مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

فجر جديد لـ “الدستوروية” العربية؟

لبنانيون يتظاهرون في بيروت أمام مبنى البرلمان يوم 3 سبتمبر 2004 احتجاجا على التعديل الدستوري الذي منح الرئيس إميل لحود فترة ثالثة Keystone

هل بدأت المنطقة العربية (والعالم الإسلامي ككل) يقتربان من فجر عهد جديد تحل فيه مناخات ومؤسسات "الدستوروية" constitutionalism مكان الأنظمة التوتاليتارية والأنظمة الاستبدادية الراهنة؟

السؤال، للوهلة الأولى (والأخيرة أيضا)، قد يكون غريبا إلى حد كبير، ومفارقا للواقع إلى حد أكبر.

بالأمس فقط، ضربت الحكومتان السورية واللبنانية عرض الحائط بالدستور اللبناني عبر الضغوط والتهديدات والمساومات، وعدلتاه بما يتناسب مع رغبات فرد واحد، كما قال كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة.

وبالأمس أيضا، كان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي يقدم ترشيحه إلى “المجلس الدستوري” لخوض معركة انتخابات رئاسية معروفة نتائجها سلفا في 24 أكتوبر المقبل، فهي ستسفر، وبأغلبية كاسحة، عن التمديد لرئيس ممدد له أصلا في السلطة منذ عام 1987.

وقبل هذا وذاك، كانت الأنظمة العربية كلها تقريبا تنسف المفاهيم الدستورية من خلال التلاعب بنصوصها كما تشاء، أو من خلال تعديلها وفق ما تشتهيه سفن الحكام، وهذا ينطبق على أنظمة الحكم الجمهورية كما الملكية.

فالجمهوريون الحاكمون في سوريا عدّلوا الدستور (بواسطة البرلمان نفسه المناط به الحفاظ على الدستورالجمهوري) ليستطيع بشار الأسد وراثة أبيه حافظ الأسد في السلطة برغم صغر سنّه، وهذا دشـّن في المنطقة العربية “عهدا دستوريا” جديدا يُـطلق عليه الآن اسم غريب هو “الجمهوريات الوراثية”.

اللائحة طويلة

وتبذل الآن جهود مكثفة مماثلة في دول جمهورية عربية أخرى للسير على الدرب السوري. فالرئيس اليمني علي عبد الله صالح قطع أشواطا كبيرة في تحضير إبنه لـ “عرش الرئاسة”، وبات محسوما أن يرث سيف الإسلام القذافي أبيه معمر القذافي في سلطة الجمهورية الجماهيرية. ولا يزال الرئيس المصري حسني مبارك مُـصّرا، على ما يبدو، على تسليم التاج الجمهوري إلى ابنه جمال، برغم الضجة الكبرى التي يثيرها هذا الأمر في الداخل المصري والخارج الغربي.

وإذا ما أضفنا إلى هذه اللائحة الأوضاع الدستوروية المجهضة في تونس و(نسبيا) في الجزائر والسودان والعراق وموريتانيا، لاكتملت أمامنا صورة جمهوريات عربية لا علاقة لها لا من قريب ولا بعيد بالمبدأ الجمهوري الذي يقوم على حكم الشعب بالشعب ومن الشعب، وعلى نفي حق الحكام بتوارث السلطة، هذا ناهيك عن احترام باقي مفاهيم وقواعد القيم الدستورية الأخرى.

والملكيات العربية بدورها لا تتأخر كثيرا عن ركب الجمهوريات العربية في هذا المضمار:

– الملكيات الأكثر محافظة منها (المملكة السعودية) لا تزال ترفض بعناد كل أسس الفكرة الدستوروية، معتبرة أن “شرع الله”، أي الشريعة كما تفسّرها النخبة السياسية- الدينية الحاكمة، هي الدستور الوحيد الذي يمكن أن تقبل به، وهذا يترجم نفسه في رفض وجود أي سلطات تشريعية أو قضائية مستقلة إلى جانب السلطة التنفيذية، التي تسيطر عليها الأسرة الملكية. أما الإجراءات الإصلاحية التي تمت مؤخرا (مجلس الشورى المعيّن والانتخابات البلدية) فلم تكن سوى عمليات تجميل سريعة أجريت لإرضاء قوى خارجية أساسا.

– الملكيات الأقل محافظة (المغرب، والأردن، وسلطنة عمان) قطعت بعض الأشواط في مجال الإصلاحات الديموقراطية والليبرالية. لكن الإصلاحات الدستورية لا تزال في غرفة العناية الفائقة. فالسلطة الحقيقية لا تزال في يد الملك وأجهزة الأمن، والبرلمان، برغم تنوّعه الحزبي، لا يزال سلطة لا تملك ولا تحكم، والتوازن بين السلطات الثلاث وسلطة الرقابة باقيان على حالهما كسلطات اسمية أو افتراضية.

– الملكيات “المتكوّكة” (من كويت)، وهي قطر والبحرين، تحاول الآن أن تحذو حذو الكويت في الطريق نحو ملكيات شبه دستورية، يكون للبرلمان فيها وجود في مراقبة الحكومة. لكن حتى الكويت نفسها لا يزال أمامها طريق طويل لتقطعه قبل الوصول إلى الاختمار الدستوري، برغم الحيوية التي يُـبديها برلمانها الآن.

معنى الدستوروية

هذه هي حقيقة أوضاع الحركة الدستوروية في المنطقة، وكما يبدو واضحا، فهي أشبه بغرفة مظلمة محكمة الإغلاق، لا يبدو أن ثمة مجال لتسّرب بعض النور إليها. فمن أين إذن هذا التفاؤل بفجر دستوري جديد؟

أولا، وقفة أمام ثلاثة مسائل تمهيدية مهمة:

الأولى، تعريف معنى الدستورية والفرق بينها وبين الدستور.
والثانية، تجارب المنطقة العربية مع الدستورية.
والثالثة، الظروف المحلية والدولية، إضافة إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحيط بالمستقبل العربي الدستوري.

النقطة الأولى: الدستوروية ( Constitutionalism ) أضحت في العصور الحديثة مظهرا من مظاهر التطور السياسي في كل مكان. فالدول في معظمها تصطبغ أو توحي بأنها تصطبغ في أسسها وأشكالها وخطط الحكم فيها بشرعية تستمدها من دستور واضح المبادئ، يحتوي على طائفة من الأحكام المكتوبة. وهكذا، فإن كل نظام جديد أو انقلاب أو ثورة معاصرة، يحرص على أن يسن لنفسه دستورا مؤقتا أو نهائيا يعتمد عليه لتوطيد نفسه.

هذه الدستوروية العصرية هي، كما يقول الفقيه الدستوري الكبير الراحل إدمون رباط، دستورية وضعية، بمعنى أن وضعها يتم بعملية عقلية مقصودة، فيصدر على إثرها دستور خطي يلعب دور القانون الأساسي في حياة الدولة، وهذا النوع من الدستور يختلف عن الدستور التقليدي (القبلي أو الديني) الذي تسير على هديه الدولة، إذ ينطوي على إيضاح لأهم مبادئها الأساسية من حريات عامة، وحقوق شخصية، ومناهج قومية، وصلاحيات مقيـّدة، وأيضا على تنظيم لسلطاتها ووظائفها مع تحديد صلاتها فيما بينها وبين رعاياها.

وهذا الاتجاه ارتسمت معالمه في الدستور الأول من الدساتير الحديثة، وهو دستور الولايات المتحدة الأمريكية عام 1787. فقد تجلّـت فيه أغراضه السياسية الهادفة إلى ضمان استمرار الحكم الذاتي في كل من الدول الثلاث عشرة الأعضاء في الاتحاد، في حين أن الدساتير الفرنسية الأولي اهتمت (وبسبب جهاد الفرنسيين من أجل الحرية) قبل كل شيء، بتقييد سلطان الدولة، لاسيما سلطان الملكية في الدستور الأول عام 1791، وهذا يدل على أن ما من دستور يجري وضعه، إلا ويكون منطويا على التأثيرات التي تعرّض إليها، ومتجاوبا مع التيارات السياسية والاجتماعية التي دفعته إلى الصدور.

الدستوروية إذن بمعناها العلمي والوضعي، هي من صنع الغرب ومن مظاهر تطور دوره السياسي والفكري. ففي الغرب، سيما في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وبولندا، ظهرت الفكرة الدستورية الحديثة بفعل العوامل الاقتصادية والاجتماعية، وبتأثير النظريات الفلسفية والسياسية، فتشكّـلت فيها الأنظمة الدستورية على اختلاف أنواعها من برلمانية، ورئاسية، ونيابية، ومجلسية عقب ثورات وانقلابات متتابعة، إلى أن انتشرت الأصول الدستوروية ونظرياتها من هذه الدول الثلاث إلى كل أنحاء أوروبا أولا، ثم إلى بلدان العالم قاطبة، وهكذا لم يعد تقريبا الآن أي دولة في العالم خالية من دستور.

لا يعني هذا أن الدول خارج أوروبا كانت دولا غير خاضعة لأنظمة، هي بمثابة الدساتير المنظمة لحياتها السياسية. فهذه الدول كانت تنصاع، كما الدول الغربية قبل انبثاق الحركة الدستوروية فيها، إلى قواعد وتقاليد. فأحكام الشريعة في الدول الإسلامية، وسائر الأحكام في الدول الآسيوية، كانت تتولى وظيفة دستورية بالمعنى القانوني لهذه الكلمة.

بيد أن الدستوروية المعاصرة اختلفت اختلافا بيّنا عن هذه الأحكام الدستورية في مجالات عدة، منها منح الأولوية للقوانين الوضعية المدنية على الأحكام الدينية، وبالتالي، الفصل بين الفضاءين، السياسي والديني، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وخلق الأجهزة والمؤسسات التي تُـشرف على هذا الفصل المتوازن، وضمان الحقوق الإنسانية الأساسية لمواطني الدولة في مواجهة السلطة التنفيذية، بحكم قوة القانون، لا بفعل عدالة الحاكم. وأخيرا، تنظيم العلاقات بين الدولة بكل مؤسساتها والمجتمع بطبقاته، بما يعكس الواقع الحقيقي لموازين القوى بينهما.

وباختصار، الدستوروية في العصر الحديث عنت تعريفا وجود حكومة أو سلطة محدودة مقيّـدة بالقوانين، وعُـرضة للمساءلة والمحاسبة من قبل سلطات أخرى توازنها.

آراء الليبراليين العرب

ماذا الآن عن أراء أرباب عصر النهضة في المبادئ التي استندت إليها المجتمعات الغربية، خاصة الدستوروية منها؟

فصل الروحي عن المادّي لدى المسلمين، كان أصعب بكثير مما هو الحال عند المسيحيين الذين ميّـزوا باكرا بين “ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”، هذا في حين أن الإسلام كان متداخلا في الحياة العملية، لكنه لم يمنع الليبراليين من الدعوة إلى الفصل بين المجالين.

أهم الليبراليين العرب الذين أثاروا ضجّـة لدعوتهم، فصل الدين عن الدولة كان الشيخ الأزهري علي عبد الرازق( 1888- 1966 ) . ففي عام 1925، نشر كتابه “الإسلام ومبادئ الحكم) الذي أكّـد فيه أن الإسلام ينص على ضرورة فصل الدين عن الدولة، وهذا ما تسبّـب في محاكمته وعزله وطرده من المحاكم الشرعية.

دور الدين

كان الليبراليون العرب المسيحيون أكثر جُـرأة من زملائهم المسلمين، ليس فقط في مهاجمة رجال الدين، بل أيضا في إخضاع الدين نفسه لتفسيرات المكتشفات العلمية الحديثة. وبين هؤلاء، كان اللبنانيون سليمان البستاني، وفارس الشدياق، وأديب إسحق، وشبلي الشميل.

وأكّـد قاسم أمين (1865-1908)، أبرز دعاة تحرر المرأة في مصر، أن القرآن لا يتضمّـن حقائق علمية، ودعا إلى الفصل بين العلم والمنطق، وبين الدين والإيمان. بيد أن ليبراليا آخر هو لطفي السيد رفض المقولة بأن التعليم المدني يُـمكن في بعض الحالات أن يكون أكثر فعالية من الدّين في معالجة أمراض المجتمع وأصـرّ على إسناد كل التعليم الأخلاقي على الدين، بدون تحديد هوية هذا الدين.

الفرد

كانت أضخم معركة فكرية في تاريخ الإسلام تلك التي دارت حول القدرية والجبرية، وقد كان المعتزلة من أوائل التيارات الفلسفية التي شدّدت على حرية الفرد في الاختيار ومسؤوليته، وهذا نهج سار عليه أيضا كل الليبراليين العرب.

فالكواكبي يُـدين بشدة استسلام شعبه للقدر الأعمى، وقاسم أمين يكون علمانيا بالكامل حين أصـرّ على أن استقلال الإنسان هو أهم عامل أخلاقي مؤد إلى تطوره، وكذا السوري، محمد كرد علي الذي يُـشيد بتعلّـم المسلمين من الغرب قدرة كل فرد على كسب حقوقه وتغيير شروط حياته.

أسباب التعثر

في أوائل الثلاثينات، بدأت الحقبة الدستورية الليبرالية بالتراجع رويدا رويدا، وفقدت جاذبيتها السابقة. وقد قيل الكثير لتفسير هذه الظاهرة. لكن كان من الواضح أنه لا يمكن الاعتماد على تفسير واحد فقط، بل يتطلّـب الأمر رزمة من الأسباب التي تتطابق مع الظروف التاريخية التي مرّت بها الحقبة:

أ – أولى هذه الأسباب وأهمها، أن الحركة لم تستطع أن تتحقق في برنامج سياسي قابل للتطبيق، ولا استطاعت أن تكون السلطة في الدول العربية التي كانت نشطة فيها. صحيح أن حزب الوفد المصري نجح في حقبة من الزمن في تبنّـي بعض المقولات الدستورية، واعتبر نفسه الإبن الشرعي لها. لكن هذه النزعة التمثيلية كانت تتآكل مع الزمن بسبب ألاعيب السياسة وفسادها.

ب – كانت الحركة الليبرالية مضطرة أن تعمل في ظروف بالغة الصعوبة. فهي من جهة، منتمية في مُـعظمها إلى غرب النهضة الذي عرفته وتأثرت به، وهي من جهة أخرى، كانت تعيش تحت وطأة غرب آخر يأخذ شكل الاستعمار والسيطرة والقمع.

وبرغم أن الحركة الليبرالية السياسية نجحت في عهد زعيمها الوطني المصري المتّصلب سعد زغلول في الدمج بين شعاري الديموقراطية والاستقلال، إلا أن عدم نجاحها في انتزاع الاستقلال الكام ، جعلها تلعب في النهاية في ملعب السيطرة البريطانية على السلطة والقرار، وهذا أمر تكرّر في لبنان وسوريا والعراق، وإن كانت الحركة الوطنية في هذه الدول لم تصل إلى درجة النضج الليبرالي التي وصلتها في مصر (في البداية على الأقل).

ت – وثمة سبب ثالث أورده برنارد لويس: “كون الحركة الليبرالية مقتصرة على نخبة متغربنة صغيرة تنقصها قاعدة الدعم الشعبي في المجتمع ككل”. هذا الرأي قد يتضمّـن بعض الظلم على هذه الحركة. صحيح أن بعض أطرافها اندفع بحماسة إلى مواقف استعْـدت فيها الأكثرية الدينية عليه، لكن الصحيح أيضا أن الحركة الليبرالية العامة سيطرت على المناخات الفكرية والسياسية والثقافية لأكثر من 50 عاما. وبالطبع، لن تتمكّـن هذه الحركة من فعل ذلك، إذا ما كانت أقلية معزولة لا قاعدة حقيقية لها في المجتمع.

ج – وهناك تفسير رابع تقدم به الكاتب المصري محمد حسنين هيكل. فبرأيه أن “المشروع التنويري لعصر الخيديوي إسماعيل في القرن التاسع عشر في مصر، كان العصر الذي تبدت فيه بشائر التعليم وبشائر العمران والاهتمام بالفنون وبشائر إنشاء صحافة عربية.

وقد انتهى هذا المشروع التنويري بالغزو البريطاني سنة 1882. كما أن التجربة شبه الليبرالية التي أعقبت ثورة 1919 في مصر، وبصرف النظر عن الظروف والملابسات التي أحاطت بها، فإن هذه التجربة بدأ ضربها بكتيبة دبابات بريطانية أحاطت بقصر عابدين، وأرغمت ملك مصر يوم 4 فبراير 1942 على تكليف رئيس وزراء معيّـن بتشكيل الحكومة. وهكذا، فإن التكليف جاء بإملاء دبابة.

على أي حال، هذه الحقبة الدستورية – الليبرالية إنتهت في مطلع خمسينيات القرن العشرين، حين وصلت وبرزت على الساحة تيارات إيديولوجية قومية عربية وإسلامية أدارت ظهرها للأولوية الدستورية والليبرالية، ويممـّت وجهها نحو أولوية التنمية الاقتصادية وشعارات التحرير والتوحيد القوميين.

الداخل والخارج

نأتي الآن إلى المسألة الثالثة: العوامل الداخلية والخارجية التي تحيط بالمستقبل العربي الدستوروي. في دراسة مهمة لشيرين هانتر، مديرة برنامج الإسلام في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ثمة تعريفات مُـحددة لهذه العوامل التي كانت ولا تزال تعيق تقدم الدستوروية والحداثة في العالمين، العربي والاسلامي، أهمها:

– الأنظمة الاقتصادية:

السمة الأساسية في غالبية الدول الإسلامية، هو الدور الكاسح الذي تقوم به الدولة، والضعف الكاسح للقطاع الخاص. وبالتالي، فسيطرة الدولة على الحياة الاقتصادية للمجتمع يدفع ميزان القوة لصالح سلطة الدولة ضد المجتمع. والحصيلة: دول قوية ومجتمعات ضعيفة، وهذا ما يمكّـن الأولى من رفض المطالب بإصلاحات دستورية تتضمن المشاركة السياسية والمحاسبة والمساءلة.

– القوة الزائدة للمؤسسات العسكرية:

معظم الدول العربية والإسلامية، مثلها مثل دول العالم الثالث الأخرى، تعيش تحت سُـلطة المؤسسات العسكرية التي تُـمارس نفوذا كبيرا في المجالين السياسي والاقتصادي، ويمارَس هذا النفوذ، إما مباشرة من خلال وجود ضابط أو ضابط سابق في السلطة (مصر، تونس، باكستان)، أو من وراء الكواليس (تركيا، الجزائر). وأسباب صعود قوة العسكر عديدة، لكن أهمها دورهم في تحقيق الاستقلال، وضعف التشكيلات الاجتماعية الأخرى، وقد أدى تحالف العسكر مع أجهزة الاستخبارات واللاعبين الاقتصاديين المحليين غير المستقلين عن جهاز الدولة إلى توطيد اللاتوازن الراهن في علاقات الدولة والمجتمع، وبالتالي، إلى ضعف النزعة الدستوروية.

– العوامل الاجتماعية والاقتصادية:

الانتشار الواسع للفقر، والأميـّة، والظروف الصحية السيئة، والفروقات الكبيرة في الدخل، واللامساواة بين الجنسين، يعيق إلى حد كبير التطور الدستوري والديموقراطي في كل الدول الإسلامية، باستثناء مالي وبنغلادش. وهذه الظروف تُـعتبر تربة خصبة لنشوء الأفكار المتطرفة الليبرالية، ولتراجع مفاهيم التعددية والدستورية لصالح تعزيز سطوة الدولة.

– العوامل الخارجية:

ساهم الغرب في تأخر الدستوروية العربية والإسلامية بطُـرُق عدة: إقامة حدود تعسُّـفية بين الدول وقسمة المجتمعات؛ التشويهات الاقتصادية خلال الحقبة الاستعمارية، وربط تطور الدول بحاجات المركز الاستعماري؛ تشويه الثورة الفكرية والدستوروية في هذه المجتمعات؛ التأثير السلبي للحرب الباردة على هذه الثورة الأخيرة؛ وأخيرا، دعم الغرب الدائم للدول الاستبدادية في المنطقة بسبب مصالحه النفطية والاقتصادية والإسرائيلية.

الأولوية للإصلاحات الدستورية

كل هذه العوامل أدّت، ولا تزال، إلى إعاقة الازدهار الدستوروي في العالمين العربي والإسلامي. فكيف يمكن، والحال على هذا النحو، التفاؤل بفجر دستوروي جديد؟

ثمة مصدران أساسيان يطلقان الآن إشارات تفاؤل، برغم كل البحر المتلاطم للانفجارات والأزمات الراهنة في المنطقة:

الأول داخلي، ويتمثّل في بدء إنحسار الأيديولوجيات القومية والإسلامية الشمولية التي رفضت منذ منتصف القرن العشرين التوجهات الدستوروية- الليبرالية لصالح أفكار نخبوية- توتاليتارية، وعودة الروح إلى نزعات الديموقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان.

وبرغم أن هذا لم يُـترجم نفسه بعد في شكل حركات سياسية قوية، إلا أن الخطاب السائد الآن في كل العالمين، العربي والإسلامي، بدأ يبعث الروح في المرحلة الليبرالية – الدستورية العربية الأولى في القرنين الماضيين.

والثاني خارجي، ويتجسّـد في قيام الولايات المتحدة أساسا، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، بربط أمنها القومي بمسألة الإصلاحات الدستورية والسياسية والاقتصادية في هذين العالمين. لكن كيف؟ هنا ثمة رأيان متشابهان تقريبا، يُـتوقّـع أن يسيطرا على جدول أعمال أصحاب القرار الأميركيين والغربيين.

الأول، هو لناثان براون، بروفسور العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن الذي يركّـز على الآتي:

1- قامت الأنظمة العربية بسرقة كل ميكانيزمات المحاسبة والمساءلة من الدساتير، مما شلّ تماما فعاليتها ووضعها في خدمة الدولة بدل المجتمع. وبالتالي، يجب الضغط من أجل إعادة هذه الميكانيزمات.

2- قد يعني هذا إستيلاد الدستوروية الديموقراطية في العالم العربي من قلب البني والوثائق الدستورية الحالية نفسها، وتشجيع المؤسسات البرلمانية والقضائية الراهنة على التمرد على حكوماتها، كما يحدث الآن في برلمانات الكويت وفلسطين، وفي المحكمة الدستورية العليا في مصر.

3- الاعتماد على التجارب الدستورية العربية والإسلامية في القرنين الماضيين، وأيضا على تراث الأحكام الشرعية الإسلامية لبلورة نهضة دستوروية جديدة.

4- عدم الخلط بين الديموقراطية أو الليبرالية، وبين الدستوروية.

فالديموقراطية تتضمّـن السماح للمواطنين بممارسة السلطة السياسية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فيما الدستوروية تتضمّـن الترتيبات الأيديولوجية والمؤسسية التي تعزز الحد من استبداد الحكومة أو الدولة. المحاسبة الديموقراطية هي للشعب، والمحاسبة الدستورية هي القانون الأساسي (الدستور).

ويلخّـص البروفسور براون وجهة نظره بالكلمات المعبّرة الآتية: “الشرق الأوسط غني جدا بالدساتير، لكنه فقير جدا بالدستوروية، ويجب العمل من الآن فصاعدا على وضع الدساتير العربية في خدمة الدستورية العربية”.

هذا الرأي، الذي يُـعطي الأولوية في الإصلاحات للدستورية على الديموقراطية يحظى بموافقة تامّـة من أمريكي بارز آخر هو فريد زكريا، مدير تحرير دورية “فورين أفيرز”.

يكتب: “الليببرالية الدستورية تختلف نظريا وتاريخيا عن الديموقراطية. فهي لا تتعلق بالإجراءات لاختيار حكومة، بل تنصب حول أهداف هذه الحكومة، وتسعى إلى حماية استقلالية الفرد وكرامته ضد القهر مهما كان مصدره (الدولة، أو الكنيسة أو المجتمع)، وهي تجادل بأن البشر لهم حقوق طبيعية لا نقاش حولها، وبأن الحكومات يجب أن تقبل بقانون أساسي (دستور) يحد من سلطتها، ويضمن هذه الحقوق”.

وتبعا لذلك، يطالب زكريا الغرب بالدفع في إتجاه تحقيق رزمة حقوق دستورية للمواطنين العرب، ومنحها الأولوية على شعار الديموقراطية. فالليبرالية الدستورية، برأيه، تؤدّي حتما إلى الديموقراطية، لكن الديموقراطية لا تؤدّي بالضرورة إلى الليبرالية الدستورية، إذ يمكن أن تكون هناك ديموقراطية لا ليبرالية، وبالتالي، لا دستوروية.

هل هذه التفاؤلات في محلها؟ أجل، وإن كان هذا سيتم على مدى غير قصير وعلى مراحل، تبعا لظروف كل بلد عربي. فعلى الأقل، العوامل الدولية والخارجية التي لعبت دورا كبيرا في ضرب براعم التجارب الدستورية والتحديثية العربية والإسلامية السابقة باتت ترى مصالحها الآن في دعم أو على الأقل عدم اعتراض طريق التفتح السياسي الجديد في المنطقة.

وفي حال تبلورت نُـخب محلية سياسية وفكرية تفيد من هذه الظروف، فإن الخيوط الأولى لفجر العهد الدستوري الجديد ستظهر للعيان بالفعل ، وستبدد أشعتها كل الهرطقيات الدستورية الراهنة التي تقوم بها الجمهوريات الوراثية العربية، والملكيات الاوتوقراطية العربية على حد سواء.

سعد محيو – بيروت

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية