ” طبعا فكرنا كثيرا فوجدنا أن الآثار الموجودة هي عبارة عن طوب من اللبن الهش جدا والمصابة بالمياه الجوفية وهذا لن يكون بإمكانها مقاومة الزمن بعد الكشف عنها . لذلك نكتفي بتوثيق المكان وبجمع اكبر قدر ممكن من المعلومات والحقائق التاريخية قبل إعادة المكان لأصحابه”
الحل البديل، المسار السياحي
لكن هذه المعلومات المجمعة عن تطور المدينة سوف لن تبقى طي الأدراج او الملفات بل ينوي الجانبان السويسري والمصري استثمارها من خلال تدوين تلك المعلومات في لوحات تعلق في شوارع المدينة لتشهد على ما تم اكتشافه في هذه الأبحاث.
عن مشروع اللوحات الإرشادية يقول الدكتور محمد البيلي ” إن هذه الفكرة كانت من أول توجهاتي لما اقترحت على المعهد السويسري القيام بعمل مشترك”.
وهذه التقنية متبعة في العديد من المدن الأثرية الأوربية. ولربما قد نشاهدها في أسوان بعد الانتهاء من أعمال التنقيب الاضطراري.
الاهتمام بالحفائر الاضطرارية في مدينة أسوان يعود لكون أسوان كما يقول مدير عام آثار أسوان والنوبة ” تمتد لأكثر من 400 كلمتر من الشمال للجنوب، وكانت مهمة كمركز لاستخراج الحجر المستعمل في بناء المعابد في الزمن القديم، وخاصة الجرانيت الرمادي، وأن وادي نهر النيل يتسع أكثر في المنطقة مما سمح لها بأن تكون بقعة هامة جدا في تاريخ مصر وعبر الحقب التاريخية من بداية عصور ما قبل التاريخ حتى يومنا هذا”.
يضاف الى ذالك أن الاهتمام بالحفائر الاضطرارية في مدينة أسوان عند ترميم المباني القديمة أو بناء مباني جديدة يعود لكون، كما يقول الدكتور محمد البيلي، ” عندنا دلائل تشير الى أن أسفل هذه المدينة الحديثة كانت هناك مدن قائمة وحقب تاريخية وعصور مختلفة معروفة لدى الأثريين من قبل وتشير لها المراجع التاريخية”.
أما نائب رئيس المعهد السويسري المكلف بالإشراف على الحفائر الاضطرارية في أسوان فولفغانغ موللر فيذكرنا بأن أسوان ” كانت تسمى سونو وهذا يعني معسكر او ميناء بين منطقتي النيل القابل للملاحة وغير القابل للملاحة”. وأنها إذا كانت في العهد القديم تتسع لما بين 500 و 800 ساكن فإنها اليوم تأوي اكثر من 500 الف ساكن. وعن أهمية هذا التنقيب في هذه المنطقة بالذات يقول فولغانغ موللر ” إذا كنا قد عثرنا على آثار رومانية خارج المدينة فإن ما يهمنا داخل المدينة القديمة هو وجود آثار وبقايا مدينة تمتد من الحقبة اليونانية أي العهد البطلمي في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد حتى الحقبة العربية الإسلامية”.
لذلك يتم التركيز على أبحاث اركيولوجيا المدن لإعادة تصور شكل المدينة في العصور الماضية وما احتوت عليه من معالم وبنايات رسمية ودينية .
وقد سمحت هذه الحفريات الاضطرارية بالعثور على حفريات تمتد من حوالي 600 قبل الميلاد حتى القرن السابع او الثامن بعد الميلاد”. وهذه الحفريات سمحت بتصحيح بعض من مجرى التاريخ.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.