مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

عالم سويسري: “أعيش الأحداث الجارية في سوريا بألم وحسرة كبيرين”

لوتونسورر1
البروفسور جون ماري لوتانسورر، رئيس بعثة التنقيب السويسرية في بئر الهُمّل ببادية الشام (صورة التقطت في صيف 2010) swissinfo.ch

يتابع  جون ماري لوتانسورر عالِم الآثار، ورئيس إحدى البعثات الأثرية السويسرية في سوريا، "بألم كبير" الأزمة السورية الحالية "لما يلحق بالإنسان السوري بكل طوائفه من جهة، وبما يحدث من نهب وتدمير للمعالم الاثرية التي هي ملك للإنسانية من جهة أخرى"، وقد كان هذا الموضوع أحد محاور مؤتمر دولي نظم الصيف الماضي في مدينة بازل وحضرته حوالي 700 شخصية علمية من بينها علماء آثار سوريون.

بعد أن قضى أكثر من 30 عاما من حياته وهو يتردد على سوريا كرئيس لإحدى البعثات السويسرية للتنقيب عن الآثار في بادية الشام لحقبة ما قبل التاريخ، والتابعة إلى معهد حقب ما قبل التاريخ لجامعة بازلرابط خارجي، ينظر عالم الآثار جون ماري لوتانسورر بحسرة لما آلت إليه أوضاع سوريا خلال هذه الحرب المدمرة التي تلت الإنتفاضة الشعبية التي اندلعت في البلاد منذ منتصف مارس 2011.

وفي لقاء أجرته معه swissinfo.ch في مدينة بازل شمال سويسرا، قال: “أعيش الأحداث بألم وحسرة كبيرين. ليس فقط لكوننا تركنا هناك حصيلة أبحاث علمية لعدة سنوات ولم نعد الى المنطقة منذ مارس 2011، بل بالدرجة الأولى لما يحدث لسكان المنطقة التي ترددنا عليها منذ 30 عاما وتعرفنا فيها على جيلين من السكان وأصبحت تربطنا بهم علاقات وثيقة”.

تساؤلات كثيرة 

استقرت بعثة البروفسور لوتانسورر، في منطقة بئر الهُمّل ببادية الشام ما بين مدينة تدمر ومدينة بئر الزور، في موقع يُعتبر أحد أهم المواقع الأثرية لحقبة ما قبل التاريخ في العالم. وقد أقامت البعثة في المنطقة مختبرا يقوم بتحليل القطع التي يُعثر عليها في الموقع الأثري الذي يعتبر بالفعل مدرسة يتقاطر عليها العديد من البحاثة والطلبة من سوريا وسويسرا والعالم قاطبة.

واليوم، يتساءل البروفسور لوتانسورر بحسرة عن “مصير هذا المختبر الذي يُعتبر أهم مختبر لآثار ما قبل التاريخ في سوريا، ويضم في قلب الصحراء أكثر من 100 ألف قطعة أثرية “. كما يعزو عالم الآثار السويسري اهتمامه بما يحدث في هذا البلد العربي إلى ما يُسميها “المسؤولية المزدوجة” تجاه “البشر الذين عاشرهم من جهة، وتجاه الأبحاث العلمية المتوقفة منذ 2011″، على حد قوله.

توقف البعثات الأثرية

قبل اندلاع الأحداث في مارس 2011، تواجدت في سوريا أكثر من 100 بعثة تنقيب اجنبية عن الآثار. وقد توقفت كل هذه البعثات عن نشاطاتها، وعادت الى دمشق أو الى البلدان المجاورة ومن بينها البعثتان السويسريتان أي بعثة البروفسور لوتانسورر التي تشرف على حفريات ما قبل التاريخ في منطقة بئر الهمل، وبعثة البرفوسور دونيز جانكان التي كانت تشرف على حفريات في تدمر وقصر الحير الشرقي.

ويقول البروفسور جون ماري لوتانسورر: “لقد تعرض موقع قصر الحير الشرقي لأضرار فادحة نظرا لأنه كان تحت إشراف بعثة حكومية سورية. فقد قامت المجموعات المعارضة أو الثورية التي احتلت المكان وحولته الى قاعدة، بإخراج جميع المواد الأثرية، ولا ندري ما إذا كانت القطع الأثرية قد أخرجت فقط أو أنه تم نهبها لبيعها ايضا”.

عمل إنساني، وحماية للموقع

كان البروفسور يعتقد في البداية أن الأزمة السورية سوف تستغرق بضعة أيام ثم تعود الأمور الى مجراها السابق، ولكن مع تدهور الأوضاع قرر في نهاية عام 2011 وقف الأبحاث وإخلاء المكان.

و بعد تفاقم أزمة النازحين، قرر البرفسور لوتانسورر، وعلى خلاف عدة بعثات علمية أخرى متواجدة في سوريا، فتح بنايات بعثته لإيواء عائلات سورية نازحة. إذ يقول: “بدل إبقاء هذه البنايات فارغة قررنا فتحها لإيواء عائلات نازحة من منطقة حلب، شريطة عدم المساس بالمحتويات الأثرية والمختبر. وقد استقبلنا ثلاث عائلات، ومرت الأمور على أحسن ما يُرام”.

من العوامل التي ساعدت على عدم تعريض الموقع الاثري ومحتويات المختبر للضرر كما يقول البرفسور جون ماري لوتانسورر  هو أنه “عبارة عن حفرة عميقة يُعاد إغلاقها بعد كل موسم تنقيب، وثانيا أن القطع التي نهتم بها في المواقع الاثرية لحقب ما قبل التاريخ هي عبارة عن قطع صخرية وعظام، وبالتالي لا قيمة تجارية لها، وهذا ما يعيه الناس في المنطقة منذ حوالي 30 عاما، وهذا ما سمح بحماية مواقعنا على خلاف ما حدث لمواقع أثرية أخرى”.

وعلى الرغم من تعرض هذا الموقف الانساني الذي اتخذه البروفسور لوتانسورر لانتقادات من قبل بعثات أثرية أخرى متواجدة في المنطقة، لخوفها من تعريض المواقع للضرر والنهب، فإنه لم يشعر بالندم أبدا على القرار الذي اتخذه آنذاك.

المزيد

المزيد

أسرار ما قبل التاريخ

تم نشر هذا المحتوى على تتواجد البعثة الأثرية السويسرية بقيادة البروفسور جون ماري لوتانسورر في حوض الكوم منذ أكثر من عشرين عاما وبالتحديد في موقع بئر الهمل الذي يعد أهم موقع لعصور ما قبل التاريخ بمنطقة الشرق الأوسط ويعود الى أكثر من مليون سنة ق.م. وقد قامت باشتراك مع بعثة سورية باكتشاف بقايا جمل عملاق يعد النموذج الوحيد في العالم،…

طالع المزيدأسرار ما قبل التاريخ

تفاوت في مستوى المسؤولية  

إذا كانت المواقع الاثرية التي تعود لحقبة ما قبل التاريخ لم تتعرض لأضرار تُذكر، فإن المواقع الاثرية التي بها قطع أثرية وتماثيل وتحف فنية ذات قيمة تجارية، أصبحت عرضة لنهب مُمنهج في بعض الأحيان ونهب عشوائي في أحيان أخرى لحد قرع جرس الانذار عدة مرات من قبل منظمة اليونيسكو.

إذ يقول البروفسور لوتانسورر: “لقد تعرضت عدة مواقع أثرية أخرى لنهب وأضرار كبرى، وهذا إما على يد السكان المحليين او من طرف جماعات نهب منظمة”. وإذا كان، وعلى عكس الكثير من زملائه، يُبدي بعض التفهم لما يكون السكان قد قاموا به من نهب لبعض المواقع “لكونهم في اشد الحاجة لسد رمق العيش في ظروف صعبة للغاية، وبالتالي فإنهم يعتبرون أن ما في جوف الأرض من كنوز هو ملك لهم ايضا”، فإنه ينتقد بشدة كون هذا النهب “يتم من قبل رسميين من جنود نظاميين أو جنود مجموعات مسلحة مثلما تم في عدة مواقع مثل “أفاميا او قلعة المضيق”. لأن هؤلاء مسؤولون عن حماية هذا الإرث الانساني العالمي”، كما يقول.

50% حجم التحطيم والنهب

من الأضرار الكبيرة التي لحقت بالمعالم التاريخية والأثرية في مدينة حلب، مثلا يشير البروفسور لوتانسورر إلى أن : “تحطيم السوق التاريخي، ومأذنة المسجد الأموي. وهناك بعض الأضرار في حلب التي لا يمكن ترميمها وحتى ولو تم تعويضها بنسخ اصطناعية فإن ذلك لن يكتسب قيمة القطعة الأصلية”.

كما أضاف مشيرا إلى أن “متحف حماة هو الآخر تعرض للنهب والتخريب والقصف. بينما تم انقاذ بعض القطع الثمينة من متحف حلب بفضل عزيمة مديره يوسف قانجو الذي استطاع قبل مغادرته لليابان في نهاية عام 2012، سحب القطع الفنية الثمينة، وخزنها في مناطق سرية خارج حلب، وعوضها بنسخ اصطناعية تعرضت بدورها للنهب والسرقة. وهذا عمل يجب الإشادة به”، يقول البوروفسور.

المزيد
مدينة تدمر السورية

المزيد

“العالم أجمع يتفرّج على المأساتيْن في سوريا”

تم نشر هذا المحتوى على في لقاء خاص أجراه معه محمد شريف، أعرب الباحث السوري هاني السويد، الذي يُعدّ حاليا شهادة دكتوراة في جامعة بازل شمال سويسرا، ويُعتبر أول أخصائي في علم آثار الحيوان (الذي يُعنى بدراسة بقايا الحيوانات وخاصة في المواقع الأثرية) في المنطقة العربية، عن ألمه الشديد مما يحصل في بلاده منذ ثلاث سنوات ونيف من تدمير منهجي…

طالع المزيد“العالم أجمع يتفرّج على المأساتيْن في سوريا”

ومن المواقع الأخرى التي تعرضت لنهب كبير منطقة “أفاميا او قلعة المضيق” بحيث يقول البروفسور لوتانسورر: “لقد أظهرت الصور الجوية الخاصة بمنطقة “أفاميا” تواجد العديد من مواقع التنقيب العشوائية. وهي ظاهرة ليست مقتصرة على سوريا بل لاحظناها ايضا في مصر اثناء الثورة في منطقة سقارة، وحتى في الأردن التي لم تمسها ثورات ما يُسمى بالربيع العربي، تمت ملاحظة تواجد حفر تنقيب عشوائية في عدة أماكن”.

ويعتقد البروفسور جون ماري لو تانسورر أن ما يحدث في سوريا “أتعس مما وقع في مناطق أخرى مثل ليبيا او مصر، نظرا لمستوى الكراهية الذي تعمق بين الطوائف، والذي أعادنا الى فترة الحروب البربرية، بما احتوى عليه من قتل وتحطيم لمدن بأكملها. وثانيا للتدمير الذي تعرضت له المعالم الأثرية والثقافية إما بدافع النهب والمتاجرة، او بسبب التدمير لأسباب إيديولوجية مثلما حدث لتماثيل آشورية تم تحطيمها لأسباب، لا اقول دينية، بل أيديولوجية متزمتة “. ويفسر ذلك “بكون النظام السوري ذي البنية المركزية جعل منه المالك لكل هذه المواقع الأثرية والتحف الفنية، وبالتالي فإن تحطيمها في نظر من يعتبرون أنفسهم ثوريين هو تحطيم لملك من أملاك النظام. وما يُؤسف له هو أن هذه المعالم ليست ملكا للدولة السورية وحدها بل هي جزء من الإرث الانساني العالمي”.

مؤتمر دولي.. لكن الجهود بقيت نظرية

خصص مؤتمر الدراسات المتعلقة بآثار منطقة الشرق الأوسط الذي نظمته عدة مؤسسات جامعية، تحت إشراف البروفسور جون ماري لوتانسورر ما بين 9 و 13 يونيو 2014، حيّزا وافرا من مناقشاته لأوضاع الاثار في سوريا أثناء هذه الحرب بحضور حوالي 700 مشارك ومن ضمنهم عدد هام من علماء الآثار السوريين.

ويقول البروفسور جون ماري لوتانسورر: “لقد كان الجميع واعين بخطورة الوضع. وقد حاول الأخصائيون التجند لتحريك الأمور في اتجاه حماية ما لا يزال ممكنا حمايته على أقل تقدير، أو إرسال بعثات، لا نقول إنسانية بل لحماية الإرث الانساني. لكن كل الجهود بقيت على المستوى النظري” على حد قوله. 

واستنادا إلى التقديرات التي قدّمتها منظمة اليونسكو او السلطات السورية حول حجم التدمير الذي تعرضت لها المعالم الأثرية في سوريا، يشير البروفسور لوتانسورر إلى أن “حوالي 50% من المعالم التي تم تحطيمها توجد في حلب. بينما لم تتعرض منطقة تدمر الأثرية لأضرار كبرى باستثناء بعض مناطق التنقيب العشوائية، فيما بقي متحف المدينة على حاله. أما قلعة الحصن، فقد تعرضت للقصف وليس الأمر بالخطير نظرا لكون الأطراف التي تضررت هي فقط الأسوار الخارجية. وقد تعرض متحف حماة والرقة للنهب.

والهاجس الذي يراود البروفسور لوتانسورر والكثير من أمثاله هو متى سيتوقف النزيف ويُسمح لهم بالعودة الى مزاولة نشاطهم. لكنه يرى أن “كل المؤشرات الحالية لا تنبئ بأن ذلك سيكون قريبا”. وما ينوي القيام به على وجه السرعة هو “تأمين نقل كل المحتويات الاثرية الى مناطق آمنة في دمشق لمواصلة دراستها”.

في الأثناء بدأ العالم السويسري في تهيئة الظروف للقيام بنشاط بديل في الأردن. إذ يقوم حاليا (بمساعدة بعثته السويسرية) بأعمال إعداد لإنجاز مشروع يشمل الأردن ولبنان والعراق وفلسطين وتركيا، يُكمل الأعمال التي تم الشروع فيها في سوريا، والتعرف بدقة على المسار الذي سلكه الإنسان البدائي عند مغادرته لإفريقيا مرورا بالعقبة والبحر الميت ونهر الأردن وبحيرة طبرية والصعود الى سوريا ومنطقة البقاع. وهو المشروع الذي تشرف عليه البعثة السويسرية التابعة لجامعة بازل، وسيتم الشروع فيه ابتداء من شهر يناير 2015 في المنطقة الشمالية من نهر الأردن.

وفي هذا الصدد، يقول البروفسور جون ماري لوتانسورر: “قد نخرج من هذه الأعمال التحضيرية بمشروع كبير نعرضه على الصندوق السويسري لدعم البحث العلمي للحصول على تمويل ضمن ميزانية 2017 – 2020”.

 مشكلة تُواجه الطلبة السوريين

توقف نشاطات بعثات التنقيب السويسرية بسبب الحرب الدائرة في سوريا كان له تأثير سلبي على وضع الطلبة السوريين الذين قدموا إلى سويسرا للتخصص في مجالات التنقيب عن الآثار. إذ يوجد في الوقت الحالي ثلاثة طلبة سوريين بجامعة بازل يحضرون لأعمال دكتوراه، من بينهم الطالب هاني السويد ( استمع لشهادته الصوتية)، بعضهم مر على تواجده في سويسرا حوالي ثماني سنوات.

المعضلة التي تواجه هؤلاء الطلبة السوريين اليوم تتمثل في أنهم استنفذوا المنح التي تم تخصيصها لدراستهم وبالتالي عليهم تقديم أطروحاتهم والعودة الى بلدهم. لكن البروفسور جون ماري لوتانسورر يقول “كيف يمكن إرجاع هؤلاء الطلبة الى سوريا في الظروف الحالية؟”، لذلك لجأ إلى تمديد فترة الأبحاث للسماح لهم بالبقاء في سويسرا. لكن هذه الوضعية جعلتهم يُواجهون مشكلة أخرى وهي مشكلة الحصول على منح دراسية. إذ يقول البروفسور لوتانسورر: “لم يعد ممكنا الحصول لهم على منح دراسية من جهة، ولا يمكنهم العمل من جهة أخرى نظرا لكون تراخيص الإقامة التي لديهم هي تراخيص طلبة ولا تسمح لهم بالعمل”.

لهذه الأسباب مجتمعة، يُوجه عالم الآثار نداءه إلى “السلطات السويسرية الفدرالية والمحلية لكي تحاول البحث عن حل مقبول لوضع هؤلاء الطلبة السوريين وعدم دفعهم الى طلب اللجوء”. وفي انتظار ذلك، يعتمد بشكل كبير على مساعدات يحصل عليها من عدد من المؤسسات الخاصة. 

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية